<!--

<!-- [endif] -->

اقتحم "نجيب محفوظ" عالم السرد القصصى بمجموعة من القصص القصيرة ، واقعية الرؤية والمادة والصياغة نشرها فى الصحافة المصرية ، وجمعها فى كتاب بعنوان (همس الجنون) نشر عام 1938 ، ثم ولج مع بداية أربعينيات القرن الماضى لعالم السرد الروائى بثلاث روايات واقعية الرؤية ، تاريخية المادة ، هى (عبث الأقدار) و(رادوبيس) و(كفاح طيبة) ، تجرى فى مجرى أحد تيارات البحث عن الهوية ، الذى تفجر فى مطلع القرن الماضى ، بدعوة "أحمد لطفى السيد" عبر حزبه (الأمة) وجريدته (الجريدة) بداية من عام 1907 لفكرة مصرية مصر ، بهدف تحرير الوطن عسكريا وسياسيا وفكريا لجعل "مصر للمصريين" ، فى مواجهة الدعوة لإسلامية مصر ، وإعادة الوطن الكبير ليكون مجرد ولاية فى الخلافة العثمانية ، منفصلا عن لحظته الزمنية الفوارة ، وكذلك فى مواجهة فصل مصر تاريخيا وثقافيا ، وانتسابها جغرافيا لحوض البحر المتوسط وحضارة بلدانه الشمالية ، بينما حرص التيار المصرى المدعوم بثورة 1919 ، على البحث عن جذور الشخصية المصرية داخل جغرافيتها وعبر تاريخها الموغل فى القدم ، حتى زمن الفراعنة ، وتجلى نحتيا فى صياغة تمثال (نهضة مصر) عام 1917 للمثال "محمود مختار" بهبة "أبو الهول" الفرعونى تحت جناح فتاة مصر الصاعدة ، وروائيا فى دعوة "توفيق الحكيم" لاجتماع إرادة الأمة على قلب زعيم ملهم ، حيث "الكل فى واحد" فى روايته (عودة الروح) عام 1932 ، وبينهما اكتشاف مقبرة "توت عنخ أمون" عام 1922 ، التى وجهت العقل المصرى نحو الالتفات لعمق ثقافته الناهضة زمنذاك ، لذا لم يكن لجوء "محفوظ" للتاريخ الفرعونى فى رواياته الأولى أمرا مفاجئا أو غريبا ، بل متسقا مع تيار قوى من تيارات النهضة والتغيير فى المجتمع.

  لم تنفصل رؤية "محفوظ" الحاكمة لرواياته التاريخية عن حركة الواقع ، ولم تنغمس فى الوجدان الذاتى ، ولم تعبر عن الهم الفردى الصارخ مطالبا بالحرية فى المجتمع العربى ، عبر تيار الرومانسية السابح فى سماوات الشعر ، وتيار السوريالية ، المتقوقع داخل أروقة الكتاب والفنانين التشكيليين دارسى وعشاق الثقافة الفرنسية ، ولم يكن بعد ذا تأثير فى الفن الروائى الواقعى الرؤية والصياغة ، الذى سار فى أعطافه "محفوظ" ، والذى سرعان ما عاد للمادة الواقعية ، ليصوغها فى أبنية واقعية ذات ميل فى البداية نحو الطبيعية ، فجاءت ثلاثة أعمال أخرى هى (فضيحة فى القاهرة) أو (القاهرة الجديدة) 1945 و(خان الخليلى) 1946 و(زقاق المدق) 1947 ، لتعيد تقديمه للقارئ المصرى والعربى ، ولفتت إليه أنظار صناع السينما المصرية المتعلق احد تياراتها الهامة بنموذج (الواقعية الإيطالية) ، وأبرزهم كان المخرج "صلاح أبو سيف" ، والذى تجرى الأقوال مكررة أنه صاحب الفضل فى جذب "محفوظ" لعالم السينما ، حين جذبت رواياته التاريخية والواقعية نظره ، وهو الرجل الباحث عن سينما (مصرية) تفتش فى الذاكرة (العربية) باعتبارها لب الثقافة المنقول تراثها عبر اللغة التى يعرفها ويفهمها ويفكر بها العقل المصرى ، ويتوجه بها نحو مجتمعه العربى نشرا لإبداعه وتسويقا لأفلامه ، بمعالجة الموضوعات العربية ، وتقديم الممثلين والمطربين الشوام والتوانسة والسودانيين على شاشته ، وهو ما حدا به للتعرف على "محفوظ" لصياغة قصصه السينمائية ، ذات الرؤية الواقعية ، التى تعالج الواقع ببصر نافذ ، بهدف إدراك الأسباب الكامنة خلف الظواهر القائمة ، والإمساك بالتالى بالقوانين الموضوعية التى تحكمه ، وذلك عقب تقديمه لفيلمه الأول (دايما فى قلبى) عام 1946 ، المقتبس عن فيلم (جسر واترلو) ، ولم يرض به ، فهرع نحو صاحب (عبث الأقدار) و(القاهرة الجديدة) ، فصاغ له فى البداية - بالاشتراك مع المخرج - سيناريو الفيلم التاريخى (مغامرات عنتر وعبلة) ، عن قصة الشاعر "عبد العزيز سلام" ، تماشيا مع منحاه التاريخى الأول ، وان كان عربيا هذه المرة ، اتساقا مع رؤية المخرج لمجتمعه ، وأن تأخر عرض هذا الفيلم حتى عام 1948 ، بينما سبقه فى الظهور فيلمهما الثانى الواقعى (المنتقم) ليعرض عام 1947 ، والذى شارك "محفوظ" المخرج فى كتابة السيناريو له عن قصة للكاتب " إبراهيم عبود" ([i] ) ، وقد شارك "محفوظ" فى كتابة سيناريو هذين الفيلمين  فى نفس زمن كتابة ونشر روايتيه الواقعيتين (خان الخليلى) 1946 و(زقاق المدق) 1947 ، مما يؤكد على ثبات رؤيته الفكرية لفنى الرواية السردية والدراما السينمائية 0

        بين الثقافة والإعلام :

