نتفق جميعا على أن الفن وجهة نظر ، والنقد أيضا وجهة نظر ، ولذا تختلف نتائج لجان التحكيم فى أى مهرجان عن غيرها من نتائج تحكيم لجان أخرى داخل المهرجان نفسه ، وها نحن نقترب من نهاية الدورة 36 من مهرجان القاهرة الدولى للسينما ، متوقعين أن يفوز هذا الفيلم أو ذاك عبر لجنة التحكيم الرسمية ، أو لجان وتجمعات النقاد ، أو الجمهور ذاته ، دون أن يصادر أيا منا على حق كل لجنة أو كل ناقد أو كل مشاهد فى أن يمنح هذا الفيلم فضيلة التميز عن غيره ن فلكل منا معايير حكمه على السينما والفن والمجتمع والحياة .

        غير أن اختلاف وجهات النظر هذه ، التاريخية بين المبدع والناقد ، أو الجمالية بين لجان التحكيم والنقاد والجمهور ، لا يلغي أبدا الاتفاق المبدئي على الفيلم المتميز ، الذى يحمل سمات تميزه الواضحة ، والذى يفجر فى وجدان المتلقى بفضل جمالياته ورقيه الفكرى حماسا للحياة ، وفى العقل طاقة نور تشع وتدفع هذه الحياة للتقدم .

        وفيلمنا اليوم ، الذى افتتح به مهرجان القاهرة قسم المسابقة الرسمية الدولية ، والمرشح أيضا من وزارة الثقافة الفلسطينية للتسابق على أفضل فيلم ناطق بلغة غير إنجليزية فى مسابقة الأوسكار القادمة ، والذى يعد عرضه هنا هو الأول فى الوطن العربى وأفريقيا ، بعيدا عن عرضه داخل وطنه المحتل فى مدينة رام الله منذ شهرين ، وهو الفيلم الفلسطينى (عيون الحرامية) ثانى أفلام المخرجة "نجوى النجار" تأليفا وإخراجا ، بعد فيلمها الأول (المر والرمان) 2008 ، الذى عرض بمهرجان دبى عام ذاك . وقد يلتبس العنوان قبيل مشاهدة الفيلم أمامنا نحن من نعيش خارج فلسطين ، ومن غير المتابعين جيدا لدقائق الحياة هناك ، فالعيون تعنى تلك التى نحملها فى وجوهنا التى نرى بها الحياة ، فيمهد العنوان الجمهور لرؤية فيلم (فلسطينى) سيتحدث عن عيون اللصوص المحيطين  به الإنسان الفلسطيني المغتصبة أرضه ، أو الواقفين على الحواجز المعرقلة والمهينة له يوميا ، وقد يوحي حين نشاهد الفيلم لعيون المياه التى يسرقها اللصوص لبيعها للعدو المغتصب ، وقد تستدعى من خارج الفيلم لدى الفلسطينى نفسه والمتابع للحدث الواقعي الذى اعتمد عليه الفيلم وعرف وقتها باسم (عملية عيون الحرامية) ، حيث قام الشاب "ثائر حماد" باستهداف حاجز عسكرى إسرائيلي فى (واد عيون الحرامية) بشمال مدينة رام الله عام 2002 . 

غير أن هذا المعنى أو ذاك الذى يوحى به العنوان ، كعتبة أولى من عتبات تلقى العمل الفنى ، لا يمكن الجزم به ألا مع مشاهدة الفيلم والوصول لخاتمته ، وهو ما سوف نكتشفه معا ونحن نقرأ فيلما رفيع المستوى فكرا وصياغة جمالية ، يأخذك فى رحلة تأمل للحياة التى نتخيل وجودها على الأرض المغتصبة ، أو التى تشكل منها وسائل الإعلام وأخبارها المصورة صورة ذهنية تنمط هذه الحياة فى صور قتال يومى بين صاحب الأرض ومغتصبها ، أو تزيفها بتسييد صورة الحياة الحمساوية المليئة بسيارات تجوب الشوارع تحمل رجالا أشاوس يحملون الأسلحة ويصرخون فى وجوهنا ، على الحياة الإنسانية البسيطة التى يعيشها المواطن الفلسطينى المظلوم والراغب فى الحياة بكرامة على أرضه ، فى تداخلها الراقى بين الحب والرغبة ومشاهدة مباريات الكره على المقاهي ودندنة النسوة بأغاني مصرية وجزائرية عاطفية وفرحة ، والإجبار على القتل والسرقة والدم المسال وهجمات الجنود وتلصصهم على شعب أهانه الاحتلال ، ومع ذلك مصر على الحياة الكريمة .

