اخطر آثار الحروب علي تاريخ البشرية هو تدمير الأعمال الفنية من عمائر أثرية ولوحات ومنحوتات ومتاحف وغيرها. وقد أصيبت البشرية بخسائر ثقافية فادحة إبان الحربين العالمتين الأولي والثانية " ولا أتكلم عن خسائر العرب في تدمير مكتبة بغداد علي يد هولاكو وحريق مكتبة الإسكندرية القديمة ونزوح العرب من الأندلس ". فقد دمرت مثلا الطائرات الأمريكية ، التي لم تلمس مصنعا ألمانيا بقنبلة واحدة ، دمرت متحف دريسدن في أواخر الحرب العالمية الثانية التي كانت تضم مجموعة هائلة من الأعمال الفنية التي لا تقدر بثمن ودمر الكثير منها بسبب القذف لكن الأعمال الفنية لا تفقد فقط في أثناء الحرب بل هناك أعمال كثيرة قيمة لا تقدر بثمن فقدت في أثناء السلم أيضا .

فإذا دخلنا عالم الموسيقي نجد الكثير جدا من الأعمال الموسيقية ضاعت ، كان ذلك في الغرب أم في الشرق عندنا ونبدأ بيوهان سبستيان باخ الموسيقى الأوربية الحديثة " 1685 – 1750 " الذي كان ينتقل من مدينة لآخري بحثا عن عمل بقيه الجوع هو وعائلته الكبيرة العدد كان هذا الموسيقار العبقري عازف أرغن في كنيسة القديس توما في مدينة لايبتزيج . وكانت وظيفته إلي جانب العزف علي أرغن / الكنيسة تقديم كانثاتا " مغناه كنيسة للاوركسترا والمغنين " كل يوم احد . وكان هذا العبقري يؤلف العمل في يومين وينسخ النوتة الموسيقية بالفرقة بيومين ويقوم بالتدريبات في يومين ويقدم العمل في الكنيسة في اليوم السابع : يوم الأحد . لذلك ووفقا لطبيعة " وظيفته " ألف باخ مئات من هذه الأعمال العبقرية بحكم عمله هناك لعشرات السنين في كنيسة القديس توما وغيرها ، ووصل عدد الكنثاتان التي ألفها 400 كانثاتا طبعا وكالعادة مع العباقرة لم تكن موسيقاه في تلك الحقبة مفهومة ولم يكن احد قد اكتشف عبقرية مؤلفاته حتى إن مائتين من أصل الأربعمائة كنثاتثا قد فقدت نهائيا ولا يعلم عنها شئ .

ويذكر التاريخ أن فيلكس مندلسون الموسيقار الرومانسي الكبير " 1809 – 1847 "اكتشف بالصدفة نوتة أعمال كثيرة لباخ كانت عند الجزار الذي كان يشتري من عنده اللحمة وكان الجزار يلف بهذه الأوراق اللحمة للزبائن ومنذ اكتشاف مندلسون لموسيقي باخ بدأت اوروبا البحث عن أعماله الضائعة ولم يتوقف هذا البحث لغاية اليوم . ولم ينج العصر الكلاسيكي الأوروبي من هذه الكارثة . فمن المعروف أن موتسارت " 1756 – 1791 " ثاني كلاسيكي بعد هايدن " 1732 – 1809 " مؤسس هذه المدرسة ألف 52 سيمفونية لا يعرف منها سوي 41 وقد اكتشفت أوروبا سيمفونية واحدة من أصل العشر الضائعة منذ حوالي ثلاثين عاما .ولم يكن مصير الموسيقار موتسارت نفسه أحسن من مصير مخطوطاته . فقد دفن في مقبرة عمومية لا يعرف لغاية الآن مكانها . وقد انتهت حياته بالفقر الشديد وكان في أخر أيامه يكتب نوتة أعماله علي ورق كان يلمه من صفيحة الزبالة .

