مصر والحداثة

  نشطت الحركة المسرحية في بلاد الشام, وازدهرت في مصر, وتعددت زيارات الوفد المسرحية الأجنبية إلى المنطقة, للترفيه عن الجاليات الأجنبية ومن في خدمتها من الجاليات المحلية والعربية, منذ الحملة الفرنسية (1798- 1801م) على مصر وبلاد الشام, وبعد وقوع مصر تحت النفوذ البريطاني منذ عام (1882م), وعلى الرغم من وجود ملك مصري هو الخديوي توفيق (1879- 1892م), الذي أراد لمصر – مثله مثل من حكمه من قبل... ومن بعد- أن ترقى إلى مكانة علمية جديدة على المستويات كافة: السياسية, والاجتماعية, والثقافية (المادية, واللامادية) ... ومستكملاً الخطوات الأولى نحو التحديث, التى بدأها "محمد علي بك الكبير" (1805-1848م), فهو الذي أخذ بركب المدينة الحديثة بعد أن اكتشف, على المستويين الحربي والسلمي, عدم قدرة مصر والبلدان الأخرى العربية والمستعربة –داخل حدود الدولة الإسلامية المتفككة- على مواكبة النهضة العلمية الإنسانية الأوروبية الجديدة, وكانت البعثات التعليمية إلى بلدان القارة الأوروبية من أهم الإنجازات التاريخية الأولى التي ساعدت على فهم الآخر, هذا إلى جانب شق الترع والقنوات, وظهور المطبعة البولاقية الحديثة عام (1821م), وإنشاء خطوط السكك الحديدية عام (1952م), وتأسيس مصلحة البريد المصرية عام (1863م) وافتتاح متحف بولاق عام (1863م).ليجمع آثار المصريين القدماء, وعرفت مصر عام (1868م)أول بناء مسرحي أوروبي- تياترو- مع ظهور دار الأوبرا المصرية بحي الأزبكية, التي احترقت عام (1971م), وأنشئت في الإسكندرية الأكاديمية الفرنسية الإيطالية عام (1870م), كما شهدت هذه النهضة الحديثة ولادة أولى المؤسسات التعليمية غير الدينية " الجامعة الشعبية" جامعة "فؤاد الأول" عام (1908م)- جامعة القاهرة الآن- وبداية البث الإذاعي المصري عام (1934م) ... وكانت أول مرة تعلن فيها الجنسية المصرية: بعد إعلان دستور (1923م), عقب ثورة (1919م).. والذي نص على أن كل من كان على أرض مصر حتى عام (1913م) يعتبر مصرياً.. وقامت ثورة الضباط الأحرار من الجيش المصري يوم (23 يوليو من عام 1952م), وهي الثورة التي أطاحت بالملك "فاروق الأول" (11/2/1920- 18/3/1965م), فقد أجبر على التنازل عن العرش لابنه الطفل الرضيع " أحمد فؤاد الثاني" (16/1/1952), وغادر (الملك فاروق) مصر منفياً في (26/7/1952), ومات بالعاصمة الإيطالية "روما" في (18/3/1965م), بينما استمر " أحمد فؤاد الثاني" ملكاً تحت الوصاية لمدة (11) شهراً تقريباً, وانتهى عرش الأسرة العلوية الملكية في مصر بإعلان قيام الجمهورية في (18/6/1953م).

أما بعد

  منحت جامعة القاهرة عام (1947م) أول درجة علمية في المسرح للدارس" محمود شوكت" الذي قدم دراسته عن المسرح الشعبي ل"أحمد شوقي" .. ثم أول دكتوراه في المسرح عام (1955) للدارس "محمد يوسف نجم" وموضوعها  :"الدراما في الأدب العربي الحديث (1847- 1917م), ونشرت عام (1956).

  وكان قد أنشئ معهد عال لفن التمثيل عام (1930م) واستمر عاماً واحداً..! ثم أعيد أفتتاحه عام (1944م), وصارت مدة الدراسة به ثلاث سنوات..! وتحول عام (1948م) إلى معهد عال, وأصبحت مدة الدراسة به أربع سنوات... وظهرت نواة أكاديمية الفنون عام (58/1959م) حينما صدر "قرار جمهوري" بتبعية عدد من المعاهد الفنية العليا الجديدة إلى وزارة الثقافة.. حتى صدر قرار تنفيذ إنشاء أكاديمية الفنون عام (1969م), وأصبح "معهد الفنون المسرحية" أحد معاهد الأكاديمية التي تضم وفق تخصصاتها المختلفة:

