يعد "إبراهيم الحسينى" ، الفائز نصه الذى نتوقف عنده اليوم بالجائزة الأولى فى دورة عام 2012 لمسابقة مؤسسة ساويرس الثقافية ، واحدا من أبرز شباب الكتابة الدرامية للمسرح ، المنشغل كغيره من أبناء جيله بالتعبير السريع عن حركة الواقع الفوارة ، عبر نصوص تكتب مباشرة للعرض المسرحى ، وتتشكل ملامحها عادة أثناء الإعداد للعرض وخلال لقاءه بجمهوره ، غير أنه من قلائل جيله المهتم فى ذات الوقت بإتقان حرفته ككاتب درامى ، يعيد بناء الواقع المعيش فى صياغات جمالية ، تعبر عن اللحظة الساخنة ، لكنها تمتلك فى ذات الوقت القدرة على الخلود ، وبالتالى إمكانية تجاوزها للحظة إبداعها الزمنية ، لمخاطبة أزمنة أخرى قادمة .

   كما أن "الحسينى" مولع بقراءة التاريخ ، وإعادة قراءة الشخصيات التاريخية من منظور الواقع الراهن ، واعيا بأن الدراما في تصديها لأفعال الشخصيات في الماضي ، وإعادة صياغتها جماليا ، تعمل على تحضير التاريخ أمام متلقي اليوم ، فلا تتعامل مع الشخصيات التاريخية كأقنعة لشخصيات معاصرة ، يتخفى خلفها المبدع ليدلى برأيه في أحداث الواقع ، فالتخفي هنا هو نوع من المراوغة الفكرية قد يضطر إليها الفنان فى أزمنة البطش بالفكر ، أو لمجرد أن يُسقط المتلقي المعاصر همومه على صفحتها ، فهو نوع من المراوغة الفنية ، التي يجهد المتلقي نفسه وهو يعادل بين هذه الشخصية وتلك ، فيتم معها إفساد العمل الفني بأكمله 0

الأصدقاء الثلاثة

    وهذا ما لا يفعله "الحسينى" ، خاصة فى نصه الفائز والمعنون ب (الحشاشين) أو (جنة الحشاشين) ، والمكتوب من عدة سنوات ، حيث يبحر نحو الماضى ، ليلتقط موقفا شديد الدلالة ، تشير بعض المراجع التاريخية له ، وأن أثيرت حول حقيقته الكثير من الشكوك ، حيث يلتقى ثلاثة من عصر واحد وتحت حكم الدولة السلجوقية فى أيام صباهم ، وهم "عمر الخيام" و"نظام الملك" و"الحسن الصباح" ، جاءوا للدنيا جميعا فى بدايات القرن الخامس الهجرى ، أواخر الحادي عشر الميلادى ، ورغم أن الوقائع التاريخية تقول بأن "نظام الملك" قد سبق زميليه للدنيا بنحو عشرين عاما ، غير أن "الحسينى" فضل الارتكاز على واقعة اللقاء بينهم فى مرحلة الصبا بمدينة نيسابور ، وأدار حدثه الدرامى على فكرة التفرق بينهم ثم اللقاء بعد نحو ثلاثين عاما فى مدينة أصفهان عاصمة الدولى السلجوقية ، وقد حقق كل منهم حلمه المتشابك مع حركة الواقع ومتغيراته ، فيصبح "الخيام" شاعرا فيلسوفا وعالما ذائع الصيت ، ويضحى "نظام الملك" وزير الدولة القوى فى عهد السلطان "ملك شاه" ، ويمسى "الصباح" أحد قادة الطائفة الإسماعيلية النزارية ، وأبرز مؤسسيها ، والتى عرفت تاريخيا باسم جماعة (الحشاشين) ، يهيمن بفكره على أتباعه ، ويحركهم ضد من يخالفه الرأى كما يشاء 0

