|
في مثل تلك الأفلام دائما ما يكون المدخل لحكاية الفيلم من خلال أسرة أمريكية في زيارة سياحية أو زيارة عمل لتلك المدينة أحدث أفلام المخرج الامريكي الشهير وودي آلان "إلي روما مع حبي TO ROME WITH LOVE، تم عرضه في شهر يوليو الماضي في الصالات الأمريكية، وبعض العواصم الاوروبية، ويبدو أنه لن يعرض بالقاهرة قبل فترة طويلة وربما لا يعرض بالمرة، لأن شركات التوزيع لدينا غير معنية بعرض الأفلام ذات القيمة الفنية، بقدر حرصها علي عرض الأفلام الأمريكية ذات الصبغة التجارية البحتة. وكان "وودي آلان" قد اعتاد في أفلامه الأخيرة أن يقدم قصيدة غزل في إحدي العواصم الأوروبية الشهيرة، ذات التاريخ الثقافي والمعماري المتميز، رغم انحيازه السابق لمدينة نيويورك، وحي مانهاتن بصفة خاصة، تلك المدينة التي دارت فيها أحداث الجزء الاعظم من أفلامه، وهو يعتقد وأظنه صائب في اعتقاده، أن لكل مدينة صفاتها الخاصة، وسمات تفردها وتميزها، وإنها تطبع تلك الصفات علي من يعيشون بها، فتصبح لهم عادات وتقاليد وسمات مستمدة من معيشتهم فيها وانتمائهم إليها! وربما يكون قد بدأ جولته في العواصم الاوروبية بلندن مدينة الضباب، وبروده المشاعر، رغم شاي الخامسة! الذي يحرص عليه الإنجليز، ويعدونه عادة متوارثة يجب الحفاظ عليها! وذلك في فيلم Mach point ، ثم كان فيلمه الجميل" فيكي، كريستينا بارشيلونة"الذي لعبت بطولته "سكارت جوهانسون"، مع خافييه بارديم، وبينلوب كروز، طبعا لاحظت أن اتنين من أبطال الفيلم الذين يلعبون أدواراً رئيسية يحملون الجنسية الإسبانية. أما الاحداث فتدور معظمها في برشلونة، ويحمل الفيلم في طياته احتفاء بالمدينة، وفنونها وتاريخها.. أما فيلمه التالي "منتصف الليل في باريس" فلم يكن مجرد رحلة سياحية تستعرض روعة وجمال المدينة وحسب، بل رحلة في تاريخها ايضا، من خلال فكرة خيالية عبقرية، عن تجربة مثيرة يقع فيها بطل الفيلم "أوين ويلسون"عندما تعود به عجلة الزمن للماضي، والي سنوات العشرينات بشكل خاص، عندما كانت باريس، بؤرة جذب يحج إليها، اصحاب المواهب الفذة في مجال الآداب والفنون، ويلتقي الكاتب الامريكي إرنست هيمونجواي، والفنان التشكيلي بابلو بيكاسو، ومنافسه سلفادور دالي، وفي ليال اخري يلتقي ايضا فنان السينما الفرنسية " لوي بونويل"، وتتزاحم الشخصيات التي أثرت في تاريخ البشرية، في ليالي باريس، حيث يحضر بطل الفيلم، اللحظات الاولي لمخاض أكثر من فكرة أو مشروع فني ناجح، وكان فيلم "منتصف ليل باريس" من اكثر أفلام وودي آلان جنوحا وجنونا وجمالا أيضا، وقد يتصور المرء احيانا أن لجنون الفن سقفا، لا يتجاوزه، خاصة عندما تتقدم به سنوات العمر، ويصبح علي مشارف الثمانين، لكن الحقيقة أن" وودي آلان" يفاجئنا، مع كل فيلم جديد، بأن جنوحه وجنونه الفني ليس له سقف! ولاحدود وهو يحلق بأجنحة خياله الي عالم وافاق يصعب اللحاق به عندها، أو التنبؤ بالمدي الذي يمكن أن تصل اليه! الحب والحضارة هذه المرة يقع اختيار"وودي آلان" علي مدينة روما، ذات الحضارة القديمة التي تدل عليها بقايا آثارها، وميدان" الكولسيوم" الشهير الذي كانت تقام فيه حفلات القتال الدامي بين العبيد المناكيد، بعضهم بعضاً، أو بينهم وبين الوحوش الضارية، كي يجد الأمبراطور الروماني ما يسلي ايامه، ويلهي شعبه، عن المطالبة بالديمقراطية، أو بحياة أفضل، لهؤلاء الذين هدهم وهددهم الفقر وتسلط السادة