الدراما المسرحية التاريخية

  ولقد استهوى المؤلف أو الشاعر الدرامي, منذ البدايات الأولى لتاريخ الدراما المسرحية العربية, اختيار موضوعات نصوصه الأدبية التمثيلية من التراث والمأثور ووقائع التاريخ .. فقد مثلاً"مارون النقاش" مسرحية (أبو الحسن المغفل عام 1850م)... وكتب الزعيم السياسي "مصطفى كامل" (1874-1908م) مسرحية (فتح الأندلس عام 1893م) .. هذا إلى جانب المحاولات الدرامية الجادة التي كتبها الشاعر " أحمد شوقي" (1868- 1932م), وبدأت بمسرحية (علي بك الكبير ودولة المماليك عام 1894م), وتلتها نصوص درامية عدة, ومن أشهرها (مجنون ليلي), التي صدرت طبعتها الأولى عام (1916م), و (مصرع كليوباترة عام 1929م)... وغيرها ... ولا يسعنا إلا أن نذكر رحلة "توفيق الحكيم" (1898- 1987م) مع التراث والمأثور ، والتاريخ, والت يبدأها بمسرحية ( علي بابا 1925م), ومسرحية (محمد 1926م)- التي لم تعرض على خشبة المسرح, بالإضافة, إلى أنجح نصوصه الأدبية والتمثيلية التي كتبها "توفيق الحكيم" ومنها" (أهل الكهف 1933م)..و(شهرزاد 1934م), و(سليمان الحكيم 1943م), و(إيزيس 1957م), و(السلطان الحائر1960م).. هذا بالإضافة إلى رائعة "توفيق الحكيم" (يا طالع الشجرة) التي عرضت للمرة الأولى (عام 1964م) على مسرح (الجيب) ذي الطبيعة التجريبية, والمنشأ عام (1963م).

  ولم تتوقف المحاولات التأليفية الجادة, الساعية نحو ربط الدراما المسرحية بالتراث والمأثور, والماضي, أو وقائع التاريخ المصري العربي... فقد توالى ظهور كتَّاب جدد, ومن هؤلاء الذين ذاع صيتهم, على سبيل المثال لا الحصر:"عبد الرحمن الشرقاوي" (1920-1987م). الذي كتب (الفتى مهران عام 1969م), ثم أصدر ثنانيته :"ثأر الله"(الحسين شهيداً, والحسين ثائراً عام 1969م).. ومسرحية (عرابي زعيم الفلاحين عام 1985م)... 

هذا إلى جانب, إضافات "نجيب سرور" (1932- 1978م) الدراما الرائعة: (ياسين وبهية 1964م), و( آه يا ليل يا قمر 1966م), و(يا بهية وخبريني 67/ 1968م),( وقولوا لعين الشمس 1972م),(ومنين أجيب ناس 1974م).

  ويسري الجندي( 1942-   ) الذي قدم ( على الزيبق 1973م),(يا عنترة 1976م),و (سيرة أبو زيد الهلالي 1978م), و(رابعة العدوية 1980م),و(واقدساه 1988م) وغيرهم .. وغيرهم.. فنحن لا نقدر على حصرهم .. فقد أضحى المسرح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا الثقافية,  بعد أن حصل على احترام وتقدير الجمهور "الناقد والمتذوق" لأي منتج فني.

