مصطفى رجب

الكتاب من أحدث إصدارات مكتبة الأسرة، والتي تصدرها الهيئة العامة للكتاب، والكتاب يتكون من بابين بعنوان «عصر شكسبير»، والباب الثاني بعنوان «من شكسبير إلى بايرون»، وقد جاء الكتاب في حوالي 240 صفحة والكتاب من تأليف د.نهاد صليحة.
وقد حاولت المؤلفة اصطحاب القارئ في جولة مبتكرة في جنبات تاريخ المسرح الإنجليزي، جولة يتوقف عندها القارئ عند محطاته الرئيسية لنتأمل معالمها عن قرب ونلامس إبداعاتها الفنية ملامسة حميمة فهذا ليس كتاباً تقليدياً في تاريخ المسرح الإنجليزي، ترد فيه النصوص المسرحية كأسماء عابرة متلاحقة، لا تعني شيئاً للقارئ الذي لم يطلع عليها، ولا تبقى في الذاكرة طويلاً، بل هو محاولة لبناء صورة حية نابضة لحقيقة تاريخ المسرح العريق، طريق التحليل المفصل، الفني والفكري، لأهم التيارات والنصوص المسرحية التي شكلت ملامح كل محطة من محطاته.

فهذا الكتاب لا يكتفي بعرض الهيكل العظمي لتاريخ المسرح الإنجليزي بل يحاول أن يتلمس جسده الحي ودماه الساخنة التي هي نصوصه الفنية... تلك النصوص التي كانت يوماً واندثر بعضها بينما لا يزال بعضها الآخر يحيا بيننا ويجدد ثيابه من عصر إلى عصر.

الكوميديا الرومانسية قبل شكسبير

وتعتبر المؤلفة أن جون ليلي (1554-1606) وروبرت جرين (-1560 1592) وجون بيل (1565-1591) الرواد الحقيقيين في مجال الكوميديا الرومانسية في إنجلترا- ذلك الشكل الفني التي تفردت به الدراما الإنجليزية عن غيرها والذي طوره ووصل به إلى مرحلة الاكتمال الكاتب العظيم شكسبير.

والكوميديا الرومانسية تختلف اختلافاً كبيراً عن كوميديا النقد الاجتماعي أو كوميديا الأنماط الساخرة أو كوميديا المواقف الواقعية التي تقوم على المفارقات الضاحكة –تلك الأنواع التي تأثرت بالدرجة الأولى بالكوميديات الرومانية خاصة كوميديات تيرانس وبلاوتس.

وسوف نحاول هنا أن نحدد الملامح الأساسية التي تميز الكوميديا الرومانسية وذلك من خلال عرض موجز لتاريخ ظهور بعض هذه الملامح الأساسية وأيضاً من خلال المناقشة التفصيلية لبعض أعمال الرواد السابق ذكرهم.

وقد تبلورت الدراما الإنجليزية بشخصيتها المتفردة نتيجة لابتعادها عن الدين والكنيسة (كما حدث في أوروبا كلها) وامتزاجها بالتراث الأدبي الكلاسيكي من ناحية وبالتراث الأدبي الشعبي من ناحية أخرى. بدأ الانفصال عن الكنيسة عام 1210 عندما صدر قانون يحرم العروض المسرحية داخل الكنائس. ونتيجة لهذا انتقلت العروض المسرحية من الكنيسة إلى الساحات الشعبية أثناء المهرجانات والمناسبات الدينية.
وامتزج العرض المسرحي الديني بالشارع وبدأت عناصر جديدة تزحف إليه مثل استخدام اللغة المحلية بدلاً من اللاتينية ومثل دخول بعض الشخصيات الواقعية والمشاهد الهزلية والتعليقات الساخرة على الأحداث الجارية إلى العرض.