  "السينما" عام (1959م), و"الموسيقى العربية" عام (1959م), و"الكونسيرفاتوار" عام (1959م), و"الباليه" عام (1959م).. ثم النقد الفني عام (1970م), و"الفنون الشعبية" عام (1981م). ولم يعد هناك أدنى شك في أن الشعوب والقبائل العربية والمستعربة, والتي انتسبت طوعاً كرهاً للثقافة الإسلامية (1) لم تعرف "الدراما المسرحية" كفن شعري درامي, وموروث ثقافي "أوروبي مسيحي, روماني, يوناني قديم"... يعود بجذوره, وأصوله الحضارية إلى ما قبل القرن الرابع الميلاد.

  بل اتفق رأي المهتمين بالدراسات الدرامية المسرحية, من الأجانب والعرب.. مسرحيين وغير مسرحيين.. متخصصين وغير متخصصين.. على تحديد تاريخ بداية المسرح العربي بعام (47/1848م).. حين عرض "مارون النقاش" (1817- 1855م) أول أعماله الدرامية المسرحية "البخيل" للشاعر الدرامي الفرنسي "موليير" (1622- 1673م) بفناء داره في "بيروت- لبنان"... فقد نصب خشبته المسرحية على غرار خشبة المسرح التمثيلي الأوروبي ...وقدم عرضاً تمثيلياً حياً لتلك الفئات الخاصة من الناس, والمرتبطة بنمط الحياة الاجتماعية الثقافية الأوروبية الحديثة ...على حد تعبير "تمارا ألكسندروفنا بوتينتسيفا" :" كان فضل مارون النقاش إذن عظيما, لأن عرضه ظل لسنوات كثيرة معياراً فريداً للمسرح العربي, سواء في النص الدرامي, أو في مبادئ الإخراج, وأصبح التوجه نحو الأدب المسرحي والمصادر الادبية للبلاد الأخرى أمراً معتاداً بالنسبة لأغلب الأشخاص الذين جاءوا بعده. فلم يقم هؤلاد بتعريب الموضوع ونقل أماكن الأحداث إلى البلاد العربية فقط, ولم يبدلوا أسماء الشخصيات ويعدلوا النصوص الأصلية فحسب, بل كتبوا على أساسها أعمالا جديدة تماماً تستجيب لأهداف وذوق المؤلف والجمهور العربيين".(2)

المسرح بين النجاح والفشل

  ولم تحظ البدايات الدرامية المسرحية الأولى بالنجاح الكافي, على الرغم من الحركة النشطة والجادة الساعية نحو نقل التراث والمأثور الأدبي والدرامي الأوروبي وترجمته. بل لم يكن استقبال الناس مشجعاً- في البداية- للعروض الدرامية المسرحية الجادة ذات الطابع الكلاسيكي .. والتي أعاد عرضها فنانون كانوا عظاماً, مثل "جورج أبيض" 1880-1959م) الذي وهب حياته مثل غيره من الفنانين لهذا الفن الوافد الجديد..

  وفقاً لمتغيرات سوق العمل وحاجتها .. لم يكتف الفانون الجدد بالترجمة الحرفية للنصوص الأصلية من لغاتها الأجنبية الأم .. بل تعددت الترجمات غير الحرفية , والنصوص الأدبية, المقتبسة, والمعدة, والممصرة أو المعربة وفق اللهجات المحلية العربية.. ومن أشهر هذه النماذج "تعريب": "محمد عثمان جلال" (1829-1898م). للنص الدرامي "طرطوف", رائعة الشاعر الدرامي الفرنسي "موليير", إلى "الشيخ متلوف" (1873م) ..ولم يكن غريباً, أن يحسن الناس أستقبال مثل هذه الترجمات غير الدقيقة, التي قام بها الفنانون الكبار, سطروا أسماءهم في تاريخ المسرح العربي.. ومن هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر أيضاً:

1-    نجيب الحداد (1867- 1899م).

2-    أمين صدقي (  ؟     - 1944م).

3-    بديع خيري (1893- 1966م).

  وغيرهم.. وغيرهم.. ممن نجحوا في تقريب هذا الفن الوافد الجديد إلى الجمهور العربي.. وقد ساعد تحقيقهم لهذا الهدف: النشأة, والتربية, والتعليم, ومعرفتهم التامة للغات الأجنبية غير العربية, كالتركية, والإيطالية, والفرنسية, والإنجليزية.

