سعداء الدعاس
قبل أن يتحول (جلال الدين الرومي) إلى أحد أبرز المتصوفين في العالم ، كان فقيها أرستقراطيا ، واسع الثراء ، فوجئ ذات يوم برجل (درويش) رث المظهر، يتناول من بين يديه كتابا كان يستمتع بقراءته ، قلـّبه ، ثم قذف به إلى النهر ، غضب (الرومي) وراح يعدد مزايا ذلك الكتاب (المخطوط) . مد (الدرويش) يده إلى النهر، أخرج الكتاب جافا كما كان ، تعجب ( الرومي) من قدرته تلك ، وسأله أن يمده بعلمه . وافق الرجل بعد أن اشترط عليه بيع الخمر للناس ، ورغم أنه استنكر هذا الفعل لمكانته الدينية ، إلا أن ( ابن الرومي) خضع في النهاية لذلك الشرط ، مؤملا نفسه باكتساب علم جديد . فقضى يوما محرجًا وهو يدور بين الناس يعرض عليهم بضاعته المحرّمة . عاد بعدها مكسورا إثر ردود الأفعال القاسية التي تعرض لها ، فطمأنه الشيخ وأبلغه بنجاحه في الوصول إلى أولى مراتب العلم (الجديد) . لم يمض على تلك الحادثة سوى أشهر معدودة ، حتى تحول بعدها (جلال الدين الرومي) إلى عالم صوفي كبير له عشاق ومريدون ينتمون إلى أديان مختلفة ، في كل بقاع العالم .
أولى الخطوات نحو الصوفية تتمثل في نسف الأعراف والتقاليد وكل ما اعتاد عليه الانسان ، للخروج من عبودية الآخر/المجتمع ، والوصول إلى عبادة الله من منطلق الارادة الحرة . ذلك ما أراد قوله (الدرويش) عبر سحقه لما يسكن (ابن الرومي) من قناعات شكلتها ألقاب (الفقيه ، الجليل ، الوجيه..إلخ ) ، ليحل محلها انسان مجرد ، أعزل ، مُقبل على معرفة جديدة ، تتحول مع الزمن إلى عشق من نوع آخر ، بعيدًا عن الأحكام والأعراف المسبقة .
حكاية تصوّف (جلال الدين الرومي) تلك ، أتذكرها كلما حضرت عرضـًا مسرحيًا أو شاهدت مسلسلا دراميًا يحوي ذات الوجوه ، بذات الأداء ، وإن كانوا بأزياء أخرى ضمن فضاء آخر.
فالممثل مصاب بداء مماثل ، لأنه (معروف ، محبوب ، ثري) ، وفي كثير من الأحيان هو (قدير ، كبير ، رائد) ، بالإضافة إلى العديد من الألقاب المجانية التي تطلق على النجوم عادة ، في أي مضمار . فالنجم (الممثل ، المطرب ، الإعلامي ، السياسي ، الكاتب ، ورجل الدين أيضًا) ، قد يتحول بفضل الألقاب والمسميات إلى ورم سرطاني كبير ، يزداد تضخما كلما زاد إعجاب الآخر به ، هذا الورم كفيل بحرمان الخلايا الجديدة من النمو والتطور، وربما حرمانها من التنفس أيضا ، فتموت قبل أوانها .
فهل سألنا أنفسنا مرة : كم ممثلا لدينا أقدم على نسف كل مفاهيمه الفنية والدرامية السابقة لإحلال مفاهيم أخرى بناء على قراءات ومشاهدات مختلفة ؟ كم ممثلا قرر سلخ جلده واستبداله بآخر يمتلك الصفات الجينية ذاتها بمعطيات جديدة ؟
لا أعني هنا السلخ الظاهري الذي لا يتجاوز ( لوك ) جديد ، بمعية حواجب فتيات (الجيشا) ، وشعرا اصطناعيا ، أو أصباغا ترسم تقاطيع وجه منتفخ . كما لا أعني ذلك الفهم السطحي للتغيير عبر تأدية أدوار مختلفة ( سجين بلباس مخطط ، ومجنون بشعر أشعث ، وطبيب برداء أبيض ونظارة ) ، حيث تؤدّى جميعها بذات الـ (تون) ، الإيماءة ، النظرة ، والحركة أيضًا .
تجديد الخلايا الذي أعنيه لابد أن يأتي نتيجة وعي تام بضرورة التغيير الجذري عبر الخضوع لتمارين مكثفة تحت اشراف مخرج صاحب رؤية وفكر متكئ على ثقافة واسعة ، يدرك أن بناء الممثل الجديد لا يتم على أنقاض ممثل سابق ، وبالتالي لابد من قتل (النجم) الكامن بين ثنايا هذا الجسد ، للوصول إلى حالة من التجلي (الحر) على خشبة المسرح ، فيصبح عندها كل تمرين / مشهد يؤديه الممثل ، ميلادا جديدا .
* * *
بوح أخير :
يرى بعض المخرجين أن الممثل (الوليد) مرتع جيد لتفريغ قناعاتهم الشخصية، كما أن بعض الممثلين يؤمنون بمُعلميهم إلى حد التماهي ، ولا ضير من المرور بهذه المرحلة في البدايات فقط ، لكن الكارثة حين يستمر التماهي ، لتتحول مرحلة الهدم والبناء تلك إلى حالة من (البرمجة) ، يُؤدلـَج فيها الممثل بأفكار ومعتقدات المخرج ... وحده الممثل الواعي ، المثقف ، يستطيع الخلاص من تلك السطوة.
ساحة النقاش