الباحث عن الابنة المفقودة

        ليس الفيلم ، أى فيلم ، مجرد فكرة أو قضية يعالجها ، مهما كان سمو هذه الفكرة ، أو صدق هذه القضية ، بل الفيلم هو السيناريو المحكم ، والإخراج المتميز ، والتمثيل المتقن ، والصورة الراقية المعبرة عن الفكرة السامية ، هو فى المجمل كل ما نراه على الشاشة ويثير فينا البهجة والمتعة والوعى الصحيح ، وهذا ما نجده فى فيلمنا اليوم ، الذى تصوغه مخرجته الشابة ببراعة شديدة ، وتؤسسه على بناء درامى ينطلق من قبل التترات (العناوين) ليمنحنا فرصة إدراك السنوات العشر من الزمن التى ستنقضى بين المفتتح وبداية الحدث الدرامي ، والدائر بدوره حول التيمة الشهيرة (عودة الغائب) بعد سنوات طوال عن المكان ، ليجد العالم قد تغير ، والزمن ترك بصماته على ما كان يعرفه ، والمدينة تبدلت ، والحياة أبقت على من كان يعرفه أو اختطفت البعض منه لحيوات أخرى ، أو لدهليز الموت . فها نحن نلتقى قبل التترات بالشاب الفلسطيني "طارق خضر" مواطن يعيش بكرامته فى مدينة فى مدينة سبسطية بمحافظة نابلس ، يقدم بمفرده خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية 2002 والاجتياح المستمر للجيش الإسرائيلي للبلاد ،  على فعل حاد يقتنص فيه مجموعة من الجنود الإسرائيليين ، يصاب فى صدره بطلق نارى لكنه يستطيع الهرب والاختفاء بأحد الأديرة القديمة ، يقوم الرهبان والراهبات بتضميد جراحه لعدة أيام يغيب فيها عن الوعى ، وما أن يفيق من الغيبوبة حتي يقتحم الجنود الدير ، فتساعده الراهبات على الهرب من نفق سرى ، لكن يقبض عليه على الطريق ، فيقاد للسجن ، ويحبس لعشر سنوات ، يخرج بعدها ليجد زوجته "هدى" توفيت ، وأبنته "نور" لا يعرف مكانها ، بعد أن وضعت بأحد دور الأيتام عقب وفاة أمها ، غير أن إغلاق الدار يؤدى لتشتيت نزلائه من البنات والبنين ، وتتوه الابنة فى زحام الحياة المضطربة على أرض فلسطين .

        يقبل "طارق" موت زوجته ، ويرتمى باكيا على قبرها ، فعرف به مستقرها ، لكنه يصر على البحث عن ابنته الحية ، فالموت يمكن تقبله ، ولكن الحياة لا يقبل أن يتخاذل المرء أمامها ، فيهرع للبحث عنها ، وهو يفتش لنفسه عن عمل ، فمن اجل الحياة ، يوافق على أن يكون عاملا فى إصلاح مواسير المياه ، رغم أنه كان يدرس بكلية الهندسة قبيل سجنه ، ويلتقى بالمرأة "ليلى" التى تعمل بمحل تفصيل فساتين العرائس ، بعد أن ترملت لغياب زوجها ضمن الغائبين أو المتغيبين قسرا ، ومعها أبنتها "ملك" حادة الطبع ، قوية الشكيمة ، ترفض أن تتزوج أمها من المدعو "عادل" صاحب المزرعة الذى يعمل لديه "طارق" ، وتقوم علاقة حميمية بين "طارق" والطفلة "ملك" ، فهو يرى فيها ابنته ذات السنوات العشر المختفية ، أو يتمنى أن تكون ، ويحرص الفيلم على عدم تأكيد حدسه أو نفيه ، كى تظل العلاقة راقية بين أب مكلوم وابنة متعلقة بابيها الغائب ، هو باحث عن أبنة مفتقدة ، وهى باحثة عن أبيها الغائب ، دون قبول لأى بديل عنه .