ولكن ربما كان عنصر الحبكة الثانوية ـ أو الحبكة الثانية في بعض الأحيان ـ هو أهم العناصر الدرامية الجديدة التي تبلورت في العروض شبه الدينية التي ميزت هذه الفترة. لقد وصف النقاد والمؤرخون هذه التركيبة الدرامية الجديدة: وهي وجود حبكة أساسية وإلى جوارها حبكة أخرى مساندة تثري أبعاد الحبكة الأولى وتوضحها وقد تعلق عليها أو تسخر منها ـ وصف النقاد هذه التركيبة الدرامية بأنها «شكل فتي تفردت به الدراما الإنجليزية في هذه الفترة وكان نبتاً محلياً صرفاً لا نجد له مقابلاً في الأشكال الدرامية التي ظهرت في أوروبا ولا في التراث الكلاسيكي الذي ظهر في عصر النهضة. وقد ظهرت ملامح التركيبة الدرامية الجديدة ربما لأول مرة في مسرحية الراعي الثاني وهي تنتمي إلى مجموعات المسرحيات التي كانت تعرض في مقاطعة ويكفيلد وتعرف باسم مجموعة أو دورة ويكفيلد.

وعن طريق استخدام تلك التركيبة الدرامية الجديدة تمكن الكاتب المسرحي حينذاك من إعطاء الحدث الديني التاريخي الذي كان يشغل الحبكة الأساسية أبعاداً إنسانية واقعية معاصرة ولوناً محلياً يسهل التعاطف معه عن طريق الحبكة الثانوية المساندة بشخصيتها الواقعية ومشاهدها الهزلية بحيث لم يعد الحدث الديني التاريخي مهماً في حد ذاته وإنما في تأثيره في حياة الإنسان العادي المعاصر.

إننا إذا حاولنا وصف مسرح جون ليلي في إيجاز نجده مسرحاً يقترب إلى حد كبير من الشعر في لغته المنمقة المتوازنة التي تحفل بالصور الفنية والمحسنات البديعية مما ينقص من دراميتها بعض الشيء. حيث إن كل الشخصيات تتكلم هذه اللغة دون استثناء. ولكنه مسرح أدخل الحب الرومانسي لأول مرة كأساس للصراع الدرامي المحلي ذي الحبكة الثنائية وابتعد عن الواقع وعمد إلى الأساطير الشعبية والكلاسيكية في استلهام موضوعاته وجوه شخصياته. وفي كل هذه الملامح ـ السلبي منها والإيجابي ـ نجد أن ليلي قد ساهم بدور كبير في بلورة الكوميديا الرومانسية كما نعرفها في أعمال شكسبير سواء في أشكالها الفجة كما نجدها في مسرحية واحدة بواحدة مثلاً أو في أبهى صورها كما نعرفها في مسرحية كما تهوى.

فالكوميديا الرومانسية الإنجليزية كما نعرفها عند شكسبير ـ تلك الكوميديا التي تدور حول الحب بمعناه الرومانسي، والتي تعتمد في بنائها الدرامي على تركيبة الحبكات الثنائية أو المتعددة، وتتجاهل الوحدات الكلاسيكية الثلاث مع احتفاظها بالتقسيم الكلاسيكي إلى خمسة فصول مقسمة إلى مشاهد، والتي تتحقق لها الوحدة الفنية ليس عن طريق وحدة الحدث بالمعنى الأرسطي، وإنما عن طريق ترابط حبكاتها ترابطاً استعارياً يحقق لها وحدة شعرية شعورية- تلك الكوميديا التي تنهل بعمق من التراث الشعبي، والفولكلور الشفهي، والأدب الكلاسيكي على السواء والتي يؤهلها الأمراء والبسطاء وأبطال الأساطير والحواديت الشعبية والسحرة والجن على السواء ـ هذه الكوميديا لم تكن لتوجد لولا إنجازات هؤلاء الرواد الثلاثة مجتمعين.