ظل فنا الرواية والسينما يتقاطعان فى مسيرة "محفوظ" لعقود طوال ، حرص خلالها كاتبنا على أن يكون حضوره فى حقل السينما متعلقا بصياغة القصة السينمائية ، كامتداد لفن القص عنده ، وبكتابة السيناريو السينمائى كوجه آخر لبنية السرد الروائى ، مبتعدا تماما عن كتابة حوار الأفلام التى شارك فيها ، لعدم إقباله على فنون تعتمد على الحوار الكلامى وحده أو يتصدر كل وسائط التواصل لنقل الأفكار والمعانى والأحاسيس ([ii] ) ، وبصورة أعمق لرفضه كتابة الحوار باللهجة المحلية ، التى اعتادت السينما المصرية تقديم أفلامها بها ، بحكم توجهها نحو القطاعات العريضة فى المجتمع المتعاملة مع وسائل الاتصال الجماهيرى  Mass communication  ، والتى تعانى أغلبيتها من الأمية الأبجدية والثقافية معا ، وتبحث فى السينما عن الترفيه قبل الفكر ، ولهذا ظل "محفوظ" منتميا لعالم الأدب (الثقافى) المهتم بتجذير الوعى ، رغم عمله فى حقل السينما (الإعلامى) الساعى لتسيير الوعى وفق الأنظمة الحاكمة ، مهتما فى صياغته للقصة السينمائية بعمق الأحداث وجاذبية المواقف الدرامية ، وفى بنائه للسيناريو بالمزج الدقيق بين السرد الروائي  والحبكة الدرامية ، مع إفساح الطريق أمام المخرج لتدفق الوقائع الكاشفة للصراع المادى الظاهرى بين القوى المتنازعة ، يلمسه بسرعة المشاهد المتعجل ، ومخفيا بأعماقه صراعا نفسيا وفكريا يكتشفه المشاهد المدقق ، فيتضاعف استمتاعه بالفيلم 0         

وإذا ما كان فيلم (مغامرات عنتر وعبلة) قد قدم لنا بطولة الفارس العربى المتجاوز لوضعه العرقى بحد السيف المدافع عن القبيلة ، فى أجواء الصحراء العربية ، ينفجر فيه الحدث الدرامى من أول لقطاته ، داخل حفل عرس "عنترة" و"عبلة" ، بفرية أخوة الحبيبين فى الرضاعة ، مما يعقد الموقف العاطفى ، ويبعد البطل عن مضارب القبيلة ، ليدخل فى مجموعة مغامرات مادية مع الرومان أعداء المنطقة ، فأن فيلمه (المنتقم) قدم حكاية واقعية تدور فى أروقة المعامل الكيميائية بمدينة القاهرة الحديثة ، دائرة حول التيمة الشهيرة الحبيب والحبيبة والغريم الشرير ، فأن وقائع روايتى (خان الخليلى) (زقاق المدق) تدور فى الحارة المصرية وأجوائها الشعبية ، وهى الأجواء التى ستميز أبرز عوالم "محفوظ" الروائية والسينمائية ، وتخلق (حارة محفوظية) ذات سمات خاصة بها ، تظهر فيها شخصية (الفتوه) كنموذج حالة للحاكم بأمره فى المكان ، والمستبد العادل الذى يحمى المنطقة بسطوته ، ويدافع عنها وعن مصالحه ومصالح رجاله ضد فتوات المناطق المجاورة

 لم يظهر هذا الفتوه فى روايات محفوظ الأربعينية والخمسينية الواقعية والدائرة فى الحارة المصرية ، إلا على استحياء فى روايتى (خان الخليلى) و(زقاق المدق) و(بداية ونهاية) ، حاملا ملامح خارجية وحضورا غير مؤثر فى مجرى أحداث الحارة والكون المحفوظى ، وذلك عبر شخصية (المعلم) المتجلية فى الأولى فى صورة المعلم (نونو) الخطاط ، الذى وفد إليه بطل الرواية "أحمد عاكف" ، منتقلا من حى (السكاكينى) البورجوزاى إلى حى ( الحسين) الشعبى ، هربا من غارات الحرب العالمية الثانية التى وصلت أذرعها المتنازعة وغاراتها المفزعة للأجواء المصرية فى نهايات الحرب العالمية الثانية ، ولم يكن المعلم "نونو" سوى رجل طيب خفيف الظل ، يتابع عالم الحارة حوله دون تصادم مع أحد ، ويسعى برجليه وعقله نحو بيوت الغوانى ، ويلعن الدنيا فى جملته المتكررة "ملعون أبو الدنيا" ، هذه الدنيا التى لم تعطه حظا مثل الآخرين ، بينما تظهر شخصية المعلم "كرشة" فى (زقاق المدق) صاحب مقهى غارق فى ملذاته الشخصية ، ولا يعبأ بما يجرى حوله ، يسير خلف من يدفع له مالا لتحقيق أهدافه ، ويعلن دوما رأيه فى وجه الآخرين "لكم دينكم ولى دين" ، بعد أن تحول من ثائر ناضل مع الشعب لنيل حريته فى ثورة 1919 ، إلى تاجر مخدرات صغير ومتعاط كبير وفاسق أعظم 0 أما الفتوه فى (بداية ونهاية) سواء أكان "حسن كامل على" أو "محروس الزنجى" السابق على وجوده فى البار ، فكلاهما ليس اكثر من بلطجى ، يثير الرعب فى البار ، ويحمى غانية من غانياته

        الحارة المحفوظية :

