جاء عرض الفيلم التسجيلى "تحية كاريوكا تحديات إمرأة" لنبيهة لطفى استعادة لفنانة وراقصة تحتل شهرة كبيرة لم تنل حقها من التقييم إلا أنها الراقصة الوحيدة التى كتب عنها المفكر الشامل الذى يعد واحداً من أهم مفكرى القرن العشرين فى العالم كله هو الراحل الفلسطينى ادوارد سعيد، الذى عاش طفولته ومراهقته فى القاهرة فى الوقت الذى كانت فيه تحية كاريوكا ملكة متوجة لليل المدينة.
من الجبهة الوطنية إلى سفينة الحرية ... سياسية ومناضلة بالفطرة
وقد كتب عنها مقالاً ذكر فيه أنها كانت ملكة أحلامه فى تلك الفترة المبكرة من حياته واعتبر فى هذا المقال أن أهم ما يميزها على زميلاتها أنها كانت ترقص لنفسها أولاً وتنظر إلى جسدها بإعجاب أكثر مما ينظر إليه الآخرون، واستخدمها كأحد أهم التعبيرات وضوحاً عن الثقافة المسكوت عنها مستنداً إلى تجربتها للتمييز بين الثقافة والثقافة الشعبية الأكثر تأثيراً وانتشاراً فى المجتمع المصري والعربي باعتبارها رمزاً لزمن وعصر يستحق الحنين.
إعجاب الراقصة بجسدها ووعيها بحضوره يتسق مع جوهر الرقص الشرقى الذى يصفه الكاتب عزت القمحاوى بأنه: "حضور الجسد فى مقابل الباليه الذى يتطلب غياب الجسد". فى كتابه "الأيك فى المباهج والأحزان".لا يفرق القمحاوى بين الرقص الشرقى والباليه بحضور الجسد وغيابه أو فى الامتلاء والنحافة فقط بل فى الأداء والقواعد فى كلا الفنيين وإذا ما أردنا أن نأخذ من الكتابة معادلاً للرقص، فأننا نستطيع بقدر الاطمئنان أن نقول أن الرقص التعبيرى هو نوع من الكتابة العلمية، صحيح أنها لا تستغنى عن المهارة الفردية للباحث، ولكن الأهم فيها هى النتائج التى تتأسس على المقدمات بينما الرقص الشرقى كثل الكتابة الأدبية، ليس مهماً أن يكون ما تقوله أشياء عظيمة أو وضيعة ولكن المهم الكيفية التى تقول بها الأشياء.
أى أن الرقص الشرقى يعتمد على العفوية وهى سمة لم تتمتع بها تحية كاريوكا فى رقصها فقط بل فى حياتها أيضاً فعلى امتداد تاريخها كنجمة أثارت العديد من المشكلات بسبب أرائها الصريحة فى فنانين وفنانات وفى أزواجها المتعددين أيضاً.
وقد جاء عرض فيلم نبيهة لطفى فى مركز الإبداع مناسبة يعاد فيها تقديم الاحترام لذكرى سيدة تميزت شخصيتها وبفنها فلا يوجد من جديد يضاف لتاريخها بعد أن أسعدت ملايين المشاهدين العرب بأفلامها والمحظوظين الذين استطاعوا أن يحضروا حفلات توجتها برقصها زهى التى أمضت حياتها تعيش بقلبها دون حسابات، منساقة وراء عفوية الحياة نفسها وبدفقها المتألق كتألق عينيها اللتين لم تفقدا البريق حتى لحظة رحيلها.
التصدى لفيلم عن هذه الأسطورة مهمة فى منتهى الصعوبة لأن حياة تحية الفنانة متاحة أمام الجميع تاريخاً وفناً وإبداعاً عبر شبكة الانترنت أو عبر الكثير من البرامج التى سجلتها حية أو أفلامها أو بعض مسرحياتها التى تم تصويرها.
