د. ياقوت الديب

في الوقت الذي كانت فيه قضية الفقر في المجتمع المصري تشكل الهم الأكبر عند "أبو سيف" لم يغفل هذا الرجل حقيقة أن الحياة يؤلفها شقان: حلو ومر وعلينا أن نحياها بما وهبت لخلق التوازن النفسي والاتزان المنطقي وصولا إلى بناء عقول سوية وفكر عاقل بعيدا عن التيه والشطط

اعتدنا في عالمنا العربي ومصر على وجه الخصوص أن ننقض كالأسود الجائعة على رموزنا الشامخة في الآداب والفن والثقافة، تارة بالتطاول على انجازاتهم وعطاءاتهم وأخرى بنسيان أو تناسى أدوارهم وريادتهم  في تنمية الوعي الثقافي والحس الفني ، وثالثة بذبحهم معنويا عن عمد ومع سبق الإصرار والترصد...

ومن هنا تفقد الأمة تاريخها الصحيح وينقلب ميزان العدل فيها، وتكون المحصلة وقوعها في عالم الغيب والنسيان، للأسف بفعل أبنائها من الجهلاء وقساة القلوب وكل من كان لديه شعور بالنقص وقلة الحيلة وخيبة الأمل في أن يصنع صنيعهم، أو من يفشل منهم في غرس فسيلة في محراب العلم والأدب والفن.

"صلاح أبو سيف" من قامات السينما المصرية ورجالاتها العظام، هذه مسلمة لا تقبل الجدل أو المناقشة أو تشوبها شائبة تقلل من قيمة أحد العمالقة في السينما المصرية والعربية بوجه عام، وهو أستاذ بكل ما تحمل الكلمة من معان ودلالات .. وعلى غرار مقولة "المتنبي" هو الذي نظر الأعمى إلى أفلامه وأسمعت كلماته من كان به صمم، هو الذي حارب الفقر أو تصدى لمعالجة قضيته المعضلة بالكاميرا والكلمة وكل عناصر العمل السينمائي .. قضية الفقر في المجتمع المصري شكلت جل هاجسه للتصدي لها سينمائيا انطلاقا من قناعة ذاتية وحس وطني خالص بأن الفقر هو القنبلة الموقوتة لكل الغضب والثورة والتصدي للجور والظلم والاستبداد في الريف(فيلم"الزوجة الثانية") أو الحضر( فيلم"القاهرة30") أو في أي مكان على وجه الكرة الأرضية، وهو المحرك لثورات الجياع على مر العصور، وهو الكارثة التي تطيح بكل معاني الإنسانية والعدل والمساواة.

منطلقات فكرية

هذه المنطلقات الفكرية الكامنة في فكر هذا العبقري السينمائي الإنسان"صلاح أبو سيف" هي التي صبغت أفلامه بصبغة الواقعية في السينما المصرية، وعلى الجانب الفني كانت الموروثات الشعبية تشكل أدوات التعبير لديه ليصل المعنى مباشرة إلى أصحاب القضية الحقيقيين وهم طبقة الفقراء والعمال والكادحين أو بالصحيح الطبقات المهشمة في المجتمع المصري. فعلى الجانبين: الفكري والفني في أفلام"أبو سيف" نجد تميزا ونكهة خاصة ولمسات حميمية تقربنا من العمل حتى درجة الاندماج بعيدا عن التغريب والتقعر الفني الذي تتفاعل معه قلة من جمهور السينما الخاص أو بالأحرى طبقة المثقفين، إلا أن جمهور "أبو سيف" الذي صنع السينما من أجله هو كما أسلفنا طبقة العامة من الناس والبسطاء منهم على وجه التحديد، وهذا لا يعنى بالطبع أن أفلامه بعدت عن تذوق الجمهور الخاص، بقدر ما يعنى تمكن هذا الرجل من أدواته وعناصره الفنية وتحقيق المعادلة الصعبة فيها، حيث إنه فاز بالحسنيين: الجمهور العام والجمهور الخاص للسينما، بما تملكه هذه الأفلام من مقومات العمل الفني البسيط المظهر والعميق المعنى.