  نحو ابتداع مسرح عربي جديد

  ونحن لا نستطيع أن ننكر أن مرحلة الإبداع الدرامي الجديدة في مصر –خاصة الدراما المسرحية- قد تأثرت بظهور مجموعة من المنظرين الذين أكدوا على أهمية الاستفادة من الإمكانات الطبيعية, والفنية, التي يتصف بها "العرض الاحتفالي الشعبي" –المسرحي وغير المسرحي- .. فالجمهور في الاحتفالية الشعبية مشارك في التأليف والأداء معاً (10), وصارت محاولة جعل المتفرج جزءاً من العرض المسرحي هماً من هموم الفنانين الجدد, ومنهم "يوسف إدريس" من أولى الدعوات التنظيرية, التي طالب فيها الاستفادة من إمكانات "مسرح السامر الشعبي","و"البلو" أو "الهرج والمرج" الذي يثيره من عرف باسم "الخلبوص", الذي يعرف بيننا اليوم باسم "المهرج" .. فظهرت شخصية "الفرفور" منذ عام (1964م)(11) هذا إلى جانب , دعوة "توفيق الحكيم" إلى ما أسماه "قالبنا المسرحي" عام (1967م)... الذي يقوم على مفهوم "التقليد", وليس فكرة "التمثيل أو التقمص"(12), لأن "التقمص" يعني دخول "الممثل" في شخصية أخرى غير شخصيته الحقيقية هي شخصية الدور...و"المقلد" عند "توفيق الحكيم" هو ليس الممثل الذي يتقمص ويعايش" الدور في المفهوم الغربي (الأوروبي)... إن "المقلد" هو "الحاكي" أو "الشاعر" العربي الذي كان في الماضي يتقدم إلى جمهوره بشخصيته الحقيقية, وملابسه العادية, واسمه الحقيقي, في أي مكان, ليحدث أثراً في الجمهور.... فمن خلال "التقليد" يكشف عن سمات, وملامح, وكوامن  النفس الباطنية لكل شخصية من شخصياته على حدة, وأمام أعين الجمهور وهو يحتفظ بشخصيته الحقيقية ... وليس لهذا الشكل أو القالب الفني خشبة المسرح أو ديكور, أو إضاءة , أو مكياج, أو ملابس, فالمهم الاتصال الحي بين الفن والإنسان, فالحاكي, والمقلد, والمداح, والشاعر لا ينفصلون عن الناس لحظة لأنهم بينهم , ومنهم, وإليهم, وبالملابس العادية نفسها, وفي أمكنة عادية وبأسمائهم الحقيقية(11).

 التأليف والأداء الفني الشعبي

  ولقد أكدت الدراسات الفولكلورية الميدانية التي قمنا بها حول "المسرح الشعبي في مصر" عدم صحة المفهوم الشائع حول "المسرح الشعبي" أنه ليس له خشبة, ولا ديكور, ولا إضاءة... في حين أننا أكدنا في دراساتنا السابقة على خصوصية مكان العرض المسرحي الشعبي في مصر وزمانه ... والذي توفرت له العناصر اللازمة للعبة الفنية الدرامية المسرحية من:

1-    نص أدبي تمثيلي بقدمه ممثل فرد.

2-    جمهور متذوق وناقد له.

ويجمع هذه الثنائية "مكان" هو "المسرح" ... وهو "شعبي" لأنه دال على ثقافة شعب ما, أو أمة ما.

   علماً بأن العرض المسرحي الشعبي, أو الاحتفالية الشعبية كما يحب أن يسميها البعض, ينقسم إلى مرحلتين:

الأولى: مرحلة ما قبل صعود الفنان الشعبي على خشبة المسرح.

الثانية:   مرحلة ما بعد صعود الفنان الشعبي على خشبة المسرح.

  وخشبة المسرح الشعبي هذه قد تكون: (جرن) مثلاً, أو عربة خشبية (كارو), أو عربة شحن مفتوحة من الأجناب, أو منصة خشبية, مفروشة بالسجاد, وقد لا تفرش بالسجاد... وإما في الهواء الطلق, أو داخل (السرداق)- وهو مكان شبه مغلق, خيامية- .. وأيا كان شكل هذا الأطار التشكيلي أو المادي, لابد وأن تتوافر له –أيضاً- الإضاءة المؤثرات الصوتية, وهما الآن على أعلى درجة من الجودة, التي جعلت –أيضاً- الفنان الشعبي يستغل شاشات عرض الصور المرئية.. وسواء جلس الفنان الشعبي على كرسي, أو حتى دكة.. أو وقف أمام جماهيره وهم جلوس...المهم أن المساحة الخالية بين الفنان الفرد أو مجموعة الفنانين والجمهور :"يدركها كلا الطرفين" ... لأن الالتحام المباشر بين الفنان والجمهور أحد أهم عناصر الإلهام في المنتج الفني المسرحي الشعبي... فالجمهور بأمكانه التداخل مع الفنان أثناء الأداء الفني التمثيلي الشعبي, أي أنه عرضه للإطالة, أو الحذف, أو حتي المقاطعة, أو الإضافة, تبعا للحالة المزاجية التي تجمع الطرفين:" الفنان والجمهور".. وبمعنى آخر, درجات الاستحسان أو الاستهجان... التعليق أو الاستفسار... النقوط أو التحية.. وغيره.. ليست "تشتيتاً" للجمهور... فهي في ذاته تداخل عضوي في نسيج المنتج الفني الشعبي... أي إن "النص الأدبي التمثيلي الشعبي" تتحدد ملامحه من الناحية الأدائية التمثيلية أثناء "الأداء الفني الشعبي".