ولكنك تقف عاجزاً عن أن تتخيل مشاعرها وتتصورها وتدرك أسباب تقلباتها وإقبالها وإدبارها كإنسانة لها لحظات تألقها وانكسارها، لها خصوصيتها وعموميتها، لها كل التناقضات الإنسانية التى يعيشها الإنسان الذى يمضى وراء قلبه وعفويته إلى النهاية فهذه ستيقى فن المتخيل الذى قد تجمعه أو تطل عليه من خلال أصدقائها ومجايليها الذين عاشوا بالقرب منها رغم أنهم لم ينقلوا صورة حقيقة عاشتها الفنانة الراحلة.
أنفقت نبيهة لطفى سنوات من عمرها فى العمل على انجاز هذا الفيلم إلا أنها كما تقول لم تستطع الحصول على ما تريد بسبب عرقلات لا تعرف أسبابها من قبل جهات تملك الكثير من التسجيلات الخاصة بالفنانة.
وكنت أتوقع أن يقود خطوات الفيلم سيناريو تكون المخرجة قد استندت فيه على رؤية ادوارد سعيد لف تحية كاريوكا خصوصاً أنها من قام بتعريفه على تحية تمهيداً لكتابة دراسته النقدية عنها واستخدامها كمؤشر لدراسته النقدية عن الثقافة الشعبية.
إلا أننى لم أجد شيئاً من هذا بقدر ما يجب، شاهدت حشداً من المثقفين والمخرجين والفنانين يقدمون شهادات حول الفنانة الراحلة، سواء ما يتعلق بفنها أو بنمط حياتها التى آثارت أيضاً مجموعة من التساؤلات حول الناس الذين عاشوا حولها.
فقد قدم الفيلم شهادات عدد من المثقفين والمخرجين المتميزين فى الحياة الفكرية والفنية المصرية وهم الراحل محمود أمين العالم وجلال أمين وشريف حتاتة ورفعت السعيد وبهجت الخولى والمخرجين يوسف شاهين وعلى بدرخان ويسرى نصرالله ومجدى أحمد على ومحمد عبد العزيز وكتاب الرواية صنع الله إبراهيم والفلسطينية ليانا والفنانة نادية لطفى وابنة شقيقتها رجاء الجداوى.
وكلهم اجمعوا إلى حد كبير على تميز الفنانة فى فنها وانحيازها لفن الحياة مع التأكيد على تفردها كراقصة تمايزت عن بنات مهنتها حتى وصل محمد عبد العزيز إلى التأكيد على أنها: "أفضل ممثلة رقصت وليس أفضل راقصة مثلت" بما يحمله من تقييم لشخصها.
وأجمع الغالبية منهم على أن فنها ورقصها كان ينبع من داخلها ولعل سيرة حياتها تؤكد أن عشقها للرقص فطرى تم تطويره فى الدروس التى تلقتها فى مدرسة وملهى بديعة مصابنى التى احتضنتها صغيرة واستطاعت أن تحول: "الرقص الشرقى إلى فن بعد أن كان استعراضاً للجسد" حسب مقال للراحل إحسان عبد القدوس استشهدت به المخرجة فى فيلما.
إلى جانب التركيز على محطات فى حياتها بعد انطلاقتها الفنية فى موقفها الداعم للمواقف الوطنية مثل حرب الفدائيين فى السويس ومشاركتها فى نقل الأسلحة وانحيازها لصالح الديمقراطية ضد سيطرة العسكر على الحكم فى مصر وإطلاق جملتها الشهيرة :"ذهب فاروق وجاء فواريق" فى وصف نظام الحكم الجديد مما أدى إلى اعتقالها بسبب مشاركتها فى الجبهة الوطنية التى شكلت فى منتصف الخمسينيات من الطليعة الوفدية والحزب الشيوعى المصرى "حدتو".
كذلك من مواقفها المشرفة مواجهتها الشهيرة للممثلة الأمريكية ريتا هوارت عندما قامت بمهاجمة العرب مفتخرة بكونها صهيونية ومؤيدة لإسرائيل فى مهرجان كان أمام حشد من الصحفيين والفنانين فردت عليها بقساوة جعلتها تترك المكان باكية حبث كانت مشاركة فى مهرجان كان بفيلمها "شباب إمرأة" لصلاح ابوسيف.
أيضاً موقفها من دعم المجهود الحربى والتسليحى لمصر إلى جانب وعيها النقابى عندما رفضت تغيير قانون النقابات الذى سعى سعد الدين وهبة لفرضة ووقوفها إلى جانب الفنانين والمخرجين فى مواجهة القانون رغم وضعها الصحى المتردى.