وقسوتهم! سقطت الامبراطورية الرومانية منذ ما يزيد علي الألف عام، وبقيت آثارها المعمارية تدل عليها، ولكن تاريخ روما لم يتوقف عند هذا الحد، فقد عادت للانتعاش في عصر النهضة، وظهر بها عباقرة الفن التشكيلي، والنحت والمعمار والعلوم، مثل دافنشي، ومايكل انجلو، وآخرين. وعرفت روما فنون الاوبرا وتميزت بها، واصبحت الينبوع لهذا الفن الخاص، الذي انتقل منها الي باقي عواصم أوروبا وبقي لها السبق والتميز! أما في العصر الحديث، خاصة بعد اختراع آلة السينما مع نهاية القرن التاسع عشر، فقد كانت روما من اوائل المدن التي عرفت فن السينما، واحتضنته، وقد ظهر بها أهم مخرجي العالم في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، واصبح هناك مدرسة وتيار سينمائي جديد انطلق من ستوديوهات روما عرف بالمدرسة الواقعية، التي اصبح لها رواد مثل فيتوريو دي سيكا، وفيسكونتي، وفريدريكو فلليني، وبازولليني، القت بظلالها علي سينما العالم، بل ظهر في ايطاليا اهم نجوم ونجمات الاربعينات والخمسينات ومنهم صوفيا لورين، كلوديا كاريدنالي، جينا لولو بريجيدا، فيتوريو جاسمان، مارشيللو ما ستروياني وعشرات غيرهم! خلطة سرية أما كيف تعامل المخرج وودي آلان مع كل تلك الخلطة الجهنمية من الثقافة والفنون والآداب والمعمار الذي يجعل من مدينة روما، حالة خاصة ومميزة بين العواصم الاوروبية، فهذا ما يمكن أن تتابعه في فيلم" الي روما مع حبي " الذي يشارك في بطولته وودي آلان نفسه، بعد أن غاب كممثل خمس سنوات كاملة ولم يظهر ولاحتي في أفلامه، ويشاركه البطولة آندي جارسيا، وبينلوب كروز، جودي ديفيز، ونجم الكوميديا الايطالي روبرتو بينيني، وجيس ايزنبيرج، ومطرب الاوبرا الشهير" فابيو أرميلياتو". دائما ما يكون المدخل لحكاية الفيلم من خلال اسرة امريكية، في زيارة سياحية أو زيارة عمل لتلك المدينة، ومن خلال تشابك العلاقات بين افراد تلك الاسرة، وبين ابناء المدينة تتعقد الاحداث، وكأننا نري أو نشاهد تلك المدينة الاوروبية بعيون امريكية، يملؤها الشغف والفضول، وإذا كانت امريكا تعتبر الآن القوة الأولي في العالم و محركة اقتصاده وهو ما يهيأها لإدارة سياسته، فإن أوروبا تمتلك الحضارة والتاريخ، وهو الشيء الذي لاتستطيع أن تحصل عليه بكنوز الدنيا، وتبدا اللقطات الأولي من فيلم "إلي روما مع حبي "بمشهد افتتاحي يبدأ من ساحة الجمهورية أو ساحة الشعب تلك التي كانت مسرحا لكثير من أحداث الأفلام السينمائية، وتلتقط الكاميرا عسكري المرور الذي يقف في منتصف الساحة، ويتابع كل ما يدور في المدينة ويمر عليه، ليخبرنا انه من موقعه هذا يدري تماما، ما يحدث في قلب المدينة. والطريف أن احداث الفيلم تنتهي عنده ايضا، ولكن وهو واقف في احدي الأمسيات في بالكون شقته التي تطل علي الساحة، رغم انه لم يكن طرفا في أحداث الفيلم، الذي يتسعرض أربعة قصص لا علاقة لأي منها بتفاصيل القصة وشخوص القصص الاخري، ولكن اهمها علي الاطلاق واكثرها طرافة، الشخصية التي يلعبها" وودي آلان" نفسه، فهو مدير متقاعد لاحد مسارح الاوبرا في نيويورك، وينتمي الي عالم الاثرياء، تصاحبه زوجته المتخصصة في الطب النفسي، في زيارة سريعة الي روما، كي يحضرا عرس ابنتهما، التي قررت أن تتزوج شابا إيطاليا، اسمه مايكل انجلو، ويبدو هنا أن الاب الامريكي ليس مرتاحاً لتلك الزيجة، فقد استقر في ذهنه أن الشاب ينتمي الي اسرة شيوعية المذهب، رغم