  وهكذا, في ظل المتغيرات المدنية... وسعي الإنسان الدائم نحو التحديث.. وحرص كيان الدولة المصرية على رعاية الفن والفنانين, شارك جيل كامل من المهتمين بالفنون اهتمامات الدولة, وبصفة خاصة بـ"الفنون الشعبية" ... ليس فحسب لأنها دالة على هوية المجتمعات الحضارية وشخصيتها, وإنما بوصفها –أيضاً- أحد أهم المكونات الثقافية الدالة على تواصل الحكومات مع شعوبها.

  ولم ينكر الفنان الشعبي حجم المساهمة, أو الدور الذي لعبه الفنان "زكريا الحجاوي" (1914- 1975م) في وجوده الفني بصورة شبه دائمة داخل الأجهزة الإعلامية سواء المقروءة, أو المسموعة ,أو المرئية.

ومثلما حافظ "الفنان الشعبي" على مكانته بين الناس في إطار بيئته الثقافية.. لم يتنازل "الفنان الشعبي" عن حقه في الوجود الفني, والبقاء حيا على المستويين المحلي والدولي... ساعد على ذلك ظهور عدد من الفنانين الجدد الذين استكملوا المسيرة ونجحوا. على سبيل المثال لا الحصر نجد "عبد الرحمن الشافعي" (1939-   ) الذي اختلف دوره كثيراً عن "زكريا الحجاوي".

  فإذا ما كان "الحجاوي" قد فرض إمكانية وجود الفنان الشعبي "كما هو" .. فإن "الشافعي" قد أعطى لهم موضوعية, وأحقية فنية, واستمرارية في الوجود ... إذ لم يقتصر دور "الشافعي" على تقديمهم كما هم في الحياة... بل وظفهم وفق رؤيته الجمالية, بوصفه مخرجاً مسرحياً تجريبياً, لأنه أولاً وأخيراً هو :" المخرج الدرامي المسرحي" الذي أدرك أهمية "المأثور الشعبي" في حياة الناس.

الهوامش:

(10) راجع المزيد من التفصيلات:

1- علي الراعي, الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري, كتاب الهلال (121), دار الهلال, نوفمبر 1968م.

(11) راجع لمزيد من التفصيلات:

1- نحو مسرح مصري مجلة الكاتب- القاهرة, أعداد يناير- فبراير- مارس 1964م.

2-    مسرحية "الفرافير": مكتبة مصر, القاهرة, ط6,1977م.

(12) التمثيل الشعبي أم غير شعبي: دخول الممثل في إهاب الشخصية المسرحية التي يؤديها أمام جمهور متذوق وناقد له..

(13) راجع لمزيد من التفصيلات:

1- توفيق الحكيم, قالبنا المسرحي, القاهرة, 1967م.

2-    رضا غالب: الهوية المسرحية العربية بين النظرية والتطبيق, مطبعة سان بيتر, (ط1), فبراير 2002م.

 

بقلم/ أ.د عطارد شكري

أستاذ الدراما الشعبية المساعد

أكاديمية الفنون

المعهد العالي للفنون الشعبية

 

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,819,875