   عبر مجموعة من اللوحات المتلاحقة ، والتى تحمل أحرف الأبجدية العربية الثماني والعشرين ، فضلا عن عناوين دالة كعناوين الفصول الروائية التى لا تمنح نفسها إلا لقارئ النص المطبوع  ، تتحرك وقائع النص بداية بلوحة تحمل حرف الألف ، مقدمة صورة مرئية لسوق أصفهان حيث الخواء والأجولة الفارغة وأقدام ترتدى أحذية بأعناق طويلة ونعيق غربان وخنجر طائر يستقر بالحائط الذى ينام أسفله رجل عجوز ، أنها الافتتاحية القاتمة لمجتمع سوف يبدأ الحياة مع شعاع الشمس ، وتنتهي المسرحية بلوحة تحمل حرف الياء دون كلمات ، يدرك معها القارئ للنص أن المجتمع الذى تخلص فى النهاية من قلعة الموت والتطرف ، لم يتخلص بعد من صناع هذه القلعة وأفكارها ، وهو ما قد يثور بذهن المشاهد لعرض هذا النص وهو يخرج من المسرح مدركا أن المسرح لا يحل مشاكل الواقع بنهايات سعيدة مخدرة للعقول ، وإنما يثير هذه العقول لكى تتحرك لتحل مشاكلها بأيديها

  يبنى "الحسينى" نصه فى بنية درامية مسرحية تستفيد كثيرا من بنية الدراما السينمائية ، بتداخل دقيق للأنواع الفنية داخل بوتقة المسرح ، وهو أمر متكرر فى  أكثر من نص له ، (مثل نصه الذى يقدم هذا الأسبوع بمسرح الغد بعنوان زنزانة لكل مواطن) ، حيث الانتقالات المكانية والزمنية سريعة ، والمواقف تصارع الحوار فى تقديم شخصيات العمل ، والكشف عن مضمون النص ، والاستعمال للموسيقى والأغانى ارتفاعا وانخفاضا للتنقل بين حوارات المجموعات المنفصلة بأحاسيسها وأفكارها داخل المشهد الواحد ، والتوظيف الذكى للإضاءة باستخدام أسلوبى (الزوم) والمزج للانتقال من مشهد لآخر ، حيث ينتقل من مشهد قتل رجلين من جماعة الحشاشين لإمام جامع أصفهان لرفضه الانصياع لأفكار الجماعة ، بتركيز بؤرة إضاءة (زوم أن) على خنجر وعمامة القاتل فى نهاية المشهد ، مازجا به المشهد التالى فى قصر السلطان بتوسيع بؤرة الإضاءة (زوم أوت) لنرى الخنجر والعمامة بيد الوزير "نظام الملك" بعد القبض على القاتل ، كما يستخدم الفلاش باك بصورة مكثفة للغاية ، مع استخدام شريط الصوت الذى يستدعى فى الذاكرة المتعبة أصوات الماضى فى نهاية مشهد يثار فيه الوزير "نظام الملك" من هيام جاريته "سارة" برجل يدعى "عمر الخيام" فتجاهد ذاكرته فى استدعائه من لاوعيه ، فيتصاعد فى فضاء المسرح صوت لثلاثة من الصبية وهم يرددون الالفابائية دون أن نراهم ، فيتذكره ، وفى المشهد التالى يعاود صوت الصبية فى الظهور كمسمع حوارى ، بينما نرى على المسرح دخول مادى للأصدقاء الثلاثة وهم كبارا ، مع استمرار المسمع الحوارى بينهم وهم أطفالا ، والمشهد كله يبدو أقرب للحلم أو اللقاء المتخيل بين الأصدقاء الثلاثة ، كما يبدو مشهدا سابقا أمام سور المدينة ، يدخل فيه "الصباح" بصورة خيالية على الجنود وهم ينفذون حكم الإعدام فى قاتل إمام مسجد أصفهان ، ويستأذن قائد الحرس بأن يكون له شرف قتل أحد أعداء السلطان ، رغم أنه من أتباعه 0