إننا ونحن نعيش ذكرى رحيل فنان الشعب "صلاح أبو سيف" لزاما علينا أن نحتفي به بما يليق بتاريخه العريض وعطاءاته اللامحدودة للسينما المصرية على مدى مايقرب من نصف قرن أو يزيد، منذ أن قدم فيلمه الأول"دايما في قلبي" عام 1946 وحتى "السيد كاف"عام1994، على مدى هذا النصف قرن قدم"صلاح أبو سيف" واحدا وأربعين فيلما تنوعت أشكالها بين: أفلام الواقع الاجتماعي التي تعالج قضية الفقر تحديدا،أفلام غنائية ورومانسية،أفلام ذات الصبغة السياسية،وأخيرا أفلام تاريخية ودينية.. وهذا يعنى أن الرجل أعطى للسينما المصرية تنوعا سينمائيا قلما نجده عند غيره من مخرجي السينما عندنا، وإن دل هذا فإنما يدل على تمكن حرفي عال وسعة فكر كبيرة وخبرة متميزة بالحياة وقضايا الإنسان.

ولما كان محور أفلام "صلاح أبو سيف" قضية الفقر في مصر،جاءت الغالبية العظمى منها في هذا الإطار الانسانى المهم، ومن أبرزها: "الأسطى حسن" عام1952،"شباب امرأة" عام 1957، "الفتوة" في نفس العام، "بداية ونهاية" عام 1960، "القاهرة30" عام 1966، "الزوجة الثانية" عام 1967، "السقا مات" عام 1978، "المواطن المصري" عام 1991. وفى كل منها كانت مشكلة الفقر هي الأبرز على المستوى الموضوعي والتي شكلت المحرك الأول الفاعل في أحداثها وسردها سينمائيا.

وفى الوقت الذي كانت فيه قضية الفقر في المجتمع المصري تشكل الهم الأكبر عند "أبو سيف" لم يغفل هذا الرجل حقيقة أن الحياة يؤلفها شقين: حلو، ومر وعلينا أن نحياها بما وهبت،لخلق التوازن النفسي والاتزان المنطقي وصولا إلى بناء عقول سوية وفكر عاقل بعيدا عن التيه والشطط، لذا جاءت أفلامه العاطفية الغنائية بمثابة أداة تحقيق هذا التوازن، ومنها: "الوسادة الخالية" عام 1957 للعندليب الأسمر "عبد الحليم حافظ" في واحد من أقرب الأفلام إلى قلوب جماهير السينما ممن ارتبطوا بما يسمى "الزمن الجميل"، كذلك فيلم "رسالة من امرأة مجهولة" عام 1963 للموسيقار الكبير "فريد الأطرش" الذي أمتعنا لسنوات طوال بالحان شرقية أصيلة وأغان تلهب القلوب...

قدم "أبو سيف" هذين الفيلمين لعملاقين من عمالقة الطرب والغناء في مصر بشكل فني أخاذ بعد عن الإسفاف والسطحية التي صبغت أفلام هذه الأيام لمطربينا الشباب، والتي بنيت على مغازلة النصف السفلى في الإنسان ودغدغة حواسه الدنيا.

وفى إطار الأفلام ذات الصبغة السياسية قدم "صلاح أبو سيف" للسينما المصرية بضعة أفلام لاشك في أنها جاءت في مواجهة السلطة الجائرة وممارستها المستبدة ضد الوطنيين والشرفاء من أبناء الوطن ورموزه من المثقفين السياسيين، وكان أبرزها هذه الأفلام:" لا وقت للحب" عام 1963، "القضية 68" عام 1968، وفيلم "البداية" عام 1986، وفى كل منها جاء تناول" أبو سيف" لقضايا سياسية تقتضى مصلحة الوطن معالجتها وتحليل مسبباتها، سواء ماتمثلت في الكفاح الوطني ضد الاستعمار وأعوانه من الخونة والمأجورين"لا وقت للحب" ، أو قضية المثقفين السياسيين وزجهم في عيابات السجون والمعتقلات دون سند أو اتهام حقيقي (القضية68)، أو قضية الاستبداد وتحكم السلطة وديكتاتورية القرار( البداية) .... وفى كل منها كان لـ"أبو سيف" القول الفصل والانحياز التام للقضية الوطنية في مصر.