فيما بين هذه الروايات الثلاث ، وظهور شخصية الفتوة  بصورة متكاملة فى أعمال "محفوظ" السينمائية والروائية ، بداية من عام 1954 ، يقدم كاتبنا فى عالم السرد روايته النفسية (السراب) 1948 وثلاثيته الكبرى التى كتبها قبيل قيام ثورة يوليو 1952 ، وأن نشرت بعد ذلك خلال عامى 1956 و1957 ، ويغيب عنها جميعا نموذج (الفتوه) حامى حمى الحارة المحفوظية ، ذات الموقع المتميز بحى الحسين ، والمتاخمة لصحراء الدراسة زمنذاك ، كما يشارك "محفوظ" فى عالم الدراما السينمائية بأربعة أفلام يتراوح دوره فيها بين كتابة القصة والمشاركة فى كتابة السيناريو ، فيقدم مع مخرجه الأثير "أبو سيف" ثلاثة منها تدور وقائعها بين الحارات الشعبية والريفية ، شارك فى الأول منها (لك يوم يا ظالم) 1951 فى كتابة السيناريو مع المخرج ، عن قصة سينمائية أعدتها المونتيرة "وفيقة أبو جبل" عن رواية (تريز راكان) للكاتب الفرنسى الطبيعى "إميل زولا" ، ثم سيناريو فيلم (ريا وسكينة) 1953 ، بالاشتراك مع المخرج ، وعن قصة أعدها "محفوظ" سينمائيا عن تحقيق صحفى للكاتب "لطفى عثمان" ، والمتعرض لوقائع ظهور مجرمتى الإسكندرية الشهيرتين فى عشرينيات القرن الماضى حتى القبض عليهما ، وسيناريو فيلم (الوحش) 1954 بالاشتراك كذلك مع المخرج عن قصة معاصرة الأحداث أعدها "محفوظ" عن مجموعة من التحقيقات الصحفية التى تعرضت لعالم مجرم جنوب الوطن ، الذى أشتهر ب (خط الصعيد) وسقوطه بأيدي العدالة ، بينما يتعاون فى الفيلم الرابع مع المخرج "عاطف سالم" لأول مرة بعيدا عن عالمه مع أبى سيف ، فيشارك فى كتابة سيناريو (جعلونى مجرما) 1954 مع كاتب الحوار الممثل "السيد بدير" ، عن قصة لمنتج الفيلم "رمسيس نجيب" وبطله "فريد شوقى" ، وتتأرجح وقائع الفيلم بين الحارة الشعبية والفيلات والمحلات الراقية ، إدانة لمجتمع ظالم يحول الأبرياء إلى قتلة  ، والفقراء إلى وحوش 0

        يأتى عام 1954 والمجتمع المصرى يدخل النصف الثانى من العام الثانى لثورته التى قادتها جماعة الضباط الأحرار ثم ألتف الشعب حولها ، فحولها لثورة جماهيرية ، سعت منذ الأسابيع الأولى لتغيير البنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع ، وعملت على ضبط إيقاع الشارع بقبضة قوية ، أدت لانفجار النزاع بين الفرقاء ، وأمتد لهيب الصراع من مقر الحكم بمجلس الثورة للشارع والمصانع والكليات ، واحتدم الخلاف بين الحكم بالديمقراطية الليبرالية التى تمنح المواطن حريته دون أن تحقق له عدالة الحياة ، والحكم بقبضة السلطة التى تنير للمواطن طريقه ، وتمنحه عدالة الحياة الكريمة ، وتضيق عليه حرية تعبيره عن ذاته 0 وأنتصر فى نهاية عام 1954 الجناح الثانى ، الذى مال لعدالة المجتمع على حساب حرية الفرد ، ومال الفكر المعبر عنه لنموذج (المستبد العادل والمستنير) الذى يجتمع الكل فيه ، هذا النموذج الذى يستمد شرعيته من الجماهير المفوضة له ، أو من الشرائع التى يدعى أنها منحته هذا التفويض ، ويهرع للتاريخ لكى ينشط فكرة المستبد الحازم فى الذاكرة الجماعية ، ويجعل من نفسه رقيبا على الجميع ، ومحققا لحلم الكل 0

        فى هذا العام الحاسم ، يبدأ نموذج (الفتوه) يظهر جليا فى عالم "محفوظ" ، متشكلا مع الحارة المحفوظية التى تنغلق على نفسها ، ويحتمى أهلها بزعيمها من الزعماء الأعداء الذين يتصارعون فى الحارات والأحياء المجاورة على سلطة الحكم ، والذين يتعاملون مع قوى خارجية ، محتلة للأرض ، أو ساعية للاستيلاء على كنوزها ، ويظهر هذا النموذج صريحا وقويا بداية فى فيلمى (فتوات الحسينية) فى نوفمبر عام 1954 مع المخرج "نيازى مصطفى" ، و(الفتوة) فى أبريل عام 1957 مع المخرج "صلاح أبو سيف" ، ثم فى عالم السرد بتعدد نماذج الفتوات على مدى التاريخ فى رواية (أولاد حارتنا) عام 1959 ، ويمثل المكان ، انغلاقا على ذاته ، وانفتاحا على عوالم أخرى شديدة الغموض والقسوة ، ملمحا مهما فى الحارة المحفوظية ، والتى يستفيد بها (الفتوة) لتحقيق هيمنته على الحارة وأهلها ، وهو ما يبدو واضحا فى حارة فيلم (فتوات الحسينية) التى تنغلق الصورة المرئية أمام المشاهد ، عبر ديكور الحارة الضيق ، فلا يعرف لها منفذا للخارج ، بل تدخل الخيول والعربات (الكاريتة) و(الحنطور) وذات الموتور دون أن يبدو لهذا المشاهد من أين جاءت ، بل أن الكاميرا لا تخرج أبدا لخارج الحارة إلا لمرات أربع سريعة ، يظهر الأول داخل بيت أسرة بطل الفيلم فى منفاها الاختياري خارج القاهرة قبل عناوين الفيلم ، والثانى مع العناوين ، بداية من مدخل باب الفتوح ، وهو أحد أبواب سور القاهرة الفاطمية ، حد ابواب سور القاهرة الفاطمية أحد أسوأحد فاستعراض لمساجد وشوارع القاهرة الفاطمية ، بما فيها مسجد السلطان حسن وقلعة صلاح الدين ،  والثالث على شاطئ النيل مع بداية وصول البطل للقاهرة فى أول الفيلم ، والرابع لقطة بانورامية للحى الذى تجرى فيه وقائع الفيلم وسط القاهرة القديمة ، فقط لكسر رتابة الصورة المرئية المنغلقة على نفسها داخل الحارة الشعبية بوسط الفيلم ، بينما تمثل المشاهد الأولى مكان المنفى ، الذى يمهد المتلقى للتعاطف مع بطله الذى سيعود إلى حارته ، بحثا عن حقه المسلوب ، واستعادة لمجد أبيه وأجداده ، فموقع الأحداث الرئيسة ، فوصول البطل مجهدا وحاملا أخيه على كتفه لموقع الأحداث 0

استعادة البيت المحتل :