وإذا نظر القارئ نظرة سريعة إلى إنتاج المسرح في عصر الملكة إليزابيث الأولى، أي إلى المسرح في إنجلترا في الفترة من منتصف القرن السادس عشر وحتى بدايات القرن السابع عشر، سوف يدهش لكم التنوع والتجريب الذي احتوته هذه الفترة. فإلى جانب عدد هائل من التراجيديات المتنوعة، سيجد الكوميديا الرومانسية الشعبية (التي تحدثنا عنها في الجزء السابق)، وكوميديا الأمزجة التي تأثرت بنظريات بعلم النفس التي سادت ذلك العصر والتي برع فيها بن جونسون، والمسرحية السياسية الساخرة التي كانت عادة تنتهي بإلقاء كاتبها في السجن، وسيجد القارئ أيضاً الكوميديا الواقعية النقدية التي تهدف إلى إصلاح المجتمع ولكن إلى جانب هذا وذاك، ظهر في المسرح الإليزابيثي نوع من الكوميديا التي يمكن وصفها بأنها كوميديا واقعية حياديه... تلك التي تعرف باسم كوميدي المدينة. وهذا النوع من الكوميديا هو موضوع حديثنا الآن وسوف نتعرض فيه لكاتب بعينه هو توماس ميدلتون ولمسرحية بعينها هي أنه عالم مجنون يا سادة.

1 - الواقعية الرومانسية:
ارتبط ظهور الواقعية الرومانسية في المسرح الإنجليزي في أواخر عهد الملكة إليزابيث الأولى ( كما ذكرنا من قبل) ببزوغ الطبقة البرجوازية الجديدة من التجار والصناع وأرباب الحرف من ساكني المدينة. واستمرت الواقعية في الازدهار مع نفوذ هذه الطبقة في عصر الملك جيمس الأول الذي خلف إليزابيث على عرش إنجلترا إذ شجع هذا الملك نظام بيع حقوق احتكار بعض الصناعات والأنشطة التجارية مما جعل بعض أعيان هذه الطبقة العصامية البروتستانتية الجديدة قوة اقتصادية وسياسية فعالة تمكنت في عهد ابنه تشارلز الأول من قلب نظام الحكم وإعلان الجمهورية لفترة.

وتولد من التيار الواقعي في المسرح آنذاك نوع جديد من التراجيديا الواقعية هو التراجيديا العائلية التي طرحت الهموم الأخلاقية للطبقة الجديدة وسنتعرض لها بعد قليل، كما نتج نوع من الكوميديا الواقعية هو كوميديا المدينة (وقد تعرضنا لها من قبل بالتفصيل). ورغم أن كتاب كوميديا المدينة قد ركزوا في تصويرهم لحياة أهل لندن على عنصر السخرية ـ بدرجات متفاوتة تتراوح بين النقد اللاذع والضحك المتسامح المتعاطف- من قيم الطبقة الجديدة، وأسلوب حياتها، وتطلعاتها، وتكالبها على المادة (كما رأينا في مسرحية أنه عالم مجنون يا سادة)، إلا أن عدداً من كتاب الكوميديا في هذه الفترة حاولوا غض الطرف عن كل مثالب الطبقة الجديدة، وجهدوا في الاحتفال بها وتمجيدها. وتجاهل هؤلاء مظاهر وأبعاد التوتر الاجتماعي والسياسي الذي نشأ عن ظهور هذه الطبقة، وطرحوا في كوميدياتهم صورة زائفة لمجتمع مثالي يسوده الوفاق وذلك بتصوير هذه الطبقة كعنصر متجانس مع العناصر القديمة في عالم يعمه الوئام والسلام الاجتماعي الذي كانوا يرمزون إليه دائماً في أعمالهم في احتفال ختامي أو وليمة يؤمها الملك وجميع طبقات الشعب، يأكلون ويشربون ويمرحون معاً دون حواجز أو فواصل.

