** جمعتهم وعبد الوهاب علاقة فنية حميمة
** غنت من ألحانه ووزع الرحبانة موسيقاه
فى كتاب الشاعر اللبنانى هنرى زغيب " الاخوين رحبانى – طريق النحل " افرد الشاعر عشرات الصفحات ( 35 – 182) خصصها لنشر " قصة الاخوين رحبانى " بقلم الفنان منصور رحبانى وقد خصص منصور فصلا فى هذه الحكاية المطولة ( من الطفولة حتى غياب عاصى مرتين ) وضع له عنوانا " كبار فى مسيرتنا " .
استعرض فيه تجارب تعاملهم مع اسماء كبيرة فى الموسيقا والغناء والشعر ، وقد افتتح هذا الفصل بأسطر مطولة عن الشاعر سعيد عقل اولا ثم عن الموسيقار محمد عبد الوهاب ، ثانيا فى هذه الاسطر يبدى منصور رأيا دقيقا عن تعاونهما مع عبد الوهاب ، وعن قيمته الفنية فى الموسيقا العربية ، يقول بالنص الحرفى " كانت جلساتنا معه غنية بالمتعة والخبرة وكان ذا شخصية قوية ، متأنقا جدا ومتألقا جدا وناضجا جدا وله تجارب عظيمة وهو الوحيد ذو الفضل الاكبر على الغناء والموسيقا فى الشرق"
غير ان العلاقة بين محمد عبد الوهاب من جهة ، والاخوين رحبانى وفيروز من جهة ثانية ، لم تبدأ فقط بعد الاشتهار الفنى للأخوين رحبانى وفيروز ، ذلك ان بينهم فارقا كبيرا فى السن وفارقا اكبر فى البداية الفنية لكل منهم ، فعبد الوهاب مولود فى نهاية القرن التاسع عشر والاخوان رحبانى مولودان فر عشرينيات القرن العشرين ( عاصى 1923 – ومنصور 1925 ) وقد شهد عقد العشرينيات تعاون محمد عبد الوهاب مع سيد درويش قبل رحيل هذا الاخير ( 1923 ) كما شهد عقد العشرينيات بداية الانطلاقة الصاروخية لمحمد عبد الوهاب كمطرب اولا ثم كموسيقى ثانيا.
يروى الفنان منصور فى مذكراته انه عندما كان وشقيقه عاصى لا يزالان فى سن الطفولة كان والدهما حنا الرحبانى يمتلك مقهى فيه فونوغراف تدار عليه اسطوانات عبد الوهاب وام كلثوم ويقول منصور ان من اكثر ما كان يشده وشقيقه عاصى من اغنيات عبد الوهاب القديمة قصيدة " يا جارة الوادى " التى ظهرت فى عام 1927 وكانا يذهبان احيانا الى مقهى يبعد عن بيتهما نصف كيلو متر للاستماع الى " يا جارة الوادى " ويذهبان احيانا الى منزل بعيد لأصدقائهما للاستماع الى الراديو وهو يذيع أغنيات عبد الوهاب القديمة مثل " الجندول " .
بديهى بعد ذلك ان الفنانين الموهوبين كانا يراقبان بعد ذلك تجديدات محمد عبد الوهاب الغنائية والموسيقية حتى لقائهما المباشر به فى اواخر الخمسينيات وكانا يكنان له تقديرا خاصا ويعترفان له بموقع اول فى الموسيقا والغناء العربيين كما كتب منصور فى مذكراته.
لذلك لم يكن غريبا ان يبدأ التعامل بين ألحان عبد الوهاب من جهة وبين الأخوين رحبانى وحنجرة فيروز من جهة ثانية ، بقصيدة " يا جارة الوادى " الى أعاد الاخوان رحبانى توزيعها لأوركسترا اكبر من التخت الموسيقى الذى رافق عبد الوهاب فى التسجيل القديم بعد أن أضافا الى ما غناه عبد الوهاب بيتا من القصيدة الطويلة ، التى نظمها أمير الشعراء تغزلا بمدينة زحلة اللبنانية هو :
ضحكت الى وجوهها وعيونها
ولثمت فى انفاسها رياك
وقد تم التسجيل فى استديوهات الاذاعة اللبنانية مع اوركسترا الاذاعة ويبدو ان نجاح هذه التجربة ويبد ان نجاح هذه التجربة الاولى جماهيريا ، اغرى كل الاطراف باعإدة الكرة ، فاختار الرحبانيان من اغنيات عبد الوهاب القديمة " خايف اقول اللى فى قلبى " الجميلة ، فأعادا توزيعها وأعادت فيروز غناءها بمرافقة الطورس لكن هذه التجارب الاولى لم تكن كافية على ما يبدو بل كانت سببا فى قيام اواصر علاقة فية حميمة بين عبد الوهاب من جهة والاخوين رحبانى من جهة ثانية ، فلا يذهبان الى القاهرة على حد قول منصور – الا ويقومان بزيارة فنية لعبد الوهاب ولا يحضر هو الى لبنان وقد كانت زياراته له كثيرة قبل نشوب الحرب الاهلية فى منتصف السبعينيات الا وهو يقوم بزيارة الاخوين رحبانى إما فى منزلهما او فى مكتبهما للاطلاع على جديدهما الفنى ، الذى كان يبدى إعجابه به وبروح التجديد فيه.