  فنون تولد ..وأخرى تموت

  أخذت "فنون شعبية" في الاندثار منذ أخريات القرن التاسع عشر, وبدايات العشرين لتفسح المجال لفنون أخرى حديثة, لا تتصل بالماضي، ولا بالتراث والمأثور المصري والعربي..  مثل " فن المقامة" الذي كاد أن يختفي, إن لم يختف بالفعل مع ظهور "فن القصة والرواية الحديثة" ... إذ ساهم نوعا ما, إبان ذهاب البعثات التعليمية إلى دول القارة الأوروبية وعودتها, في التقارب الثقافي بين شعوب وقبائل دول جنوب وشمال حوض البحر الأبيض المتوسط ...... ولا يسعنا إلا أن نشير – في نبذة سريعة- إلى (رفاعة رافع الطهطاوي" (1801- 1834م) الذي كان مرافقاً لأول بعثة تعليمية سافرت إلى فرنسا عام (1826م) ... وبعد عودته (1831م) رأس "مدرسة الألسن"(1836م) لتعليم اللغات الأجنبية غير العربية ... واشتغل بالترجمة من الفرنسية إلى العربية ... ومثلما كتب على طريقة السلف "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" (1834م), أو " الديوان النفيس بإيوان باريس" الذي كتب فيه خواطره وحكمه على هذه البلاد, وما استحسنه ولا يخالف نص الشريعة المحمدية(3).. عرب " رفاعة الطهطاوي" : "مغامرات تليماك" التي كتبها الفرنسي "فنلون" عام (1699م) , وأطلق عليها عنواناً مسجوعاً: " مواقع الأفلاك في وقائع تليماك", ولم يراع "رفاعة الطهطاوي"  في ترجمته الدقة, لا في الأسماء, ولا في الأماكن , ولا في الأحداث, ولا في المعاني, فقد أباح لنفسه حرية التصرف في النص, وأقحم فيها أرائه في التربية ونظام الحكم, كما أدخل الأمثال الشعبية, والحكم العربية, وصاغ ذلك بأسلوب السجع والبديع المعروف في المقامات(4).

  ولم تكن نهاية "فن المقامة العربية" وظهور رواية جديدة مثل "زينب" (1914م) لمؤلفها " محمد حسين هيكل" (1888- 1956م) إلا إعلاناً صريحاً عن البدايات الناجحة لفن القصة والرواية الحديثة .. والتي لم تتوقف بتتويج "نجيب محفوظ" (1911- 2006م) بجائزة "نوبل في الأدب" عام (1988م).

  وكادت تختفي, إن لم تختف بالفعل, سير كثيرة كسيرة "سيف بن ذي يزن", و"عنترة", و "الظاهر بيبرس" ... وغيرها... بينما مازالت سيرة "عرب بني هلال" حية, باقية.. وتروى حتى الآن مدى حاجة "الناس" إلى وجود روح المغامرة والبطولة في حياتهم..!

إثارة وتشويق فني

  واختفى "خيال الظل" كفن ملهاوي مسرحي شعبي, مع بداية وصول "الشريط السينمائي" إلى مصر عام (1895م) ... وظهور أول فيلم سينمائي طويل " قبلة في الصحراء" عام (1927م)... حتى وصل الفيلم السينمائي المصري إلى مكانة مرموقة على المستويين العربي والعالمي. كما اختفت- أيضا- "الفصول الضاحكة" التي كانت تقدمها "الفرق التمثيلية الشعبية", مثل: "السامر"و "المحبظتية".. وحلت محلها بنجاح ساحق العروض الدرامية التي استمدت موضوعاتها وشخصياتها من البيئة المصرية.. واستخدمت اللهجة العامية.. وحققت بذلك رغبات الجماهير, حينما احتفظت – أيضا- بعناصر الجذب الجماهيري, وجمعت مابين الموسيقى , والغناء, والملهاة... حتى أصبحت الدراما الضاحكة, والموسيقية, والميلودرامية... من أكثر الموضوعات الفنية إثارة وتشويقا عند الناس... ونذكر على سبيل المثال لا الحصر أسماء مجموعة من أشهر أعلام هذه المرحلة:

1-    يعقوب صنوع (1839- 1912م).(5)

2-    سلامة حجازي (1855- 1917م).(6)

3-    عزيز عيد (1883-1942).

4-    علي الكسار (1887- 1957م).

5-    نجيب الريحاني (1889-1949م).(7)

6-    سيد درويش (1892- 1923م).

7-    يوسف وهبي (1898- 1982م).

8-    إسماعيل يس (1915- 1972م).