سرقة مياه الحياة

يندفع "طارق" فى علاقته الأبوية الحنون مع "ملك" ، فيعلمها لعبة البلياردو مقابل ألا تهرب من المدرسة بنزعتها المتمردة ، ويسير الخطان فى تواز دقيق : تتوطد علاقته بالطفلة المتمردة ، ويكتشف فى نفس الوقت أن الرجل الذى يعمل لديه ، والمقدم على الزواج من أم الطفلة ، يبيع مياه الفلسطينيين سرا ، وعبر مواسير بأرضه ، للمستوطنين الفلسطينيين ، وقبيل مواجهته بفعلته يدبر له "عادل" موقفا يدفعه فيه للبحث عن الطفلة "ملك" بمزرعته ، بدعوة اختفائها ، فتنهال عليه ضربات البلطجية ، لكنه يصر على المواجهة ، فيقتحم على "عادل" حفل عرسه بعقد قرانه على الأم ، ويفشل الزيجة ، ويفضح الرجل وسط جيرانه وأصدقائه ، ويهرع فى مشهد رائع ليوقف تدفق مياه الفلسطينيين للمستوطنين الإسرائيليين ، وتندفع المياه بقوة نحو السماء لتغطى الأرض الفلسطينية الفرحة بالحياة ، والمحتضنة لعشق هذا المواطن البسيط لأسرته وبيارته ودفء الزوجة والابنة ، دون أن ينسى ، أو ينسى الفيلم الذى يعيدنا فى فلاش بك لمشهد فنص "طارق" للجنود الإسرائليين على الحاجز المصطنع على الأرض الفلسطينية ، فالحياة مستمرة والكفاح من أجلها لن ينتهي .

فيلم راقى الفكر ، رفيع المستوى ، متقن البناء ، يأخذك بحنو نحو الحياة الإنسانية التى يود الفلسطينى أن يعيشها ، ويقاوم كل من يخضبها بالدماء دون زعيق أو فضائيات كاذبة ، تميز فيه "خالد أبو النجا" فى دور "طارق خضر" بأسلوب أداء جسدى وصوتى استطاع به أن يجسد شخصية الفلسطينى المجبر على حمل السلاح ضد من ينتزع الحياة ودفء الأسرة منها ، وقدمت الممثلة وعازفة الجيتار والمطربة الجزائرية الأصل الفرنسية الإقامة بعد هيمنة الفكر السلفى على الجزائر فى السنوات العشر الأخيرة "سعاد ماسى" دور المرأة التى غاب عنها زوجها ، وتضطر تحت ضغط الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، وحاجتها لتعليم ابنها وابنتها المتمردة للزواج بمن لا تحب ، وكانت تعبيرات وجهها الحزين والمشبع بالأسى طريقها لتجسد هموم هذه المرأة حيرتها فى المجتمع ، وبين "ابو النجا" و"ماسلى" تبرع الطفلة "ملك أرميلة" فى تقديم شخصية الطفلة "ملك" التى تنازع الأولاد الذكور القيادة ، وتسرق أشياء بسيطة مقابل الحصول على المال ، وتتحدى الكل فى المخاطر ، وترفض أن يحل أى رجل محل أبيها المنتظر ، وتبقي هى محور الفيلم وعطره المميز . 

 

 

 

 

 

المصدر: المركز الإعلامي

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,819,796