أوراس زيباوي

يخوض الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي، للمرّة الثانية على التوالي، تجربة الإخراج السينمائي، ويعرض له حالياً في القاعات الفرنسية فيلم بعنوان «سينغي صابور» أو «حجر الصبر» المأخوذ عن روايته التي تحمل العنوان نفسه، والتي كتبها بالفرنسية وحازت على جائزة «غونكور» عام 2008.

الفيلم من بطولة الممثلة الإيرانية المقيمة في باريس غولشيفتي فرهاني والسيناريو من توقيع عتيق رحيمي أيضاً بالتعاون مع الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير. ويحقق الفيلم على الرغم من أجوائه القاتمة نجاحاً لافتاً لدى النقاد والجمهور، حتى أنه يعرض في إحدى قاعات جادة الشانزيليزيه، حيث لا تعرض إلاّ الأفلام القادرة على استقطاب الجمهور الواسع.

يستعيد الفيلم الأجواء نفسها التي تطالعنا في الرواية. منذ البداية وحتى النهاية نستمع إلى امرأة تتحدث إلى زوجها الفاقد الوعي والمصاب برصاصة في عنقه. نراه طريح الفراش مستلقياً على الأرض، عيناه مفتوحتان لكنه لا يعبّر عن شيء ولا يقوم بأية حركة. تنظر إليه وهي مصرّة على بقائه حياً داخل المنزل المحاط بالخراب بسبب معارك المسلحين الدائرة في كابول. وحين يشتد الصراع بين الإخوة الأعداء داخل المدينة تهرب المرأة من المنزل مع ابنتيها وتترك زوجها وحيداً. تلجأ إلى منزل خالة لها، شابة وجميلة وتعمل في الدعارة وهي تحظى بنوع من الحماية من قبل أسياد الحرب ممّا يمكّنها من استقبال قريبتها مع طفلتيها. لكن البطلة لا تتخلى عن زوجها وسرعان ما تعود إلى منزلها غير آبهة بالأخطار المحدّقة بها. تواصل توجيه الحديث إلى الرجُل الفاقد الوعي والمستكين أمامها. تروي له كيف تزوّجته دون أن تعرفه لأنه كان مأخوذاً بالحرب. وفي حفل الخطوبة ومن ثمّ الزواج، كانت النساء حولها يرقصن بينما هي جالسة إلى جانب صورته وخنجره. ومنذ اليوم الأول للزواج كان عليها أن تثبت عذريتها لحماتها وأن تحبل بسرعة حتى لا يطلّقها زوجها.

هكذا تواصل المرأة كلامها مع زوجها. وأثناء تواجدها في المنزل وحدها ودون ابنتيها، تقرر أن تخفيه خلف ستارة حتى لا يقتله المسلّحون الذين يسودون في المكان. وحين يدخل عليها اثنان منهما بالفعل، تقول لهما إنها تعيش بمفردها وإنها تعمل في الدعارة حتى لا تتعرض للاغتصاب. فالمسلحون، بحسب الفيلم، لا يغتصبون الداعرات ويفضلون عليهنّ العذارى. يعود إليها أحد المقاتلين ومعه نقود ويمارس الجنس معها رغم رفضها وبكائها.

لكن ثمة علاقة تنشأ بينها وبين هذا المقاتل الذي يعاني هو أيضاً من مشاكل كثيرة في النطق، كما يعاني من النزعة السادية التي يمارسها رفيقه الذي يعذّبه ويحرق ظهره بالسجائر. يُظهر الفيلم أنّ البطلة والمقاتل هما ضحيتان من ضحايا البربرية. والمقاتل لا ينفكّ يعود إليها لأنه تعلّم معها لغة الجسد. إنها أول امرأة يضاجعها في حياته. في إحدى المرات، يعود إليها ويقدّم لها هدية مكوّنة من الطعام وبعض حبّات الرمّان.

