كان أمام فلاسفة الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد مهمة كبري هي تأهيل القبائل اليونانية بفكرها الأسطوري لحياة المدينة المحكومة بمؤسستي القاضي والعملة.

  فضاء الأسطورة مفتوح يؤمن بالنبوءة والثأر ويخشي الغريب ويتوجس منه، يرتاح للماضي ويركن اليه ومن ثم فزمانها دائري قانونه عودٌ علي بدء، موصول بمناسبات وأماكن تسلمه احداها الي الأخري مشكلة ُأطره المرجعية والمعرفية علي حد سواء. أما زمان المدينة فغائي تطوري، مبني بطريقة عضوية علي السبب والنتيجة ومن َثم يؤسس لفضاء محكوم بالأسوار، علمي المنشأ والمقصد، ذو توجه، غير برئ ولا محايد، يضع القانون ويسنه.

 كان الفن وخاصة المسرح وسيلة المدينة وسلاحها الفعال للخلاص من الأسطورة عبر الأسطورة وربما هنا يكمن معني التطهير الذي أشار اليه أرسطو في كتابه فن الشعر، وكأن لسان الحال كان هو: وداوني بالتي كانت هي الداء.

  كان عمل هؤلاء الفلاسفة شبيها بعملية اختطاف طائرة ثم تحويل مسارها الي حيث ُيراد لها وهي محطات: العقل _ القانون _ التوازن وعدم التطرف _ المدينة _ المستقبل.

  لقد أعيد بناء الأساطير في تلك الفترة في ضوء الحاجات التي ستعمل علي اشباعها في مجالات إنتاج المجتمع والحفاظ علي تلاحمه واستقراره، وعملت الترسانة الأيديولوجية الوليدة ضمن ماعملت علي تذكير الأساطير التي سبق ومنحت امتيازات للنساء في المجتمع الأمومي، وذلك نزوعا لتأسيس مجتمع ذكوري وأسرة نووية تتكون من زوج وزوجة وأطفال، تعود المرأة فيه الي المنزل وتقبع بتربية الأطفال ليس الا.

  فهاهي معايير مجتمع المدينة تتحول الي رموز في أسطورة أثينا الجديدة التي أصبحت تقول : قبل تسمية مدينة أثينا باسمها، ظهر علي حدودها شجرة، ممثلة للإلهة الأنثي "أثينا" ونبع ممثل للإله الذكر "بوسيدن" إله المياه، وتنازع كل من الإلهين علي تسمية المدينة باسمه ولما كانت أغلبية سكان المدينة من النساء، فانحزن الي الإلهة الأنثي وبالتالي سميت المدينة باسمها، مما أثار غضب الإله الذكر، ففاض بمياهه علي الأرض الزراعية وبورها، لذا اجتمع الرجال وقرروا الآتي: أن ُينسب الابن لأبيه بعدما كان ينسب لأمه، أن ُتمنع النساء من العمل العام، أن ُيحجب حقهن من التصويت في الانتخابات.

  أثناء عملية الاختطاف السابق الاشارة اليها، اكتسب الرجال صفات الإناث، فزيوس "كبير الآلهة" يلد أثينا من فخذه، وينعت أفلاطون نفسه بالقابلة لأنه يلد أفكارا مثلما تلد النساء أطفالا.

  عملت الترسانة الأيديولوجية الجديدة لمجتمع المدينة في اليونان القديمة بقدر كبير من الذكاء، فلم تعالج التناقضات _ في معظم الأحوال _ ضمن ثنائية الحق والباطل، فكانت هناك الحقوق المتعارضة فحق القبيلة لدي أنتيجونة يقابله حق المدينة عند كريون، كما أن التطرف في طلب الحق يستوجب حقا علي صاحبه، مثلما حدث مع أورست الذي قتل أمه انتقاما لقتلها أبيه، فطاردته ربات الانتقام حتي ُسقناه الي المحكمة وهي كيان مديني بامتياز.

  إن الثأر الذي ينتمي الي فضاء الأسطورة يساق ليمثل ويحاكم أمام المحكمة داخل فضاء المدينة.

  والذي نود تأكيده في هذا المجال، أن الحضارات عبر التجارب المختلفة هنا وهناك، إنما ُتبني بالنسيان كما ُتبني بالذاكرة، وهذا يصدق أكثر ما يصدق علي مجتماعتنا الحديثة غير المتجانسة من ناحية : الثقافة، العرق، الدين، الطبقة. فلو تمسك كل فصيل بأعرافه وتقاليده وصورالآخر النمطية لديه، لدخلت هذه المجتمعات في دوائر لا متناهية من الشد والجذب قد تنتهي بصراعات دموية تأتي علي الأخضر واليابس، ليخرج الجميع منها خاسرا، والحل أن يتناسي هذا الجميع أجزاء من تراثهم لا تجلب المنفعة لوجودهم نفسه، لكن هذا التناسي لابد أن يتزامن ويتواكب معه تغيير في أنماط العمل والإنتاج والمعيشة والتعليم وهو تغيير َيطال أيضا سائر أجهزة الدولة الأيديولوجية مثل الإعلام، والأوقاف، والأحزاب السياسية، والفتوي والتشريع، وكل ماهو معني بتشكيل الذاتية الخاصة للأفراد وهي المنوط بها تحديد أدوارهم الجديدة وفقا للمتطلبات المجتمعية المستجدة والمتغيرات العالمية المتسارعة.

بقلم / د. سامح مهران رئيس اكاديمية الفنون جريدة نهضة مصر

المصدر: د. سامح مهران/ رئيس أكاديمية الفنون

ساحة النقاش

HAKIM

**
إلى هذا الحد كانت الميثولوجيا الأدبية اليونانية واعية ؟ مع إعجابى بالتفسير الذى لم يكن يخطر على بالى لتحول الأمم من البدائية التهويلية إلى الحضارة المتبصرة ؛ أشعر بالحاجة إلى المزيد من هذا اىتناول النقدى التفسيرى القيم فى ذاته وكأنه يعطى فكرا اجتماعيا سياسيا. وعسى ألا يكون مما يحمِّل الموشوع فوق ما يحتمل .. كذلك أتمنى تزويد المقال بإشاراته الهامشية ليستوفى حقه فى التقدير العلمى.ثم وفى هذا النوع من التفسير كيف تسنى لمحاورة الصديق لأفلاطون أو أرسطو - على خلاف- أن يشتبه مرماها بالمثْلية بين الرجال؟ هذا التناقض لم بسلم منه التأليف الغربى المتحمس لليونان ، ومنه كتاب جورج سباين/ تطور الفكر السياسى ..نشرنه الهيئة مترجما فى خمسة أجزاء، وكأنها جابت الديب من ديله.كما بينت فى كتابى المتواضع/ الفكر السياسى الغربى والقومية المحافظة فى الشرق: ماصدق للربيع العربى، 2012م ص20-

هذا التعليق منى على مقال د.سامح مهران منشورا على:
http://egyptartsacademy.kenanaonline.com/topics/58777/posts?page=2#http://egyptartsacademy

DR.HAKIM فى 31 يوليو 2012 شارك بالرد 0 ردود
egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,281,348