أما عندنا فحدث ولا حرج عن فقدان تراثنا الموسيقي وذلك لعدم ظهور التدوين إلا في أواخر الثلث الأول من القرن العشرين وبشكل خجول . فإلي جانب فقداننا لكل تراثنا الموسيقي لغاية نهاية القرن التاسع عشر الذي لم نعرف منه سوي الأعمال التي سجلها مطربو بداية القرن العشرين علي اسطوانات "ظهرت الاسطوانة في مصر سنة 1903 " وذلك لأنهم كانوا مذهبجية فرق آسيا . موسيقي نهاية القرن التاسع عشر عبده الحامولي ومحمد عثمان ، وقد فقدت عشرات من ادوار وموشحات عمالقة القرن التاسع عشر لكونها كانت تقدم علي المسارح من دون نوتة يذكر التاريخ إن الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا لم تمر في بدون خسارة علي العرب وثقافتهم . فقد صادرت السلطات النازية في ألمانيا جميع الاسطوانات النحاسية الأصلية التي سجل عليها تراث سيد درويش وغيره وذوبت لصناعة القنابل. ولولا وجود بعض هذه الأعمال علي اسطوانات لفقدنا كل تراث سيد درويش وغيره المسجل.

أما رياض السنباطي ومحمد القصبجي سوي فقد فقدنا السواد الأعظم من معزوفاتهم التي كانوا يقدمونها علي مسارح السينمات من دون نوتة . ولم يبق للقصبجي معزوفة ذكرياتي " مقدمة مونولوج رق الحبيب " ولرياض السنباطي سوي لونجا نهاوند ورقعة شنجهاي .ويذكر المؤرخ المعاصر لهذه الفترة عبد القادر صبري في كتابه :أمير النغم – رياض البسنباطي ، يذكر بالاسم 36 معزوفة لم يبق منها سوي ما ذكرنا . وأخر أغنيات كانت ضائعة واكتشف أغنيات لام كلثوم هي:

1- أتعجل العمر " احمد رامي – رياض السنباطي 1937 " .

2- يا قلبي بكره السفر : " رامي – القصبجي 1938 ".

3- عيد الدهر " الملك بين يديك  " شوقي – السنباطي 1936 " .

4- أيقظي يا طير " حنفي عبد الرحمن – السنباطي 1939 " .

5- مبروك علي سموك " رامي – السنباطي 1947 ".

6- متنا في حبك "داود حسني " وهي من أصل اثنتي عشرة أغنية فقدت لام كلثوم وقد ذكرت في موسوعة أم كلثوم التي ألفها أخواي إلياس ود . فيكتور سحاب وقد حصلت منهما علي تسجيل لهذه الأغنيات وسوف أقدمها علي المسرح تباعا .

أما محمد عبد الوهاب فمن ضمن ما ضاع من تراثه أغنية ساعة ما بشوقك جنبي " الأربعينات " وقد محي احد موظفي الإذاعة الأغنية بالغلط وسجله علي عوده في الستينات في القرن المنصرم من ذاكرة بعض محبيه ، ما عدا لازمة المقطع الأخير : خليتني نسيت أحبابي . وقد عزفها لي الملحن وعازف العود الشهير الفلسطيني – العراقي روحي الخماش وحفظتها عنه ، ودور " لو كان فؤادك يصفالي " غناه علي بالهواء في الإذاعة وسجله في مصر بصوته المطرب والملحن السكندري جلال حرب وفي لبنان نور الهدي وقد حفظته من الفنان إلياس القطريب .

وأخيرا إن أوروبا تقوم ولا تقعد عندما يجد احدهم صفحة نوتة من تأليف احد عباقرتها فحبذا لو نصل إلي هذا المستوي من الاهتمام الحضاري بتراثنا خاصة وانه غير بعيد عنا.

 

بقلم/سليم سحاب

المصدر/ مجلة الكواكب العدد: 3094

16 نوفمبر 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,892,578