وقد قدر لى فى منتصف الستينيات ان أدعى لواحدة من تلك السهرات الفنية العامرة فى منزل عاصى الرحبانى وفيروز فى انطلياس كان ضيف الشرف فيها محمد عبد الوهاب وكنت ارافق اسرة مجلة الحوداث ، التى كنت اعمل بها فى تلك الايام واذكر اننا امضينا بالاضافة الى الضيافة الكريمة لعاصى وفيروز بالاستماع الى باقة جديدة من ألحان الرحابنة وغناء فيروز يعرضانها على ضيف الشرف عبد الوهاب لابداء رايه الذى كان غالبا ما يركز على نواحى التجديد التى يستمع اليها فى الالحان الجديدة.
بعد ذلك كان بديهيا ان يتسع التعاون الفنى بين عبد الوهاب والرحابنة عبر صوت فيروز ، فكتب الرحبانيان كلمات اغنية " سهار بعد سهار " بالعامية اللبنانية وقام عبد الوهاب بتلحينها قاصدا ان يكون اللحن قريبا من الأسلوب الرحبانى فكانت تجربة رائعة مازالت منتشرة جماهيريا حتى يومنا هذا.
بعد ذلك قدم الرحبانيان لعبد الوهاب قصيدة جبران خليل جبران "سكن الليل" (يؤكد منصور في مذكراته أن القصيدة لجبران) قدمت للمرة الأولى مع عرض مسرحية رحبانية في غابة الأرز. وكانت آخر أغنيات فيروز من ألحان محمد عبد الوهاب المخصصة لها, قصيدة سعيد عقل "مُرّ بي" التي كانت واحدة من قصائد الغزل بمدينة دمشق التي أصبحت عادة سنوية يمارسها الأخوان رحباني وفيروز, في حفلاتهم المصاحبة لمعرض دمشق الدولي في شهر أيلول /سبتمبر من كل سنة. وكانت تلك برأيي الذروة الفنية العالية في التعامل بين ألحان عبد الوهاب وحنجرة فيروز. حتى أن من يستمع إليها يلفت سمعه أداء فيروز المتاثر بأسلوب محمد عبد الوهاب في الغناء.
غير أن التعامل الفني بين عبد الوهاب والرحابنة لم يقتصر فقط على حنجرة فيروز, فقد كتب الرحبانيان بعامية مختلطة بين المصرية واللبنانية, قصيدة "ضي القناديل" التي لحنها عبد الوهاب وغناها عبد الحليم حافظ, وقد وزعها أيضا الأخوان رحباني, وتم تسجيلها بأوركسترا وكورس من لبنان, في استوديو بعلبك.
بعد ذلك, وفي عام (1967), وعندما وقعت النكسة, كان عبد الوهاب يقضي إجازة في لبنان, فتشارك مع منصور الرحباني بكتابة نشيد "طول ما أملي معايا" الذي لحنه عبد الوهاب من مقام الصبا, فصاغه بشكل عبقري يتداخل فيه التعبير عن الحزن من الهزيمة, وعم الحماسة للرد عليها, وأبدع منصور رحباني في توزيع مقام الصابا على آلات النحاسية وقام عبد الوهاب في تسجيله في استوديو بعلبك أيضاً بأوركسترا وكورس من لبنان. وفي العام نفسه كتب الرحبانيان لصوت عبد الوهاب نشيداً بعنوان " الغد الكبير":
سواعد من بلادي تحقق المستحيلا
وهمه من بلادي تبني مصيراً وجيلا
أنشدها عبد الوهاب بصوته مع أنه كان قد اعتزل الغناء رسمياً, بقي لحن أخيرا من محمد عبد الوهاب, وزعه أيضاً منصور الرحباني, وغنته صباح في أحد أفلامها, هو لحن أغنية "سنة حلوة يا جميل" الشهير. وقد وقع بين يدي تسجيل بعث به عبد الوهاب باللحن مسجلاً بصوته وعوده, إلى الفنان منصور الرحباني, وقد سجل عبد الوهاب بعد الأغنية ملاحظاته حول الطريقة التي يريد أن يتم بها توزيع اللحن, بتفاصيل دقيقة.
هذه كانت حصيلة التعاون الفني بين محمد عبد الوهاب والأخوين رحباني, خمس أغنيات عبر صوت فيروز, وواحدة لعبد الحليم, وواحدة لصباح, واثنتان بصوت عبد الوهاب نفسه. لكن التعاون لم يتوقف عند توزيع بعض ألحان عبد الوهاب, بل كان الطرفان يكنان لبعضهما بعضاً إعجاباً فنياً كبيراً, يجعل الجلسات بينهم تتحول إلى متعة في الثقافة الموسيقية والشعرية الرفيعة, قدر لي أن أحضر اثنتين من هذه الجلسات, تحولت الثانية منهما إلى مبارزة في ارتجال الزجل اللبناني بين كل من عاصي ومنصور رحباني, أمام إعجاب شديد من محمد عبد الوهاب.
بقلم/ إلياس سحاب
المصدر/ مجلة دبي الثقافية
العدد/ 100 – بتاريخ سبتمبر 2013م.
ساحة النقاش