لحظة تاريخية فاصلة

   ليس مهما فى هذا النص أن يكون الأصدقاء الثلاثة قد التقوا تاريخيا وهم صبية معا وتعارفوا ، أو حتى كانوا أصدقاء ، فللدراما منطقها الخاص ، وحضور التاريخ بفضاء المسرح فى الزمن الراهن ، لا يتطلب الالتزام المدرسى إلا بالوقائع الأساسية التى لا يمكن تغييرها ، ومن قبل تخيل "بيتر فايس" لقاء لم يحدث بين الزعيم الثورى "جان بول مارا" والماركيز "دى صاد" فى مسرحيتة الشهيرة ، ومن بعده تخيل الكاتب التونسى "إبراهيم بن عمر" فى مسرحيته (طواسين) التى قدمت فى مهرجان بغداد الأخير ، تخيل أن العالم أجتاحه طوفان مجهول ، ولم يبق على اليابسة ، وبداخل أحد الكهوف غير أربعة رجال هم "الحسين بن منصور الحلاج" و"شهاب الدين السهروردى" و"محيي الدين ابن عربى" "حامد بن قرمط" قادمين من القرون الرابع والخامس والسادس الهجريين 0 و"الحسينى" اقتنص فكرة لقاء الطفولة ، ليؤكد على أن إرادة الفرد تكمن فى حلمه صغيرا ، وتنمو بقدراته لتصل به إلى ما يود أن يكونه ، ولذا حلم الثلاثة بما يريدون أن يكونوا عليه ، ووصل كل واحد منهم لما حلم به ، وصاروا فى نفس الوقت أبرز قوى المجتمع الإسلامى فى الزمن القديم : قوة الحكم المتدثر بعباءة العدل والمحتوى لكل الأطياف والأعراق ، وقوة الثقافة المنفتحة على كل الأفكار والرؤى والجامعة العلم والشعر فى أرقى صورهما ، وقوة التطرف المتخفية فى أردية دينية لاغتيال كل مخالف لها ، واستدعاهم النص الدرامى ليطرح من خلالهم هموم اللحظة الراهنة ، وليناقش المتلقى عبر حركتهم داخل مجتمع النص ، وما قد يعرفهم عنهم فى التاريخ ، قضايا مجتمع التلقى الذى تشغله وتدور حول أدوار السلطة السياسية والثقافية والمعارضة فى المجتمع المضطرب والعالم الصاخب والأعداء المتربصون 0

   يلتقى الأصدقاء الثلاثة فى لحظة تاريخية يوحى بها النص ، عقب وفاة السلطان  "ألب أرسلان" (تقريبا عام 1072) ، والتوترات تسرى فى أوصال المجتمع الإسلامى الكبير ، والتربصات العدائية تحيط به ، فشقيق الملك المتوفى "سليمان" ينازع ابنه "ملك شاه" الحكم ، وإمبراطور الروم "أرمانوس" الذى هزمه "أرسلان" ، يسعى للانتقام والحصول على القدس ، ممهدا لما للحروب الأوربية الكاثوليكية المعروفة بالحروب الصليبية على الشرق العربى الإسلامى 0 يلتقى الأصدقاء الثلاثة بقصر السلطان "ملك شاه" عقب وفاة السلطان  "ألب أرسلان" عام 1072 ، بعد أن تفرقوا فى الحياة لثلاثة عقود ، وتبدأ رحلتهم فى الحياة بالتشابك المأسوى ، حيث يعين "الصباح" أمينا للقصر ، فيبدأ فى بذر بذور الفتنة داخله ، بين السلطان ووزيره الأول ، ويموت غيلة الأمير "أياس" شقيق "ملك شاه" بغرفته وتحت حراسة الجميع ، ويستدرج صديقيه إلى قصره المنيع (الموت) ، كاشفا عن حقد دفين بأعماقه قاده للبحث عنهما والعمل على إذلالهما ، انتقاما من ضحكهما عليه يوم خالف رأى أستاذه صغيرا ، فقام أستاذه بطرده وتجريسه ، وهو اليوم بحاجة لهما ، لكى يجمع سلطة المحارب وسلطة الحكمة لدى صديقيه إلى سلطة القوة والهيمنة القائمة على السمع والطاعة ، وتفضيل الأخرى على الدنيا 0 بينما يصرا هما ، ومعهما سلطان البلد على التخلص من "الحسن الصباح وجماعته ، حتى ينجحوا جميعا فى القضاء على قلعة الموت والطاعة العمياء ، غير أن الكاتب أصر كما أشرنا سابقا على أن يكون الانتصار على إحدى بؤر التطرف المعلنة فقط ، بينما تظل بقية البؤر الداخلية والخارجية قائمة ، ويظل "الصباح" يرتع بفكره الفاسد فى أرجاء الإمبراطورية الشاسعة وخارجها أيضا 0

    نص جميل ورائع ، مكتوب بلغة راقية دون تقعر ، ومصاغ فى بنية درامية محكمة ، وأن تطلبت مخرجا موهوبا وواعيا ، وإنتاجا يخرج هذا النص فى عرض ممتع ومفيد ومثير للوعى الصحيح 0

بقلم/ د. حسن عطية 

المصدر/ جريدة مسرحنا

2013/2/26

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,273,715