لفن المسرح حساسية خاصة جدا في تعامله مع الواقع, فهو أكثر الفنون الأدائية التي تلتصق بمتغيرات الواقع على كافة مستوياتها, السياسية, الاجتماعية, الاقتصادية... وقد ظهرت أنواع كثيرة منه لها القدرة على التفاعل مع اليومي والمتغير والمثير من هذا الواقع, يمكننا أن نتعرف على هذه الأنواع فيما يعرف بمسرح الجريدة الحية مثلا, فله القدرة على مسرحة أخبار الصحف وتقديمها  بشكل فني مدهش للمتفرجين, أو ما يعرف بمسرح الشارع أيضا والذي يختار أفكار سهلة وبسيطة من تلك التي تهم كافة شرائح المجتمع العابرة لشارع, وغالبا ما تكون القضايا التي تعالجها هذه الأفكار مثارة في وقت تقديم العرض...,,

  يُمكننا أيضاً داخل هذا السياق التعرف على أنواع مسرحية أخرى, كمسرح المنتدى لدى أوجستو بوال, والذي يعتمد على مناقشة مشكلة آنية مُعتمداً شكل الحلقة المستديرة في مسرحه, ومُعتمداً على إشراك المتفرجين/ كممثلين فاعلين داخل العرض, وقد انتشرت في العشر سنوات الأخيرة في مصر نوعية من العروض المسرحية تعتمد في بنائها على مجموعة من المشاهد المنفصلة/ المتصلة, المنفصلة في أفكارها ومعالجاتها للمشاكل, والمتصلة في تجاورها داخل النص ومن ثم داخل العرض المسرحي, وكل مشهد في هذه النوعية من العروض يدور حول مشكلة ما من المشاكل المجتمعية الظاهرة, سواء كانت مشاكل مؤقتة أو مستديمة, مؤقتة: كمشاكل المواصلات, التليفونات, خطوط الكهرباء والغاز, والبنزين, والسلع المختلفة...ومستديمة من مثل: المشكلات المتعلقة ببني وتراكيب الشخصية نفسها, ومسارات تفكيرها وصداماتها الناتجة بناء على ذلك مع نفسها ومع الآخر والمجتمع من حولها: وتنتشر هذه النوعية من العروض بنسبة كبيرة في مسرح الهيئة العامة لقصور الثقافة وغالبا داخل إطار تجربة نوادي المسرح, وهي تجربة مسرحية مهمة وتعتمد منح فنانيها كامل الحرية  وبدون أي نوع من أنواع الرقابة على النصوص أو العروض أو الأفكار المطروحة في مقابل تقديم عروض قليلة التكلفة المادية, حيث يتم إنتاج كل عرض بميزانية لا تزيد عن ألفي جنية مصري, أي حوالي مائتين وخمسين دولارا أمريكيا, وبذلك تعتبر هذه العروض فقيرة إنتاجيا وغنية- إلى حد كبير- فنيا وفكريا...

  وعقب الأحداث المجتمعية الكبيرة, كالهزات الاجتماعية والسياسية, وكذا الاقتصادية العنيفة, تظهر صياغات فنية وفكرية جديدة لمواكبة هذا التغير, مخاض هذا التغير عادة ما يبدأ وهو يعتمد في أركانه على الأشكال المسرحية القديمة, ولا سيما منها ذلك الذي يصلح لان يحمل داخل أطاره الأفكار الجديدة التي كشفت عنها فترات الازمنة وما بعدها, والأشكال التي تحدثنا عن بعضها لمسارح: الصُحف الحية, الشارع, المنتدى, تجارب نوادي المسرح وما شابهها... هي ما تصلح لحمل  الأفكار الجديدة وتوصيلها بطرق سريعة إلى المتفرج, في محاولة – قد تُصيب وقد تخطئ-  لتغير وعي هذا المتفرج,  وبالتالي تسييسه 0(أي إكسابه وعياً سياسياً جديداً ومُغايراً للوعي الذي كان يعتقده)... بعد فترة المخاض, وبعد العديد من المُراجعات الفنية والفكرية, تصل مسيرة المسرح إلى الاستقرار مرَة أخرى, بعد أن تكون قد توصلت إلى بُنى فكرية وفنية تتأسس عليها مواصفات مسرح الفترة الجديدة, تماماً هذا هو ما يحدث عقب الأزمات الكبيرة, وعقب الثورات الشعبية أيضاً, ولعل هذا هو ما سيحدث- طبقا لهذا المسار من الفهم- في المسرح المصري بعد ثورة 25 يناير...

  إذا نحن لدينا مراحل محدودة تعكس في موازينها صورة العلاقة الجدلية بين المسرح والمجتمع, إذ يبدأ المسرح مستفزاً على فنيات وأفكار بعينها قبل أية ثورات تنتابه- ولا سيما إذا كانت ثورة سياسية تهدف إلى نسف كل ما هو قديم من أفكار ورؤى وانساق قيم- ثم تحدث الثورة لتتغير وضعية المسرح إلى فترة مخاض يتم الاستعانة فيها- غالبا- بالأشكال المسرحية والأدائية القديمة, حتى تمر فترة زمنية تكفي لكي تُغير العقلية المسرحية من رؤاها وافكارها وقناعاتها الفنية والفكرية...

  حدث ذلك عقب ثورة مايو 1952 وعقب نكسة 1967 وظهرت أيضا بعض التغيرات الفنية والفكرية على مسرح ما بعد فترة الانفتاح في مصر في نهاية حقبة السبعينات أثناء حكم السادات في مصر, وها هو يحدث مرة أخري بعد ثورة الشعب المصري في عام 2011م, كما حدث ذلك وبنفس النمط من التفكير بعد الكثير من الثورات العربية, وكما يحدث الآن بها بعد ثورات الربيع العربي..

  قد نخلص من هذا إلى أن المجتمع هو- غالبا وليس العكس- ما يُحدث ثورة في المسرح وليس العكس كما كانت تُقرر بعض الأصوات, فالثورات والأزمات الكُبرى يتبعها ثورات لكل الفنون الأدائية بما فيها المسرح, أما الانتفاضات الفكرية والثورات الفنية, فغالباً تأثيرها محدود, وقد يمتد في معظم الأحيان إلى مجموعة من الأفراد داخل المجتمع من شريحة ما أو من بعض الشرائح المختلفة, لكن لم يثبت حتى الآن أن استطاع عرض مسرحي أو تيار مسرحي أن يُشغل ثورة داخل مجتمع...

 

 

بقلم/ إبراهيم الحسيني

المصدر/ نشرة المهرجان القومي للمسرح

العدد/9 بتاريخ 18-8-2014

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 385 مشاهدة

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,419