أشكال سينمائية

ولم تقف عطاءات "صلاح أبو سيف" عند هذا الحد من الأشكال السينمائية، بل خاض بكل اقتدار وتمكن تجربة تقديم الأفلام التاريخية، والتي لم تتعد فيلمين تحديدا، إلا أن "أبو سيف" في كل منهما استطاع أن يحلل فترات تاريخية مهمة في حياتنا نحن العرب، وبالطبع كان منحازا لقيم حرية العقيدة والعدل الاجتماعي والمساواة بين البشر دون تمييز على أساس عرقي أو ديني أو طبقي، ففي فيلمه" فجر الإسلام" عام 1971 (قصة عبد الحميد جودة السحار" كان" أبو سيف" سيفا بتارا ضد كل ألوان السلب والنهب وسبى النساء وعالم الجواري والعبيد وأسواق الرقيق منتصرا لفكرة ضرورة أن يسود العدل والمساواة مجتمع البشر كما جاء بها الإسلام الحنيف.

وعلى المستوى الوطني جاء فيلمه "القادسية" عام 1981، وهى المعركة التي دارت رحاها عام 636م بقيادة القائد العربي " سعد بن أبى وقاص" وحقق فيها النصر على جيوش الفرس بقيادة " رستم" وتم فتح بلاد فارس.

هذا إلى جانب العديد من الأفلام التي كان محورها يدور حول قضايا اجتماعية يئن منها المجتمع المصري والعربي عموما ولايزال، ومنها قضية حرية المرأة (فيلم "أنا حرة" عام 1959)، قضية العلاقة بين الرجل والمرأة (فيلم" هذا هو الحب" عام 1958)، قضية المواجهة بين السلطة ومروعي الأمن( فيلم " الوحش" عام 1954) وغيرها من القضايا والهموم الاجتماعية التي تناولها "صلاح أبو سيف" في أفلامه بحس وطني وانسانى عال وفكر موضوعي غاية في الاتزان، بحكم خبرة هذا الرجل بالحياة وبالناس في مصر، واستنادا إلى خلفيته الاجتماعية التي تؤهله لأن يكون محاميا للفقراء بالكاميرا والكلمة.

قامة وقيمة

ومن مجمل ما سبق نستطيع أن نقول أننا ونحن في ذكرى رحيله- أمام قامة سينمائية وقيمة فكرية متفردة لم يقف عند حد تقديم سينما مصرية خالصة دما ولحما وفكرا، بل تعدت عطاءات هذا الرجل وانجازاته مجال الإخراج السينمائي، فهو المسئول (في زمن مضى) عن أول شركة قطاع عام للإنتاج السينمائي في مصر (فليمنتاج)، وهو المؤسس لمعهد السيناريو في الستينات من القرن الماضي، تلك التجربة التي لم تتكرر، وهو من قدم للمكتبة العربية والسينمائية أحد أهم الكتب في مجال "فن كتابة السيناريو"، وهو المخرج المصري الوحيد الذي صور فيلما داخل مصعد في تجربة غاية في التفرد والجرأة "بين السما والأرض"، وهو الذي قدم " السقا مات" بطولة الفنان المتمكن" عزت العلايلى" وبتشجيع انتاجى من العبقري "يوسف شاهين" حول فكرة الموت وفلسفته ... موضوع شائك غاية في الكآبة وعدم القبول، إلا أن "أبو سيف" بحسه الفني العالي وإدراكه للبعد الانسانى استطاع أن يقدم أحد أهم روائعه في تصورنا.

أليس من حقنا أن نصرخ لننادى بالاحتفاء بهذا الهرم السينمائي الكبير؟ بالشكل الذي يليق بمقامه الرفيع وهامته الشامخة في السينما المصرية والعربية ... أليس من حق الرجل على كل من تعلموا على يديه وكل من تتلمذوا على فنه وكل من كان لهم عونا لوضع لبنة في مسار السينما المصرية، أليس من حقه أن نتذكره ونعيد إليه- ولو بعد رحيله- اعترافا بقيمته وقامته ... هل نفعل؟

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

المصدر / جريدة القاهرة 

بتاريخ/ 21يوليو 2012

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,878,678