عصام زكريا - القاهرة
اثنتان من كلاسيكيات فن الرواية ومن روائع القصص عبر العصور، لعلهما الأكثر تأثيراً في حياة شعوب اليوم. «البؤساء» للفرنسي فيكتور هوجو، و«آنا كارينينا» للروسي ليو تولستوي، كل منهما تحولت إلى فيلم هوليوودي ضخم الإنتاج، مرصع بألمع النجوم والنجمات، قام على إخراجه اثنان من الأسماء الكبيرة، ورشح كل منهما لعدد من جوائز الأوسكار الأخيرة.
أول ما يلفت الانتباه هو سر العودة إلى هاتين الروايتين العتيقتين، الأولى وهي «البؤساء» نشرت لأول مرة عام 1862، أي منذ قرن ونصف القرن بالتمام والكمال، والثانية بدأ نشرها بعد الأولى بحوالي عشر سنوات، عام 1873 على حلقات في إحدى الصحف، قبل أن تنشر كاملة في كتاب بعد ذلك بعدة سنوات. هل الأمر صدفة أم أن هناك خيطاً غير مرئي يصل بين النصف الثاني من القرن التاسع والربع الأول من القرن الحادي والعشرين؟
ثاني ما يلفت الانتباه هو المعالجة السينمائية لكلا الفيلمين، والتي تختلف تماماً عن معظم المعالجات السينمائية للروايات الأدبية القديمة. «البؤساء» فيلم موسيقي غنائي بالكامل، سمه «أوبرا» شعبية سينمائية إن أحببت. و«آنا كارينينا» فيلم في قالب مسرحي، تلعب فيه الموسيقى دوراً كبيراً، هو أشبه بـ«باليه» سينمائي، أو واحد من عروض المسرح التجريبي الحديث.
ثالث ما يلفت الانتباه هو أن الفيلمين من إنتاج إنجليزي، لاثنين من المخرجين الإنجليز، صاحب «البؤساء» هو توم هوبارد الحاصل على أوسكار أفضل فيلم ومخرج وممثل في العام الماضي عن فيلمه «خطبة الملك»، أما صاحب «آنا كارينينا» فهو جو رايت الذي حصلت أفلامه السابقة مثل «كبرياء وتحامل» و«التكفير» على عدد من ترشيحات وجوائز الأوسكار وغيرها. هل الإنجليز أكثر ولعاً بالأدب الكلاسيكي؟ وهل هم أكثر قدرة على تحويله إلى أفلام؟
رابع ما يلفت الانتباه هو كم وحجم النجوم الذين يقبلون على هذه النوعية من الأفلام الرصينة الثقيلة كما يهفو الظمآن إلى الماء العذب. لا يشغل بال الواحد منهم حجم دوره أو اسمه على الأفيش أو المبلغ الذي سيحصل عليه عن الدور. يكفي الإشارة إلى ممثلة واحدة هي آن هيثاواي، التي لعبت دور المرأة القطة في فيلم الحركة التجاري «صعود باتمان»، وهو دور وضعها على قائمة النساء الأكثر جاذبية والأعلى سعراً في عالم الأفلام، ولكنها في «البؤساء» ارتضت، بل أقبلت على، لعب دور «كوزيت»، وهو دور ثانوي قصير تقوم خلاله بحلق رأسها والظهور كفتاة هزيلة مريضة فقدت وزنها وبعض أسنانها.
في «آنا كارينينا» يقبل النجم جود لو، صاحب لقب الرجل الأكثر جاذبية، أن يلعب دور الزوج المسن المخدوع «أليكس كارينين» الذي تخونه زوجته «آنا» مع شاب صغير، ومن أجل الدور يغطي وجهه الوسيم بلحية ونظارة طبية ويحلق جزءاً من شعر رأسه ليبدو صاحب صلعة كبيرة.
رواية الثورة
في استطلاع عن أكثر الكتب التي أثّرت في حياة الفرنسيين جاءت رواية «البؤساء» في المركز الأول بفارق كبير. «البؤساء» هي رواية المأساة الإنسانية، التي تختلف تماماً عن مآسي أبطال الإغريق أو شكسبير، المأساة بمعنى البؤس لا التراجيديا، حيث العواطف الجياشة والدموع الغزيرة، لكنها أيضاً رواية الثورة الفرنسية بامتياز، ليس فقط لأنها تتحدث في جزء منها عن تمرد 1832 الذي يعد إحدى حلقات الثورة الفرنسية، ولكن لأن أحداثها بالكامل مبنية على نقد النظام الإقطاعي الملكي والنظم الاجتماعية الظالمة التي تسمح بالتفاوت الاقتصادي الساحق بين الطبقات.