وإذا كان المسرح الشعبي الأوروبي في العصور الوسطى قد قام على دعائم التاريخ الديني، ونسج من قصص التكوين والأنبياء وأحداث الكتاب المقدس مسلسلات، والمسرحية المتصلة المتكاملة التي يطلق عليها حلقات أو دورات مسرحيات الأسرار (Mystery cycles) فإن المسرح الإنجليزي الجماهيري قد تعامل في مرحلته التالية مع التاريخ المكتوب القومي بنفس الحماس والإقبال ونجح في أن يترجم أحداث التاريخ المكتوب إلى صراعات وشخصيات وأحداث درامية وأن يخلق منها عالماً درامياً مسرحياً كامناً يموج بالدفء والحياة.

القارئ لمسرحيات شكسبير يلمس من مجرد تصفّح أعماله الكاملة ولعه الشديد بالتاريخ عموماً، قديمه وحديثه، وبتاريخ إنجلترا الحديث بوجه خاص. فإلى جانب المسرحيات التي استوحى فيها التاريخ الروماني مثل يوليوس قيصر وأنطونيو وكليوباترا، وكورايولانوس، وترويلاس وكريسيدا، نجده يتناول في سلسلة متعاقبة من المسرحيات تاريخ إنجلترا الحديث بادئاً بحياة وموت الملك جون وماراً بسيرة ريتشارد الثاني والسادس، وسيرة هنري الرابع التي عالجها في جزأين، ثم سيرة هنري الخامس وسيرة هنري السادس التي تناولها في ثلاثة أجزا، ومنتهياً بعصر الملك هنري الثامن والد إليزابيث الأولى مليكة عصره.


ربما كان عنصر الحبكة الثانوية ـ أو الحبكة الثانية في بعض الأحيان ـ هو أهم العناصر الدرامية الجديدة التي تبلورت في العروض شبه الدينية التي ميزت هذه الفترة. لقد وصف النقاد والمؤرخون هذه التركيبة الدرامية الجديدة: وهي وجود حبكة أساسية وإلى جوارها حبكة أخرى مساندة تثري أبعاد الحبكة الأولى


2 - النظرية و الدرامية والنقدية.
رغم دراية المؤلف الإليزابيثي بالقواعد الكلاسيكية التي استنها نقاد عصر النهضة مثل (أسكام)، (كاستلفترو)، (بوالو) وغيرهم إلا أنهم اختاروا أن يخرج عنها خضوعاً للذوق الجماهيري العام. فمؤلف المسرح في العصر الإليزابيثي وحتى عصر عودة الملكية لم يكن يكتب أدباً مسرحياً ليحفظه في الكتب.. بل كان يكتب نصاً للتمثيل والعرض.. وكان أشد ما يؤرقه هو انصراف الناس عنه، فقد كان هذا يعني خراب الديار ولهذا لم ينظر شكسبير إلى مسرحياته باعتبارها أعمالاً أدبية فلم يعنى بجمعها ونشرها ومراجعتها في حياته بعد أن اعتزل التمثيل وحياة المسرح.. وذلك رغم عنايته الفائقة بنشر ومراجعة سوناتاته وقصائده.. ولهذا السبب أيضاً كتب بن جونسون مسرحيتين على النهج الكلاسيكي هما سيجانوس وكاتيلين ليدفع عن نفسه تهمة السوقية المسرحية واتهم شكسبير ـ رغم إعجابه الشديد به ـ بالهمجية والتسيب في القصيدة التي رثاه فيها لأنه تجاهل القواعد الكلاسيكية.