أن زوجته حاولت مراراً أن تؤكد له أن الشيوعيه قد سقطت في العالم ولا مجال هنا لمخاوفه أو هواجسه، ويحدث عندما يلتقي الأب الأمريكي، والد عريس ابنته الذي يعمل في مجال تجهيز الجنازات، أن يكتشف أن الرجل يمتلك صوتا أوبرالياً بديعا، وكان قد استمع اليه وهو يغني في الحمام تحت زخرات "الدوش"، وتحول الأمر بسرعة الي رغبة لاستثمار صوت الرجل، وتقديمه في مسرحية اوبرالية من اخراجه، ولكن الاب الايطالي يرفض هذا العرض هو واسرته، لانه لم يفكر يوماً في احتراف الغناء، وكل الامر انه يحب أن يغني لنفسه مثل كل الناس عندما يقفون تحت الدوش، ولكن وودي آلان، يزداد اصرارا خاصة أنه بخبرته يدرك أن صوت الرجل كنزا لابد من استغلاله. ولكن الرجل يخذله في اول اختبار يقام له، امام لجنة من المتخصصين، ويدرك وودي آلان أن عليه أن يهيأ للرجل الذي يمكن أن يغني فيه براحته وينطلق، فيصنع له دشاً متحركا، يضعه علي المسرح، ويدعوه للغناء، وهنا تنطق حنجرة الاب الايطالي ويبهر مستمعيه! بالمناسبة لعب الدور مغني الاوبرا الشهير "فابيو ارميليانو"، أما القصة الثانية فهي لمواطن ايطالي بسيط " ألبرتو بينيني" يعيش حياة مملة، سخيفة، أنه من آحاد الناس، لا قيمة له، ولا يلتفت له أحد، وفجأة يستيقظ يوما من نومه، يكتشف أن منزله محاصر بعشرات المصورين ورجال الصحافة، ويصبح مادة لاهتمام الناس دون أن يفعل شيئا أو يقدم شيئا له معني، في اشارة واضحة لدور" الباباراتزي" أو صحافة الاثارة، في افتعال القضايا بحثا عن الاثارة، وكان تعبير الباباراتزي قد ظهر للمرة الاولي في فيلم المخرج الايطالي الشهير فريدريكو فلليني، دولشي فيتا، ثم فيلمه الرائع 8 ونص ! المهم يصبح هذا المواطن الايطالي البسيط حديث وسائل الاعلام، وفجأة تنسحب عنه الاضواء وكاميرات الصحافة بحثا عن ضحية اخري، ويجد الرجل نفسه وقد أدمن الشهرة، فيسعي لجذب الانتباه عن طريق خلع ملابسه في الشارع. ولكن هذا لم يكن كافيا لاثارة اهتمام أحد، أما القصة الثالثة فهي لمهندس معماري امريكي شاب، يزور مع خطيبته مدينة روما، لدراسة طابعها المعماري، وهناك يلتقي طيف مهندس معماري شهير رحل عن الدنيا من سنوات، ويصبح هذا الطيف رفيقه في رحلته، بل يتدخل في علاقته بصديقته، وصديقتها الممثلة الناشئة التي تترك نزواتها تحركها وفق ما تهوي، وتدور القصة الثالثة حول زوج شاب يستعد لقضاء ليلته الأولي مع عروسه، ولكن تقتحم حياته امرأة عاهرة، تطرق باب غرفته في الفندق عن طريق الخطأ، ويتورط معها ويضطر أن يقدمها لاسرته بصفتها عروسه، اما عروسه الحقيقية فهي تتوه في شوارع روما، وينتهي بها الحال في غرفة بالفندق مع ممثل شهير قابلته صدفة وهو يقوم بتصوير مشاهد أحد أفلامه في ميدان الشعب بروما! العلاقات في الفيلم تتشابك وتتأزم، وتتصاعد، وتبدو أحيانا بلامنطق، وكأنها صنعت فقط من أجل إثارة الدهشة والضحك، ولكن لو تأملتها جيداً، فسوف تكتشف أن لكل منها علاقه ما، بمدينة روما، تاريخها أو حاضرها أو أحد فنونها، وسوف تدرك أيضا أن تلك الشخصيات، لا يمكن أن تصادفها أو تلتقي معها سوي في مدينة واحدة هي روما، فطبيعة المدن هي التي تحدد سلوك سكانها وزوارها أيضاً، وهذا أحد اروع الرسائل التي يطرحا فيلم وودي آلان "إلي روما مع حبي"!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصدر / جريدة القاهرة ـ ديسمبر 2012 بقلم : ماجدة خير |
|
|
. |
ساحة النقاش