الطريف أن الرواية حين نشرها قوبلت باستهجان نقدي ملحوظ، ولكنها حققت شعبية كبيرة بين الجمهور، وتوالت طبعاتها وترجماتها إلى معظم لغات العالم، وفي العالم العربي قام الشاعر خليل مطران بترجمة بعض فصولها في الثلاثينيات، وصدرت طبعتها الكاملة التي تزيد على ألفي صفحة عام 1955 من ترجمة منير بعلبكي عن «دار العلم للملايين»، ومع ذلك فإن الترجمات المختصرة بشدة للرواية هي الأكثر ذيوعاً في العالم العربي. ومثلما حدث في بلاد كثيرة ظهرت الرواية في عدد من الأفلام الفرنسية والعالمية وأيضاً المصرية، لعل أشهرها فيلمان حملا نفس الاسم: الأول من إخراج كمال سليم عام 1942، والثاني من إخراج عاطف سالم وبطولة فريد شوقي عام 1978.
الفيلم الجديد مع ذلك ليس اقتباساً من الرواية، ولكنه معالجة سينمائية لمسرحية موسيقية شهيرة تعرض على مسارح لندن والعالم منذ عام 1985. الطريف أيضاً أن المسرحية بدأت في فرنسا قبل ذلك بعدة أعوام، حيث لاقت نجاحاً محدوداً، ولكن طبعتها بالإنجليزية أثارت جنون الجماهير بالرغم من أن النقاد استقبلوها أيضاً ببرود شديد.. وهو نفس ما حدث مع الفيلم الجديد الذي حقق إيرادات هائلة واستقبالاً نقدياً متوسطاً!
يلعب شخصية جان فالجان الشهيرة نجم الحركة وبطل سلسلة أفلام X MEN هيو جاكمان، بينما يلعب دور غريمه اللدود المفتش جافير الممثل راسل كرو. المدهش ليس فقط أن الممثلين هم الذين يغنون بأصواتهم في الفيلم، ولكن لأول مرة في تاريخ السينما الغنائية يقوم الممثلون بالغناء مباشرة أمام الكاميرا، وليس في استوديو للصوت!!
المدهش أيضاً في الفيلم هو عنصر التصوير الذي نزع عن العمل كلا من لغته الأدبية والمسرحية وحوله إلى نوع من السينما الخالصة.
.. ورواية المرأة
إذا كانت «البؤساء» هي الرواية الأشهر بين الجماهير، فإن «آنا كارينينا» هي الرواية الأفضل في تاريخ الأدب، وفقاً لكثير من استطلاعات الرأي بين المتخصصين. هي درة أعمال ليو تولستوي والأدب الروسي الكلاسيكي، وأيضاً واحدة من أكثر الروايات تحولاً إلى أفلام، ومن أشهرها الفيلم الأميركي الذي لعبت بطولته الأسطورة جريتا جاربو، وفي مصر فيلم «نهر الحب» الذي أخرجه عز الدين ذو الفقار ولعب بطولته فاتن حمامة وعمر الشريف وزكي رستم.
تكتسب رواية «آنا كارينينا» أهميتها من اهتمام مؤلفها بتحليل سيكولوجية بطلته دون اتخاذ حكم أخلاقي عليها، وقدرته على اكتشاف عنصر العشوائية والعقل غير الواعي في اتخاذ المرء لقراراته المصيرية، حتى يقال إن تولستوي في هذه الرواية اكتشف ما يعرف بـ«تيار الوعي» قبل ظهوره على يد فيرجينيا وولف ومارسيل بروست بنصف قرن تقريباً!
عنصر التصوير هو أيضاً ما يميز فيلم «آنا كارينينا»، وقبله الأسلوب شبه المسرحي للعرض، حيث تتوالى مشاهد الفيلم وكأننا داخل مسرح هائل الحجم، نرى طبقاته وكواليسه وعماله وهم يقومون بتغيير الديكورات.
الموسيقى تلعب دوراً أساسياً أيضاً، وتشكل مع حركة الممثلين داخل «الكادر»، أو ما يعرف بالـ «ميزانسين»، ما يشبه الباليه السينمائي.. يساعد على ذلك اختيار الممثلة كيرا نايتلي ذات القوام الرشيق شديد التعبيرية.
يقال إنه لا جديد تحت الشمس.. ولكن السينما تدهشنا دائماً بقدرتها على تقديم الجديد والمبهر دائماً.. حتى لو كانت تعالج قصصاً عمرها قرون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر / مجلة الدوحة ، فبراير 2013
ساحة النقاش