ياسر سلطان

ما أن عبر الرجل شارع حسين المعمار حتى لفتت انتباهه قاعة صغيرة لعرض الأعمال الفنية، هذه القاعة، التابعة لجاليري تاون هاوس، غيّرت ملمح الشوارع الجانبية الضيقة في وسط القاهرة منذ انطلاقها قبل عشر سنوات، توقف قليلاً، وبدا أنه لمح مشهداً أثار فضوله، فدخل كزائر بالصدفة يقلب ناظريه بين اللوحات المعروضة على الجدران باندهاش تام. ثم تساءل: ما هذا الذي تعرضونه هنا!؟

اللوحات المعروضة كانت للفنان السوداني أمادو الفادني. غير أن الزائر عاد فمط شفتيه امتعاضاً ثم قال: هل تسمي هذا الهراء الذي تعرضونه أعمالاً فنية؟ إنها تفاهات غير أخلاقية ويجب أن تُزال فوراً. وبقدر استطاعته حاول أحدهم شرح الموقف، مؤكداً أن ما يراه هو رؤية فنية لفنان لا يقصد الإساءة لأحد، وأن أجزاء الجسد العاري لا تحمل أي إشارة جنسية أو إباحية. رد الرجل: ألم يكن من الممكن أن يُعبّر الفنان عن فكرته بطريقة أكثر احتراماً من هذا؟ إنه يخدش الذوق العام، كما يخدش حياء الناس في الشارع. كانت لهجته الصارمة كافية ليقال له إن مُدة عرض الأعمال سوف تنتهي خلال يومين على الأكثر.

على ما يبدو أن هذا الموقف يضاف إلى مواقف أخرى مماثلة كان لها وقع الصدمة على المثقفين والفنانين المصريين، كتحطيم تمثال طه حسين وإخفاء وجه تمثال أم كلثوم، أو التهديد بتحطيم تمثال أبو الهول...

أمادو الفادني، الذي بدا مرتبكاً وهو يروي قصة الرجل الذي داهم معرضه «المخالف لشرع الله!» عنون معرضه «بالخروج» مستنداً في رؤيته البصرية إلى ثلاثية، من التاريخ والأساطير والحلم، مشكلة صورة غامضة عن الواقع المصري، والعربي بشكل عام، وما ينطوي عليه هذا الواقع من قسوة ومعاناة اجتماعية وسياسية. ومن هنا تأتي الشخوص التي يرسمها أمادو الفادني مشوهة إلى حد كبير، فهي كائنات دميمة ومبتورة الأطراف، وثمة شعور طاغ بالضياع والتيه يسيطر على حالاتها. وهي على هذا الحال تسعى إلى «الخروج» أو الهروب والابتعاد عن أمكنتها، بل وفي لحظات ما الاستغناء عن الوجود.. وفي أخرى تسعى للخروج من الغربة إلى الاغتراب الداخلي، بحثاً عن حميمية الانكشاف والإشراقات. إنها شخوص تخرج من اعتقاداتها وتتمرد على مثلها العليا كذلك. ووسط كل هذه الاختيارات لا تجد شخوص أمادو الفادني سوى مزيد من أسباب الارتباك والضياع. أي نحو الشعور بالانفلات من واقع لا تخفى خلفيته الضبابية، وفي هذه الخلفية وجد أمادو مساحة للبحث والتنقيب عن أفكار تشكيلية متسلسلة تبحث فيما وراء الضباب.
فنجده يشكل قصة الخروج التوراتي للعبرانيين من مصر، ونشوة الخروج عن سيطرة الحاكم الطاغية.. ويستخدم عناصر من التاريخ الفرعوني، رؤوساً لآلهة ومعبودات قديمة تعكس حالة من الهالة والتكتم، معتمداً على الألوان الساخنة وعنف الفرشاة، والخطوط المتقاطعة.. وكل هذا يلتقي على سند اللوحة دون توقف الحركة فيجعل سطحها غمار البحث عن الانعتاق من التجاذبات السابقة.

ومن أشكال الخروج الأخرى خلط المترادفات والصور البصرية الشاهدة على حوادث بعينها فيما يشبه عملية تحقيق يبحث عن دلائل مباشرة سواء مكتوبة أو مصورة تكون دعوة عامة لتأمل أشكال من الخروج المتكررة عبر التاريخ. في هذا السياق يقول أمادو: كان خروج الأجانب المقيمين في مصر، إبان خمسينيات القرن الماضي من يونانيين وإيطاليين.. تحت ضغط سياسي، لا لشيء سوى أنهم كانوا يحملون ثقافتين مختلفتين. فبعد أن كانوا مصريين بحُكم النشأة والوجود والتأثر بالثقافة المصرية، إلا أنه تم معاملتهم كالغرباء، وكان من المستحيل لهم أن يبقوا. كان عليهم الابتعاد عن وطن ظنوا أنه وطنهم. هي تجربة إنسانية مؤلمة تتكرر عبر التاريخ بأشكال وصور شتى.

الشخوص التي تعبر عن هذا النوع من الخروج تواجه قيمها ومُثلها العُليا، التي تهاوت أمام أعينها. بعض الشخوص يغادرون، بينما تتجسد المثل في شكل شخوص وكائنات مشوهة ومهجنة، تكافح كي تحتفظ ببقائها وبهيمنتها. وهي تفعل ذلك في مواجهة مع آخرين يشعرون بالارتباك والضياع والحزن، ثم الاستسلام لفكرة الخروج والمغادرة.

أمادو الفادني فنان سوداني الأصل، مصري المولد، تأثر بالشارع القاهري بحكم نشأته في مصر. واستمد بعضاً من ثقافته الشخصية من انتمائه السوداني، وقد شكلت انتمائيته المزدوجة هذه باعثاً للتوتر والحيرة أحياناً. يستخدم في أعماله الأشياء المهملة، وصور الإعلانات. وغالباً ما تتضمن أعماله مزجاً بين القديم والحديث. هذا التجاور، بالإضافة إلى محاولاته المستمرة لاستكشاف التركيبة المتنوعة للمدينة، غالباً ما يؤدي إلى نوع الصراع والجدل الفني في أعماله.

المصدر / مجلة الدوحة

بتاريخ/ أبريل 2013

 

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,821,261