يبدأ الفيلم الذى شارك "محفوظ" فى كتابة القصة والسيناريو له ، وصاغ حواره "السيد يدير" بمشهد سابق على العناوين (آفان تتر) ، ترتعد فيه السماء وتبرق على صورة لأحد فتوات الأمس ، مكتوب عليها "بيومى العترة فتوة الحسينية" ، ثم تنفتح عدسة الكاميرا وتتراجع (زووم أوت) ليظهر لنا بطل الفيلم ؛ شابا يافعا قوى البنية تعلن كلماته الأولى عن غضبه ممن غدروا بالأب ، واستولوا على بيتهم ، وتتراجع الكاميرا أكثر ليظهر الأب نائما على سريره فى لحظات احتضاره الأخيرة ، وهو يحكى لابنه عن سر خروجه من الحارة فى (الحسينية) بعد أن غدروا به وجرحوه مما أفقده مهابته ، فخرج بليل من الحارة بأسرته الصغيرة ، دون أن يقدر على إبلاغ الشرطة ، لأنه "مادام الفتوة أنضرب ما يقدرش يورى وشه لأهل حتته" ، فقانون الفتوة أو (الفتونة) يقوم على فكرة القوة التى لا تنكسر ، والمهابة التى لا تسقط ، ولذا فالانسحاب هو ديدن الفتوه المنكسر ، والخروج من الحارة ، كالخروج القديم من القبيلة ، هو الموت بالخزى للمهزوم بعيدا عن طرق الأولى ومضارب الثانية ، والنفى الاختيارى أفضل من الموت كمدا تحت حكم الفتوه المنتصر ، وفى كادر شديد الدلالة ، يبدو فيه الأب "بيومى العترة" نائما فى مقدمة الصورة على فراشه الفقير ، وفى بؤرة الصورة ينتفض الابن الأكبر "زقلط" (فريد شوقى) محتلا أبرز مساحات (الكادر) معلنا أنه هو الذى سينتقم للأب ، ويستعيد البيت المسلوب ، وفى العمق يظهر الابن الأصغر "أحمد" (سليمان الجندى) جالسا على أريكة قديمة ، منتفضا بدوره ومتقدما لوسط الصورة إلى جوار أخيه ، ومعلنا وقوفه إلى جانبه ، فتتجلى الأجيال الثلاثة فى لوحة واحدة ، تؤازرها الحركة ، وتؤكد كلاماتها على اقتراب غياب الأب موتا ، واحتلال الابن الشاب لمكانة الأب ودوره القديم ، ودعم الأجيال الجديدة له 0

        يغيب السرد الروائى الذى يمنح "محفوظ" فرصة وصف المكان الفقير ، والكشف بالكلمات عن سرائر الشخصيات وأفكارها ، وعلاقتها بالمكان ، وببعضها البعض ، لتصبح الصورة المرئية هى الكاشفة عن هذه العلاقة المتكاتفة بين أفراد هذه الأسرة الصغيرة ، وعن قرارها العودة للحارة التى خرجت منها ذات يوم ، واستعادة البيت الذى سرق منها بخروجها من حارتها ، دون أى اختلاف فيما بين أجيالها ، فى ضرورة تحرير الحارة من مستغليها ، وتحرير البيت ممن استولي عليه ، ف "العين بالعين ، والسن بالسن" ، رفضا لفكرة التسامح مع الأعداء ، التى قدمها الأب العجوز ، والذى لم يجد مفرا من موافقة ابنه الشاب على عودته لحارته منتقما ومعيدا ما سلب منهم ، ومانحا إياه نصائحه بضرورة "عدم البدء بالشر" لأن البادئ أظلم ، و"عدم الافتراء" لأن "المفترى عمره ما يكسب" ، وهى صفات الفتوه النبيل ، ومانحا إياه عصا الفتوة (الزقلة) التى حقق بها "عجائب" وكتب "تواريخ" سابقة ، وأدخرها لهذا اليوم الذى يحملها عنه ابنه الشاب ، قائلا له " ده أحسن صاحب أفوته لك يا زقلط" ، ومذكرا إياه وأخيه الصغير بالعلامة الدالة على بيتهم وهى تمساح محنط ، كعلامة على القوة ، ورمز فولكلورى قديم 0

        رغم الإشارة بالصورة لجريان أحداث الفيلم داخل إحدى حارات القاهرة الفاطمية ، والبدء بباب الفتوح المؤدى للداخل ، غير أن جغرافية المكان الواقعية تكشف عن أن موقع حى الحسينية يقع خارج أسوار القاهرة الفاطمية ، امتدادا من باب الفتوح حتى حيى الظاهر والوايلى ، كما أن هذه المنطقة بأكملها تبتعد عن نهر النيل ، ومع ذلك فقد فضل المخرج "نيازى مصطفى" أن يكون المشهد الخارجى الأول بعد العناوين على شاطئ النهر ، حيث يصل "زقلط" وأخيه "أحمد" من مدينة المنفى "سنتريس" إلى قاهرة (المعز) ، وجلسا يرتاحان من وعثاء الطريق ، لتحدث أول مصادفة فى الفيلم ، والقائمة على ظهور بطلة الفيلم الأنثى ، العالمة "زبيدة" (هدى سلطان) ، وهجوم مجموعة من اللصوص على عربة الحنطور التى تركبها ووصيفتها ، ومحاولة المجموعة سرقة مال وملابس  المرأتين ، فيهب "زقلط" لنجتهما ، وينقذهما ، متخيلا من منظور الريفى البسيط أنه أنقذ امرأة من علية القوم ، نظرا لركوبها الحنطور ونوعية الملابس التى ترتديها والمجوهرات التى تتحلى بها ، ويهتم هذا المدخل التمهيدى للفيلم بغايتين أساسيتين هما : تعرف البطل القادم "زقلط" على البطلة الحبيبة القادمة ، والتمهيد لعلاقة تعاطف ستتم بينهما جوهرها شهامة رجل دافع عن امرأة لا يعرفها ، وكذلك الكشف عن نفسية هذا البطل العائد لحارته وبيته المسلوب ، فهو يمتلك طموحا فى تجاوز وضعه الاقتصادى والاجتماعى ، بالتطلع لهذه المرأة الجميلة (البرنسيسة) ، وهو لا يتورع عن الاستيلاء على محفظة أحد اللصوص ، بعد أن وقعت منه بما فيها من مال أثناء هجومه عليه وصحبه ، وحاول استعادتها فنهره ليحصل هو عليها ، مما يكشف عن نفسية هذا الفتوه التى ينحت "محفوظ" صورته الأولى فى هذا الفيلم 0