لقد كان المؤلف الإليزابيثي يأخذ من التراث الكلاسيكي ما يناسبه ويتجاهل ما لا يستسيغه الذوق الجماهيري العام.. فنجده يحتفظ بالتقسيم الذي اقترحه الروماني (هوراس) في قصيدته فن الشعر فيقسم المسرحية إلى خمسة فصول، ونجده يستلهم الروماني (سينيكا) بينما يرفض وحدات الزمان والمكان والحدث التي رشحها ودعا إليها الشاعر سير فيليب سيدني في مقال دفاع عن الشعر الذي ظهر في آخر سنوات القرن السادس عشر مفضلاً عليها سيولة الزمان والمكان وتنوعه، والحبكة الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية ـ كما فعل شكسبير في مسرحية حلم ليلة صيف. لقد مثّل المسرح في عصر شكسبير فضاءً تجريدياً رمزياً يتسع لجميع الأمكنة والأزمنة.. كان مثل مسرح العصور الوسطى الرمزي مسرح الحياة وتاريخ البشرية المادي والروحي... ولهذا تميزت نصوص العصر الإليزابيثي بالانتقالات السريعة في الزمان والمكان فكأننا بصدد نص سينمائي ويكفي أن نتذكر في هذا الصدد أن أحد فصول مسرحية أنطونيو وكليوباترا يحتوي على ما لا يقل عن سبعة عشر مشهداً تنتقل بنا في إيقاع لاهث لا تقدر عليه إلا الكاميرا السينمائية من مكان إلى مكان.

كان المؤلف يستخدم اللغة في الإشارة إلى المكان والزمان ويخلق الإحساس به من خلال الوصف الإيحائي... وكان المتفرج يمتلك خيالاً نشطاً يقظاً مدرباً.. يشارك مشاركة إبداعية في إكمال عناصر الدراما والمنظر المسرحي.
وتغير الحال في عصر عودة الملكية فوجدنا الكلاسيكية تغدو النظرية المهيمنة التي تحكم كافة جوانب النشاط المسرحي من تأليف وتمثيل ونقد، وكان الملك وحاشيته قد تشبعوا بهذه النظرة إبان هجرتهم الطويلة في فرنسا معقل المسرح الكلاسيكي آنذاك. كان قوام النظرية الكلاسيكية كما تبلورت في فرنسا على أيدي بوالو وغيره من النقاد هو: 1 - الالتزام بوحدات الزمان والمكان والحدث.

2 - الالتزام بقواعد اللياقة التي تمنع مشاهد العنف أو القتل أو التعذيب إيماناً بأن ما يسمى بالجلال التراجيدي تنافى مع مثل هذه المشاهد.

3 - الالتزام بعدم خلط الأنواع فلا يجوز خلط الكوميديا بالتراجيديا أو الشعر بالنثر.

4 - الالتزام باللغة الخطابية البلاغية الرصينة المنمقة التي تسمى بالشخصيات الدرامية وترفعها فوق العامة.

5 - الالتزام بالمواضيع الأخلاقية السامية وخاصة موضوع الصراع بين الحب والواجب الذي غدا محور تراجيديات هذه الفترة.

وقد اختلف الدارسون في تحديد منابع كوميديا السلوك التي ظهرت في عصر عودة الملكية الذي بدأ عام 1660م حين استدعى البرلمان الإنجليزي الملك تشارلز الثاني من فرنسا ليخلف أباه على عرش البلاد بعد فشل الثورة الجمهورية فبينما يراها البعض رافداً مباشراً من المسرح الفرنسي وخاصة مسرح (موليير)، يعكس أسلوبه الدرامي، يؤكد البعض الآخر أنها نبت محلي إنجليزي صرف نشأ فجأة في ظل ظرف اجتماعي خاص هو عودة الملكية وحماية الملك وحاشيته والطبقة الأرستقراطية على المسرح.