كذلك مشاركتها فى حملة سفن العودة عام 1988 حيث شاركت مع وفد من القوى الوطنية المصرية كان من ضمن أعضائه يوسف شاهين وعلى بدرخان وآخرون الى جانب قوى تقدميه ويسارية عالمية فى حملة قادتها منظمة التحرير الفلسطينية لتنظيم سفن تغادر الى حيفا عليها فلسطينيون تم إبعادهم مع شخصيات عالمية فى العودة الى أرض فلسطين.
وخلال السياق أيضا تحدث الشهود عن مسارها الفنى فى السينما خصوصاً فى أفلام "لعبة الست" و"شباب إمرأة" و"أم العروسة" كذلك "وداعاً بونابرت" وغيرها من الأفلام التى تجاوزت 120 فيلما فى بعض المراجع ووصلت إلى 200 فيلم فى مراجع أخرى.
وكذلك زيجاتها المتعددة التى وصلت إلى14،13 زيجة كلها كانت من النوع المتميز رغم أن غالبيتها لم يستمر فترة طويلة باستثناء زواجها من فايز حلاوة، ومن الواضح أن استمرارية زواجهما لمدة 20 عاماً تعود الى مشاركتهما فى العمل الفنى فى المسرح السياسى الذى كان يقوم بتأليفه وتقوم كاريوكا بتقديمه على خشبة المسرح، حيث قدمت مسرحيات "روبابيكيا" و"الثعلب فات" و"حضرة صاحب العمارة" و"كدابين الزفة" و"البغل فى الإبريق" و"شفيقة القبطية" و"يحيا الوفد" و"الباب العالى" و"حارة الشرفا" و"قهوة التوتة" و"بلاغ كاذب".
هذا النشاط الفنى والمسرحى والسياسى قد يكون السبب الذى أطال فترة زواجها من فايز حلاوة وقد يقدم تفسيراً لاختصار زيجاتها الأولى رغم أن بعضها كان أيضاً من الوسط الفنى مثل زوجها من رشدى أباظة وفطين عبد الوهاب ومحرم فؤاد.
ورغم أنها تزوجت من أغنياء فإن هذا لم يمنعها عندما كانت ترغب بالطلاق أن تترك كل ما تملكه لزوجها الذى تريد التخلص منه وإنهاء حياته معه كما حدث مع فايز حلاوة وقالت جملتها الشهيرة:"عشت معه عشرين عاماً واكتشفت أنى لم أكن أحبه"، وهنا أعتقد أن العمل لعب دوراً كبيراً فى استمرار حياتهما معا فكان يقدم لها وتقدم له ما يدعم استكمال شخصيتهما العملية والفنية.
وطبعاً ترك الفيلم مجموعة من الأسئلة حول حياة كاريوكا، منها:لماذا اختارت فيفى عبده لكى تتولى اكمال تربية الطفلة التى قامت بتربيتها؟ ولماذا لم تتركها مع ابنة شقيقتها رجاء الجداوى، ولماذا قبلت شقة من السيدة الكويتية تستكمل فيها ما تبقى من سنوات حياتها ولم تقبل أن تمضى ما تبقى من سنوات حياتها مع أقاربها خصوصاً أنها أصرت على أن تعيش وحدها بعد انفصالها عن فايز حلاوة؟
كثيرة هي الأسئلة التي تتركها إنسانة نافرة مثلها حملت حياتها فى قلبها وعاشتها كما أملاه عليها ضميرها وقناعتها، أنها شخصية تميزت عن غيرها من أبناء الوسط الفني وهذا ما قد نجد إجابته عندما انتخبت بالأغلبية الساحقة كنقيبة للفنانين الذين اختاروها لإحساسهم بتميزها وخاضت معركة الانتخابات بحماسها المعهود وقامت أيضاً بالتنازل عن المنصب بنفس الحماس لصالح يوسف وهبه المنافس لها فى تلك الانتخابات.
بقلم رياض ابو عواد
المصدر/ مجلة أخبار النجوم العدد/929
بتاريخ 22 يوليو2010
ساحة النقاش