        الفتوات والشطار :

يستمد "محفوظ" سمات شخصية (الفتوه) من زمن طفولته بحى الحسين ، حيث كان لبقايا نظام الفتوة بالأحياء الشعبية المصرية استمرار قائم على الوجود الحى لفتوات الزمن الماضى ، وذلك حتى خمسينيات ذاك القرن ، بعد أن تجرد هذا النظام من هيمنته القديمة على الأحياء المغلقة ، وحلوله بديلا عن سلطة الشرطة الضعيفة فى زمن الاحتلال الإنجليزى ، وتحالفه مع هذا المحتل وشرطته لتسهيل إبقاء الأوضاع سائدة ومستقرة ، وذلك بفضل التطور الذى صاحب ثورة يوليو ، فأخرجت المحتل ، وقضت على الفتونة ، بفتح أبواب الحارات فعليا ومعنويا ، بتعليم أبنائها وخروجهم للعمل خارج أسوارها ، مما خلق حوارا بين الداخل والخارج ، ولم تعد بطلة (زقاق المدق) المتمردة "حميدة" تنتهك لمجرد خروجها من حاراتها ، فالداخل انفتح على الخارج ، وغاب الغموض عن هذا الخارج الوحش 0

        كما استمد "محفوظ" بقية سمات شخصية (الفتوه) القائمة على الذكاء والمكر وحب المغامرة والولع بالمكائد من عوالم الشطار والعيارين والزعر والحرافيش التى عرفها التراث الشعبى ، وصاغت المخيلة الشعبية من اللصوص أبطالا ، هام البسطاء عشقا بهم ، لمجرد وقوفهم فى وجه السلطة الحاكمة الباطشة ، من أول "على الزيبق" حتى "أدهم الشرقاوى" ، استخداما لهم بدلاء عن المخلص القابع فى رحم الغيب ، راضين بتسلطهم عليهم مقابل تحقيق العدل المنشود ، والحماية المرجوة ، يسرقونهم ويأخذون الإتاوات منهم ، لكنهم أقل ضررا ولصوصية من المحتل الأجنبى وهروات شرطته ، أن أفعالهم فى العقل الجمعى المستلب "قضاء أخف من قضاء" ، وهم فى نظر الوعي المزيف أبطال (شعبيين) غير رسميين ، يناوئون السلطة التى لا يقدرون عليها ، وقد يستلبون بعض قوت البسطاء لأنفسهم ، ويسرقون بعض مخازن السلطة لصالحهم ، فيحققون المثل القائل "أنا وأخى على ابن عمى ، وأنا وأبن عمى على الغريب" ، مضطرين فى النهاية لاختيار الأفضل نوعا ما من بين مجموع اللصوص الحاكمة 0                  

        هكذا تبدو صياغة "محفوظ" لشخصية الشاطر الشعبى الفتوه "بيومى" الشهير ب "العترة" ، أى بالأصيل ، وهى الصفة الشهيرة فى الأحياء الشعبية تطلق على الرجل (الجدع) أو (المجدع) الذى لا يخشى قول الحق ، ولا يهاب من المواجهة ، وسوف تستخدم فى الفيلم كنغمة دائمة ومتكررة ، للدلالة على صعود البطل أو غريمه وانتصاره فى معركة من معارك الفيلم ، والبطل هنا ليس نبيلا خالصا ، بل هو إنسان يمتلك قلبا يحب ويكره ، وعقلا يفكر ويتأمل ، ويدا تمسك بالثمار وتغدر بالأشرار ، هو بطل تصنعه المخيلة الشعبية على شاكلتها ، لصا نبيلا ، فى موازاة مع (المستبد العادل) فى مخيلة أصحاب الفكر ، تصفق جماهير البسطاء فى ظلمة صالات السينمات الشعبية (الترسو) لبطلها المطحون مثلها ، والمنتقم على الشاشة للظلم الواقع عليها فى الواقع ، مثلما تدشن كتابات الحكماء والتابعين والموالين لنموذج الحاكم المحقق لطموحات الشعب بسيف المعز ، وينجح "محفوظ" بمهارة فى صياغة هذا النموذج السينمائى لشخصية (الفتوة) ، جامعا بين أحلام الفقراء وتصورات المثقفين ، ليقتحم به الحى الشعبى لكى يستعيد حقه ، ويعدل ميزان الكون المختل ، ويدخل به حارته ليلتقى بالمصادفة الثانية فى الفيلم ، بعد مصادفة لقاءه بالعالمة الفاتنة دون أن يعرف حقيقتها ، وهى مصادفة عودة الرجل الذى سيصبح غريمه ؛ المعلم "جعلص" (محمود المليجى) من السجن إلى الحارة ، بعد ثلاث سنوات غياب ، فى نفس يوم وصوله إليها ، وليتواجه فى ذات اللحظة مع المعلمة "شطة" المستولية على بيت أبيه ، والتى تخرج منه لحظة محاولة الأخ الأصغر الدخول إليه ، لتلقى به فى الشارع ، ولتؤكد قوتها أمام "جعلص" العائد من السجن ، والذى هيمنت على الحارة فى غيابه ، بينما يدعو شيخ الحارة وفتوته العجوز المعلم "إبراهيم" كلا من "جعلص" و"شطة" للتكاتف والوقوف معا ضد فتوات (الظاهر) و(الوايلى) والأحياء المجاورة 0