وغيرهم ...وغيرهم... وغيرهم.

  وكان الاستحسان أو الاستقبال الجماهيري الجيد, والناجح لوسيلتي التسلية الحديثة: "المسرح والسينما" – مع أخريات القرن التاسع عشر, وبدايات العشرين- من أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار دور العرض المسرحي والسينمائي, وظهور مرحلة جديدة من الإبداع الدرامي: في "فن كتابة النص الأدبي التمثيلي", وفي طرق وأساليب وأدوات إعادة تقديمه وعرضه أمام جمهور متذوق وناقد له.. وقسم "يعقوب م. لنداو" في كتابه:"دراسات في المسرح والسينما عند العرب" المسرحيات "المؤلفة أو الأصلية" إلى ثماني أنماط متميزة هي :

1-    الفارس farcesو المجون الهازئ Burlesques.

2-    المسرحية التاريخية Historical plays.

3-    الميلودراما Melodramas.

4-    الدراما Dramas أو "الفاجعة".(8)

5-    التراجيديا Tragedies .

6-    الكوميديا Comedies .

7-    المسرحيات السياسية Poitical plays.

8-    المسرحيات الرمزية Symbolical plays.(9)

الهوامش:

(1) صدق الله العظيم: (.... لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ..) الآية: 256 من سورة البقرة.

(2) تمارا الكنسدروفنا بوتينتسيفا: ألف عام وعام على المسرح العربي (باللغة الروسية) دار العلم , موسكو, 1977م- ص 111- أو أنظر: الترجمة العربية: توفيق المؤذن: دار الفارابي, بيروت, ط2, 1990م, ص115. ولمزيد من التفصيلات راجع أيضاً: رشدي صالح:

أ- دراسات في التمثيل والمسرح العربي: عالم الفكر, المجلد الثاني, العدد الثاني, الكويت, 1971م, ص2,9.

ب- المسرح العربي, مطبوعات الجديد, د.ت.

(3) راجع: رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1993م.

(4) راجع المزيد من التفصيلات:

1- د. شوقي نصيف, الأدب العربي المعاصر, دار المعارف, (ط3).

2- د. عباس مصطفى الصالحي, فن المقامة بين الأصالة العربية والتطور القصصي, الموسوعة الصغيرة(47), دار الحرية للطباعة, بغداد, 1984م..

(5) يزعم كثير من المؤرخين والمسرحيين أن "يعقوب صنوع" هو رائد المسرح المصري الحديث, والذي أفتتح مسرحه عام (1870م)...

(6) يعتبر "سلامة حجازي" نموذجاً رائعاً لبدايات المسرح الغنائي في مصر, هو و"سيد درويش"...

(7) "نجيب الريحاني" هو الأب الحقيقي لفن "الفودفيل" في مصر, والنقد الاجتماعي هو السمة السائدة في أغلب أعمال "الريحاني"... وليس هناك اتفاق بين النقاد والمؤرخين على تحديد عام مولد " نجيب الريحاني" فهو أحياناً (1891م), وأحياناً أخرى(1884م), وقد اعتمدنا في ذلك على : قاموس المسرح (ج2), الهيئة المصرية العامة للكتاب, (ط1), 1996م.

ولمزيد من التفصيلات راجع:

أ- يعقوب م.لنداو, دراسات في المسرح والسينما عند العرب, ترجمة: أحمد المغازي, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1972م, ص165.

ب- محمد شيحة, "المسرحية الهزلية بين أحمد الفار ونجيب الريحاني "مجلة تراث المسرح -مجلة فصلية يصدرها المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية, العدد الثاني, يوليو 2001م, ص144-159.

ج- جلال حافظ: الفودفيل في تاريخ المسرح المصري, أكاديمية الفنون, ملفات المسرح (1), 2006م.

(8) وهي عن الفرنسية "le dram" -dram-,وتترجم إلى العربية "درام" ولهذا شاع المثل الشعبي بين الناس ( إنت حاتقلبها دراما) أي مأساة أو فاجعة... لأن "درام" هو الشكل الدرامي الذي عرفه المصري نتيجة للاحتكاك الثقافي المصري الفرنسي... خاصة مع "الحملة الفرنسية" على مصر أعوام (1798- 1801م).

(9) يعقوب م. لنداو: دراسات في المسرح والسينما عند العرب :مرجع سابق, ص201.

بقلم/ د. عطارد شكري

أستاذ الدراما الشعبية المساعد

أكاديمية الفنون

المعهد العالي للفنون الشعبية

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,892,474