كان الممثلون ينحنون في سعادة وهم يحيون الجمهور المتحمس، التصفيق حار، والصخب العالي يدل على نجاح النص المسرحي الذي يُؤدى على خشبة المسرح. شباب الفرق المسرحية المتحمس الذي جاء لينافس بعروضه المسرحية على لجنة من خيرة نقاد وأساتذة المسرح، يقف مترقبا لآراء لجنة التحكيم،شباب يحمل هم الوطن، ويعرف أن للفن رسالة، يستشرف المستقبل، ويريد أن يمر من بوابة مسرح الثقافة الجماهيرية التي تخصنا نحن الشعب. الجمهور النخبوي المتخصص جاء لمشاهدة الفرق الشابة التي تقبل على الحياة في أولى عروضها المسرحية. الأضواء البراقة تنطلق والحماس يدب في القلوب. المكان مسرح بني سويف، الزمان الخامس من سبتمبر 2005 ، المناسبة مهرجان الفرق المسرحية في الأقاليم. البهجة تملأ الوجوه، ثم تنطلق نيران ملتهبة لا أحد يعرف مصدرها، تنطلق النيران، وتنطلق معها صرخات الجمهور والممثلين ولجنة التحكيم، يحاول الجميع الهروب من المسرح المشتعل، جوانب المسرح الخشبية تزيد الاشتعال. لم تشفع صرخات فناني مصر، شيوخها وشبابها أن تجعل المؤسسة الرسمية تسارع بإرسال سيارات الإسعاف، ولم يفكر أحد من المؤسسة الرسمية أن هذه النيران تأكل أجساد الفنانين المصريين الذين هم  جزء من عقل مصر وروحها وقوتها الناعمة، وحين ذهبت الأجساد المشتعلة بعد وصول عربات الإسعاف متأخرة أيضا كان حال مستشفى بني سويف العام لا يقل إهمالا وقسوة من سيارات الإسعاف، استشهد في هذا الحريق أكثر من 45 واربعين فنانا، وأصيب بجروح كبيرة العديد أيضا، ومن نجا منهم نجا بآلام نفسية حادة، فالاحتباس داخل مسرح تحيط بك النيران من كل جانب ولا تجد أحدا يغيثك أظنها تجربة ستظل تدخل من عاشها في نفق الآلام النفسية المظلم.ويمر الأمر دون محاسبة حقيقية . مجرد تحقيق سطحي وسريع، ولا فاعل  ولا مدان. إن منظومة الثقافة تتكون من شقين أساسيين هما"التأمين والإبداع"، حيث يكون التأمين ضد الضياع أو السرقة أو الزمن أو الحريق أو التلف بالمياه، إلا أن التأمين غائب فى مؤسسات الدولة حتى بعد الثورة وهو ما يؤدى إلى تعدد وتكرار الكوارث ، فهل كان المسرح تتوفر له أجهزة الإطفاء‏,‏ من مضخات  وغيرها؟ قيل يومها أن أحد أبواب الخروج في مسرح بني سويف كان مسدودا بجزء من الديكور، وهذا ممنوع تماما في بناء الديكور المسرحي .وسواء كان الحادث بسبب الإهمال أو بسبب الارهاب كما تردد لم يأخذ التحقيق حقه، ولم يحاسب أحد. لم يقدم الوزير استقالته ساعتها، وزير دولة مبارك العتيقة. ولم يحاسب جهاز الإسعاف ولا المستشفى، ومر الأمر بسلام وكأننا لم نفقد عقولا وأرواحا من خيرة فنانينا. ووعدت الدولة وخاصة بعد الثورة أن تعوض أسر الضحايا وأن تعمل على علاج المصابين ، ولا شئ حدث مما قيل ساعتها. وبما أننا اجتزنا ثورتين وتغير على الثقافة الكثير من الوزراء، ويجلس على سدتها الآن وزير تحدث طويلا عن التنوير، والتنوير قاطرته الفن والفنانين، فنحن نطالب أولا بإعادة التحقيق في هذا الحادث، نريد أن نعرف هل هو نتيجة لاشتعال الديكور من شمعات أشعلت فعلا أم أنه حادث إرهابي مدبر ضد الثقافة والفن، وطبعا مثل هذه الحوادث كانت من المسكوت عنها قبل الثورة. فالدولة كانت ترفض أن تعترف بأن للارهاب ، وخاصة الارهاب باسم الدين يد طولى في مصر. الأمر الثاني أن يتم رعاية المصابين نفسيا وبدنيا على حساب الدولة دون أن يتسولوا حقوقهم ولا أن يهدروا كرامتهم في الإلحاح على هذه الحقوق. الأمر الثالث يجب أن يعوض أهالي الشهداء وتطلق أسماؤهم على مسارح قصور الثقافة المختلفة في ربوع مصر. وهذا أقل ما يجب أن تقدمه دولة محترمة لفنانيها. شهداؤنا في مسرح بني سويف اليوم يمر على ذكراكم تسع سنوات وما زلنا نذكر، ولن ننسى، لتسترح أرواحكم، فسوف نطالب بحقوقكم.

 

بقلم/ د. هويدا صالح

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 504 مشاهدة

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,071