        تبدأ أحداث الدراما عامة بوصول وافد من خارجها ، غريب عنها ، أو كان غائبا عنها لزمن ، فيجد الأوضاع تسير على وتيرة غير مناسبة له ، فيحدث وصوله تحريكا للماء الساكن ، وتصادما بين إرادات الثابت والمتحرك ، ويبدأ الحدث الدرامى يتقدم بفعل حدة الصراع بين الإرادات والأفكار والطموحات عامة ، وبصورة خاصة وملموسة عبر قوة التنازع بين البطل Hero أو الشخصية الأولى protagonist ، والبطل الضد والمناوئ له antihero أو الشخصية النقيض antagonist ، وذلك سعيا لامتلاك سلطة مكان ، أو قلب فتاة ، أو صرة مال ، وقد فضل "محفوظ" بدء أحداث فيلمه بعودة مزدوجة لبطله الشهم "زقلط" من غياب طويل ، وبطله الضد "جعلص" من غياب قصير ، واضعا الأول فى حالة تأمل للمكان وتربص بمن يحكمه ، وواضعا الثانى فى حالة استعادة لمجده وهيمنته السابقة ، مهادنا فى البداية ، وموافقا على التحالف مع غريمته "شطة" ، حتى تسنح له فرصة الانقضاض على السلطة ، خاصة وأن صاحب المقهى سرعان ما وضع صورته على فرسه فى موضع الصدارة بالمقهى ، على حين يكرر مخمور الحارة الدائم أقواله المأثورة على أسماع القوى : "00000 يا عترة زمانك ، يا فتوة الحتة ، ليك شخطة ترعب أسد وتلبش الجتة" ، واضعا مكان النقط اسم "جعلص" مرة" واسم "شطة" مرة أخرى ، باعتبارهما المتصارعين على سلطة الحارة ، وما أن تسقط "شطة" إلى حين من فضاء الحارة ، حتى يأخذ فى التبديل بين أسمى "جعلص" و"زقلط" فى كلماته المادحة ،، كما يبدل صاحب المقهى وضع صورة المنتصر منهما على جدار المقهى ، مما يكشف عن هذا الدور الذى تلعبه القوى الضعيفة فى المجتمع من مؤازرة المرغم للباطش المنتصر ، ويقدم بالصور الساخرة رؤية الفيلم لهذه القوى الضعيفة ، التى تهلل للفاسد الخارج من السجن ، وتنحاز فئة منها للعائد المنتقم ، لما رأت فيه من علامات القوة ، وسمات القوى الشهم 0

     يهتم سيناريو الفيلم بخلق مجموعة من المواقف ، فى صورة مشاهد ، تبدو كمصادفات تجمع بين طرفى علاقة الكراهية المرتبطة بالصراع على السلطة ، وتخلق توترا دراميا طوال الوقت فيما بين البطل "زقلط" ونقيضه "جعلص" ، وأطراف علاقة الحب المتعلقة بالحصول على قلب وجسد الأنثى المتفجرة حيوية ، فيما بين "زقلط" و"زبيدة" و"جعلص" ، وذلك بإقامة "زقلط" وأخيه بفندق شعبى ، يطلان من شرفة حجرتهما على بيت "جعلص" الذى يقام فيه حفل الابتهاج بخروجه من السجن ، وتغنى فيه العالمة "زبيدة" لتلتقى عيونها بعيون "زقلط" ، ممهدة للتجاذب بينهما ، وواضعة إياها فى موقف الرفض ل "جعلص" ، فتتجلى واقفة فى منتصف المسافة بين الفتويين , ورأس المثلث المتوجه إليه صراع القطبين ، ويتماهى وجودها فى وجود الحارة ، ويصبح الحصول عليها موازيا للحصول على الحارة ، فتجرى بالتالى فى مجرى الفكر التقليدى الذى حكم الكثير من الأعمال الروائية والسينمائية والمسرحية ، والذى يجعل حضور المرأة مرادفا لحضور للوطن ، تبرز فيه "حميدة" فى رواية (زقاق المدق) و"فؤاده" فى قصة وفيلم (شيء من الخوف) و"خضرة" فى مسرحيات "سعد الدين وهبه" الأولى ، تنتهك كرامة الوطن بانتهاك كرامتها حينما يستولى عليها المخادعون والطغاة والمحتلين 0

        توالد الأبنية :

يكشف بناء الفيلم الدرامي فى تكوينه وحركته عن بناء اجتماعي مضمر بأعماقه ، يحتل الأبطال الأفراد فيه صدارة المشهد ، ويتحول الأفراد فيه إلى أتباع يسيرون خلف هذا أو ذاك ، فهم مجرد أقنان لا صوت لهم ولا فعل مؤثر ، ويصرخ الشحاذ منهم فى مفتتح الفيلم "حسنة قليلة يا جعانين يا مفجوعين" ، ويهتف فى ظلمة الليل أمام بيت الفتوة "جعلص" ، وهو يحتفل بعودته من السجن "يا شبعانين افتكروا الجعانين" ، ويمالئ المخمور السادة بنفس عبارات التقريظ الواحدة ، ويضع صاحب المقهى صورة الفتوة المنتصر محل صورة المنهزم ، وتتجمع المصادفات لتنسج نسيج حبكة تضع المستبد العادل فى مواجهة المستبد الظالم ، فلا يملك المتلقى حلا أمامه غير القبول بالأخف ضررا ، بداية من انتصار "زقلط" على المعلمة "شطة" وعودته لبيته ، وتجمع بعض الرجال حوله وتحولهم لأتباع له  ، لتنتهى المرحلة الأولى باستعادة البيت المسلوب دون كثير عناء ، لتبدأ المرحلة الثانية الشرسة بين الفتويين الكبيرين ، من أجل السيطرة على الحارة ، فيعاود "جعلص" التعاون مع غريمته القديمة "شطة" ، وينصب فخا ل "جعلص" لدفعه بمفرده لبيت التركى "إحسان بك" ، الذى اتفق مع التركى "عثمان بك" على إفشاله لصراع خاص بين الأتراك العثمانلية ، والذين يستخدمون الفتوات المصريين فى معاركهم الخاصة ، ونظرا لشجاعة "زقلط" ووصول رجاله إليه ، لم يستطع "جعلص" ورجاله القضاء عليه ، لكنه يستفيد من سرقة أحد أتباعه لمحفظة التركى ، ليدسها ببيت "زقلط" ، ويتم القبض عليه ليلة عرسه على "زبيدة" ، ويدخل السجن لسنوات خمس ، يغيب فيها عن الحارة ، تاركا أمر قيادتها ل "جعلص" 0