أمّا هي، وعلى الرغم من هذه العلاقة الطارئة، تواصل بوحها لزوجها الفاقد الوعي وتكشف من خلال هذا البوح عن الكذب الذي بنت عليه زواجها. الكلام هنا هو قارب النجاة وأداتها للتحرر من القهر العاطفي والاجتماعي. تخبره أنّ ابنتيه ليستا من صلبه فهي عندما تأخّرت في الحمل خافت أن تقوم حماتها بتطليقها منه وهكذا تصبح بلا مأوى لأنّ الأهل لا يحبّون المطلّقات. حتى تحمي نفسها من ذلك المصير، قصدت خالتها التي تمتهن الدعارة وأقامت بالخفاء وفي الظلام العلاقة التي سمحت لها بالإنجاب.

من خلال هذا المونولوغ الطويل، تبوح المرأة بأسرارها التي أخفتها طوال عشر سنوات، وتسخر من المجتمع الذي يقوم على النفاق والأكاذيب. تقول له مثلاً إنه لا توجد مودة بينهما ولا انسجام، فهي تزوّجته طفلة. أخفت عليه عقمه. وها هو اليوم في غيبوبة بينما تواصل هي بوحها لتصفّي حسابها معه ومع مجتمعها القاهر الذي سرق طفولتها وشبابها. وينتهي الفيلم بمشهد عودة الوعي إلى الزوج مما يجبر الزوجة على قتله بخنجر بعد أن انفضح سرّها.

«أشعر بأنني كاتب عندما أصوّر وسينمائي عندما أكتب»، هذا ما يقوله عتيق رحيمي الذي نجح في بناء فيلم قويّ ومتماسك وذي نفَس شعري على الرغم من إيقاعه البطيء خاصة في القسم الأول منه. هذا النّفَس الشعري كان قد طالعنا أيضاً في فيلمه الأول وعنوانه «أرض ورماد» المستوحى من رواية له تحمل العنوان نفسه. وقد عكس هذا الفيلم أجواء البؤس الإنساني والعنف المجاني المهيمن على حياة الأفغان. صحيح أنّ الفيلم لم يصوّر في أفغانستان وجميع المشاهد التقطت في الدار البيضاء في المغرب، لكنّ كابول حاضرة بقوة في لقطة من لقطاته. وكان عتيق رحيمي قد أعلن أنه يحب أن يخرج الفيلم في إطاره الطبيعي، غير أنّ تحقيق ذلك كان أمراً صعباً للغاية بسبب الأوضاع الأمنية في أفغانستان وبسبب ما تطالب به شركات التأمين أثناء العمل.


من المؤكد أيضاً أنّ الاستعانة بالممثلة الإيرانية غولشيفتي فرهاني لعب دوراً حاسماً في إنجاح الفيلم. فهذه الممثلة المولودة في إيران عام 1983 في كنف عائلة مثقفة بدأت مسيرتها الفنية وهي لا تزال طفلة في طهران، ودخلت باب الشهرة العالمية بعد مشاركتها في فيلم بعنوان «كتلة أكاذيب» من إخراج ريدلي سكوت إلى جانب ليوناردو دي كابريو، فكانت بذلك أول ممثلة إيرانية تدخل عالم هوليوود منذ الثورة الإيرانية عام 1979. وهي تقيم اليوم في فرنسا وترتبط بصداقة متينة مع الكاتبة الإيرانية باللغة الفرنسية ناهال تجدّد المستقرّة في باريس منذ أكثر من ثلاثين عاماً والمتزوجة من الكاتب الفرنسي المعروف جان كلود كاريير، الذي ساهم في كتابة سيناريو الفيلم مع المخرج عتيق رحيمي. ومن وحي هذه الصداقة أيضاً، كتبت ناهال تجدّد رواية بعنوان «هي تمثّل» صدرت عن دار «ألبان ميشال»، وتروي فيها لقاءها بالممثلة غولشيفتي فرهاني بعد قدومها إلى باريس والحوارات التي كانت تدور بينهما، والتي تعكس جانباً مهماً من حياة النساء الإيرانيات اليوم في إيران وفي المهجر

المصدر / مجلة الدوحة

بتاريخ/  أبريل 2013

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,256,541