        يعود "زقلط" من سجنه إلى الحارة ، لتنتهى المرحلة الأخيرة من حكم الفتوات ، والذى أجرى الفيلم وقائعها فى العقد الثانى من القرن العشرين ، وقدم ملامح هذه الفترة على شاشته ، وأنجز المعركة الخيرة بين الفتوات ، والتى تظهر فيها حقيقة المكيدة التى وقع فيها "زقلط" ، وفى عنف المعركة تدخل الشرطة الرسمية ، لتنهى الصراع ، ولتقبض على الجميع ، معلنة بلسان مأمور القسم : "أن من يخالف القانون ويخرج عليه ، لازم يتربى" 0 أنه القوة الجديدة المنوط بها حماية الحارة ، وإزالة الشر ، وتحقيق العدل بين الناس ، والتى يضع صاحب المقهى صورته راكبا فرسه محل صور الفتوات الذين انتهى عهدهم 0

        يعلن الفيلم ، فى نهاية عام 1954 ، انتهاء زمن الصراع بين القوى المتصارعة على حكم الحارة / الوطن ، وعلى تسلم الشرطة ، وخلفها العسكر ، زمام الأمور ، غير أن النظام الاقتصادى والاجتماعى الذى يولد هؤلاء الفتوات لم يكن قد انتهى بعد ، ولم يتولد عن ثورة يوليو مجتمعها الجديد ، ولذلك ظهر فيلم الفتوة أوائل عام 1957 ، كتب "محفوظ" السيناريو له مع مخرجه "صلاح أبو سيف" وكاتب حواره "السيد بدير" ، والسيناريست "محمود صبحى" الذى شارك بطله "فريد شوقى" فى كتابة القصة السينمائية له ، عائدين جميعا إلى زمن ما قبل الثورة ، معلنين على تترات الفيلم أنه "وقعت حوادث هذه القصة أيام أن كانت فئة قليلة تتحكم فى أرزاق الناس وأقواتهم" ، غير أن المتلقى لهذا الفيلم ، والذى تدور أحداثه داخل سوق روض الفرج لبيع الخضار والفاكهة للبائعين الصغار والجائلين ، مازال قائما فى مكانه وقتذاك ، ومازالت وقائعه المشابهة تجرى يوما ، ولغة الحوار فى الفيلم تجرى بالفعل المضارع ، لطبيعة الدراما السينمائية ، وديكور الفيلم وملابس شخصياته ، وشوارع القاهرة ومبانيها هى ذاتها التى يعيشها ويعايشها متلقى الفيلم فى زمن عرضه ، والأعم من كل هذا هو أن هدم أسس بناء النظام القديم لم تكن قد اكتملت بعد ، وسياسة التجربة والخطأ لم تكن قد وجهت النظام الجديد نحو الطريق المطلوب لتغيير بنية النظام بأكملها ، ولهذا تتلاشي العبارات السابقة والمثبتة على عناوين الفيلم من ذاكرة المتلقى زمنذاك ، فور تلقيه الفيلم كصورة فنية لواقع اجتماعى يعرفه ، وسواء أكانت هذه العبارات من رصيد جهاز الرقابة على المصنفات الفنية ، الذى اعتاد الموافقة على عرض بعض الأفلام التى تناقش القضايا الراهنة بوجهة نظر ثاقبة أو حادة ، بدفع أصحابها إلى وضع لافتة (حدث هذا قبل 000) ؛ قبل ثورة يوليو ، أو قبل انقلاب مايو ، وبالطبع حاليا سيكون قبل ثورة يناير !! 0

        وصول آخر لشخصية جديدة من خارج المكان ، تنطلق به وبها حبكة الدراما السينمائية ، ويبنى على حضورها بناء فنيا يخبئ فى ثناياه حضور المجتمع وهمومه الراهنة ، وذلك عبر وصول الشاب "هريدى عمران" (فريد شوقى) طيبا ومسالما ، وليس جاهز التكوين كفتوة ، كما فى (فتوات الحسينية) ، وليس له بيت يبحث عنه ، ولا حق يسترده ، ولا يحمل بيده نبوت الفتونة ، بل هو وجود خام سيصنع منه مجتمع السوق الفتوه الذى يريده ، مثلما فعل مجتمع الأثرياء من "سلطان" (فريد شوقى أيضا ) قاتلا فى (جعلونى مجرما) ، قياسا مع الفارق فى التعاطف ، الذى يفتر مع الأول لأنه صار جشعا باطشا بأقوات الآخرين بإرادته ، ويقوى مع الثانى ، لأن المجتمع هو الذى وضع المسدس بيده ، ولهذا تختلف النهايات بين الفيلمين ، فبينما ينتهى الأول فى صراعه مع غريمه القوى ، ويعلن "موته حيا" ، يقبض على الثانى داخل المسجد ، وهو يعترف بخطئه ويكف عن الإيذاء 0

        يصل الصعيدى الفقير "هريدى" إلى القاهرة ، فلا يجد عند قريبه "عبد التواب" ، الذى سبقه للعمل بالعاصمة ، غير الفقر ، فيقبل أول عمل عرض عليه ، وهو أن يحل محل حمار مريض فى جر عربة خضار جار ل "عبد التواب" ، ولا يتوقف الأمر عند هذه المهنة الحقيرة التى يبدأ بها البطل حياته فى العاصمة وسوقها الضخم ، بل يزداد الأمر إهانة بدخوله السوق صباحا ، وتلقيه أول "دمغات" السوق ؛ صفعة على قفاه لإذلاله منذ البداية ، وإجباره على ترك كرامته خارج السوق قبل الدخول إليه ، فيقبل الإهانة ، غير أن المعلمة "حسنة" (تحية كاريوكا) تسخر منه وتعلمه بقاعدة العمل والحياة فى السوق الكبير "اللى عايز يعيش وسط الديابة لازم يبقى سبع ، ويرد بدراعه الضربة ضربتين" ، هذا هو القانون الأول الذى يتعلمه "هريدى" ، ويترسخ بأعماقه ، ويبدأ فورا فى تنفيذه بصفع ضاربه صفعتين كدمغة السوق ودمغة الصعيد معا 0

        نهايات ورسائل :

يتعلم بسرعة "هريدى" قوانين الحياة والعمل فى السوق ، وتتطور شخصيته الدرامية فى خط صاعد ، يدعمه ذكاء فطرى ، ووعى سليم بواقعه ، ووقوف وجدانى من "حسنة" إلى جواره ، تنقل له خبرته بالسوق والحياة معا ، ووقوف مناوئ لابرز فتوات السوق ؛ وهو المعلم "زيدان" (زكى رستم) الذى يسره سيناريو الفيلم فى تقديمه منذ أول مشاهده ، وفور تلقى "هريدى" لأول قوانين السوق ، وتنفيذها ، فيهم بتنفيذه على المار بعربته (الكاريته) كالسهم إلى جواره وجوار "حسنة" ، فتوقفه الأخيرة ، فالقانون سهل تنفيذه على البسطاء ، لكن الكبار بحاجة لسبل أخرى لتنفيذه عليهم ، خاصة مع المعلم "أبو زيد" محتكر السوق ورب الأسعار ، يرفعها ويخفضها كما يهوى لصالح مكاسبه الخاصة ، ومكاسب طبقة تتراكب داخلها الأدوار لصالحه فقط ، بغض النظر عن صالح المجتمع ، فهو جزء من كل ، يتحكم فيه نظام رأسمالى متوحش ، لا يهتم بجوع الفقراء وشقائهم 0

        تبدأ شخصية "هريدى" فى اكتساب معارفها أيضا من سياسة التجربة والخطأ ، فعهو قد قدم للسوق دون إيديولوجية تحكم خطواته ، ووجد نفسه وسط الذئاب بلا رؤية تحسم مواقفه معها ، فهو لا يملك غير طهلاة القلب ونصاعة اليد ، وهم يملكون كل شيء ، يبرز أمامه المعلم "زيدان" وتابعه "عبد الشكور" (توفيق الدقن) واجهة لسلسة من الرجال ، تتوسطها غانية تدعى "ثريا هانم" (مبمى شكيب) ، وتصل لنهايتها إلى ملك البلاد ، قبل ثورة يوليو ، مؤكدة على المشكل ليست فقط فى الشخص الظاهر كجزء من جبل الثلج الراسة قاعدته فى الأعماق ، وأن إسقاط "أبو زيد" وحلول "هريدى" محله ، دون الكشف عن قاعدة هذا النظام ونسفها ، لن يكون مجديا ، فقد هرع "هريدى" فى البداية لمناطحة "أبو زيد" بشراء الخضروات من الفلاحين مباشرة ، وبيعها بسعر رخيص ، ويقف إلى جواره ضابط شرطة السوق الشاب (كمال ياسين) ، وتحاول "حسنة" دفع بقية التجار لإزالة الخوف من داخلهم ، والعمل معا ضد "أبو زيد" ، لكن الخوف يسيطر على الجميع ، ومن وافق على العمل مع "هريدى" و"حسنة" اشترط العمل معهما سرا 0

        يفشل "هريدى" فى مناطحة "أبو زيد" ، لقيام الأخير بإفشال كل خططه ، وسرقة ما يجلبه من خضراوات من الفلاحين مباشرة دون وسيط ، فيضطر للجوء إلى الحيلة التى اشتهر بها الشطار والعيارين فى الحكايات الشعبية ، والتى تبدو جلية فى هذا الفيلم ، بسعى "هريدى" للإعتذار لدى "أبو زيد" والعمل معه ، لمعرفة أسراره فى العمل ومع بقية أعضاء النظام ، ويشى به لدى إدارة مكافحة التهرب الضريبى ليقبض عليه ، وتسقط لافتة "أبو زيد" وترتفع لافتة "هريدى عمران" ، ويبدأ نجمه فى العلو ، داخل نفس النظام ، ومع نفس الشخصيات ، ليحل الفتوة الجديد محل الفتوة القديم ، ويظل النظام مستمرا ، ويظل الصراع قائما بعودة "ابو زيد" بعد أن حمل تابعه "عبد الشكور" تهمة التهرب من الضرائب عنه ، ويندلع الصراع بين الفتويين ، ويتحول السوق إلى معركة دامية بين الطرفين وأنصارهما ، وتسقط صورهما مع صورة الملك المخلوع "فاروق" ، ويموت "أبو زيد" داخل ثلاجة الفاكهة ، ويخرج "هريدى" مهزوما منها ، ميتا وهو حى ، ويعلن ضابط الشرطة : "السوق عمره ما هيرتاح 00 أبو زيد وهريدى راحوا ، وألف زيهم هيجوا" ، وبالفعل يصل غيرهم ؛ فقير آخر (محمود المليجى) للسوق ، باحثا عن لقمة عيشه ، فيصُفع على قفاه ، بدمغة السوق ، ليتكرر معه نفس الموقف الذى بدأ به الفيلم ، وتظهر له معلمة أخرى (هدى سلطان) تكرر عليه نفس الكلمات التى سمعناها فى البداية ، فللسوق آلياته التى تكرر نفسها على الأشخاص ، مهما تعدد وجودهم 0

 

فى فيلم (فتوات الحسينية) ينهى دخول ضابط الشرطة عصر الفتوات ونموذج المستبد سواء أكان ظالما أم عادلا ، ، بينما ينهى ضابط شرطة آخر فيلم (الفتوة) باكتشاف أن عصر الفتوات والطغاة والمفسدين لم ينته بعد ، حتى ولو سقط ملك البلاد ، وحل محله نظام جمهورى ، فالنظام السياسى باق ، والأبنية الاقتصادية مستمرة ، والتغيير تم فقط فى الواجهات والصور المعلقة على الحوائط ، والثورة أسقطت نظاما دون أن تحل جديدا محله ، والمستبد قد يظهر مرة أخرى بعباءة العادل ، والشرطة التى تملك إنهاء الحبكات الدرامية لم تستطع تغيير النظام ، وهو ما أدركه "محفوظ" فى صياغته لسيناريو هذا الفيلم الأخير ، فى منتصف خمسينيات القرن الماضى ، وهو ما سيدفعه بقوة لنقل شخصية الفتوة لحارته الجديدة فى روايته (أولاد حارتنا) عام 1959 ، وفى أعماله الروائية والقصصية التالية ، عقب عودته للكتابة فى حقل السرد الروائى بعد توقف طويل ، ليقدم مجموعة من الفتوات النبلاء ، القادم كل واحد منهم برسالة مغايرة لصاحبه لتغيير المجتمع إلى ما هو أفضل ، وتحقيق العدالة على الأرض 

<!--

 بقلم / د. حسن عطية

<!-- [if gte mso -->

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,275,393