في دراسة قيمة عن كوميديا الأخلاق الانجليزية هاجم (آرثر شربو) طائفة النقاد الذين يصرون على رؤية مسرحيات (شريدان) و(جولد سميث) في إطار كوميديا الأخلاق مستندين إلى حجج واهية مثل وجود تشابه سطحي أو جزئي في بعض التفاصيل والشخصيات بين أعمالها وبعض كوميديات الأخلاق، متجاهلين الاختلاف الأساسي في المعالجة الدرامية والبناء والحالة الشعورية العامة. ويشترك مع (شربو) في رأيه هذا فريق من النقاد نذكر من بينهم ( و.ف.جلاواي) الذي يؤكد بشدة استقلال (جولد سميث) على الأقل استقلالاً تاماً عن كوميديا الأخلاق وعلى طرف النقيض من هذين الناقدين نجد ( إيرنست بن باوم ) ومعه (الأردايس نيكول) و ( ف.ت. وود)، و (جورج هنري نيتلتون) و (فريدريك س.بوز) على سبيل المثال لا الحصر ـ نجدهم جميعاً يؤكدون انتماء الكاتبين بصورة أو بأخرى وبدرجة قد تزيد أو تنقص إلى تراث كوميديا الأخلاق ـ ولا ينحصر الخلاف النقدي بين الفريقين في درجة انتماء الكاتبين إلى كوميديا الأخلاق أو استقلالهم عنها فقط بل يتخطى ذلك إلى القيمة الفنية أعمالهما تجد الفريق القائل بانتماء الكاتبين إلى التقاليد الفنية لكوميديا الأخلاق يدين أعمالهما فنياً إما لافتقارهم إلى العمق الإنساني أو لافتقادها الوحدة الشعورية ـ كما تقول (مسز أوليفانت) والناقد (بوز) أو لبنائها المفكك في رأي (نيكول)، أو لمبالغتهما السقيمة المفتعلة في رأي (آلان.س.داونار)، أو لافتقادها الجدة واعتمادها على الحيل التقليدية المعروفة ـ كما يرى (مارفن مدريك).

لم ينتج شعراء الرومانسية الإنجليزية (وردسورث وكولريدج وشيلي وكيتس) إلا مجموعة ضئيلة من المسرحيات الفقيرة الفاشلة الميلودرامية الطابع. وفي نصوصهما القليلة هذه نلمح مجموعة من الظواهر تلح علينا في المسرحية تلو الأخرى ونستطيع أن نعزو إليها فشل هذه المسرحيات درامياً وفنياً. وأول هذه الظواهر هو الفصل التعسفي بين الميتافيزيقا والأخلاق من ناحية، وحركة الإنسان السياسية والاجتماعية في محطة التاريخ من ناحية أخرى، في كل مسرحية من المسرحيات التي سبق ذكرها نجد صراعاً فردياً أخلاقياً يطرحه الشاعر طرحاً تجريدياً ـ أي يجرده من بعده التاريخي والاجتماعي فينتفي الجدل المقنع بين الجانب الأخلاقي وحقيقة الفعل الإنساني ومحيطه، ولذلك عادة ما تفشل هذه المسرحيات في إقناع القارئ أو المشاهد بأهمية هذه التقلصات النفسية العنيفة لأبطالها. ونتيجة لهذا التجريد الذي ينبع من فصل الخلاق عن محيط الفعل التاريخي نجد هذه المسرحيات تعج بالمنولوجات الطويلة التي تحوي تأملات وتطرح قضايا لا تؤثر في مجرى الأحداث المعروضة، وهي أحداث تتسم في مجموعها بالعنف والرعب والقسوة، وتعج الشخصيات النمطية مثل الفتاة المظلومة والطاغية الشرير الأب العاجز العجوز.. وهلم جرا.
أما الظاهرة الثانية التي تتكرر في هذه المسرحيات فهي جهامتها، وأخذها لنفسها مأخذ الجد الشديد، وغياب أي شعاع من الفكاهة أو الحس الساخر، فهي مسرحيات تطرح رؤيتها طرحاً أحادياً واثقاً يقترب من الدعاية ويرفض مبدأ الجدل المركب الذي لا تحيا الدراما من دونه، فالدراما تمثل في جوهرها رحلة استكشاف معرفية تكتسب دراميتها وموضوعيتها وصدقها من قدرة الفنان على إقامة اشتباك وجدل وصراع حقيقي بين رؤيته والرؤى المعارضة في محاولة للوصول إلى الرؤية المتكاملة، أما سياسة الإغفال المتعمد لكل النقائض فعادة ما تفرز فناً زائفاً ساذجاً.
فالرؤية الجدلية هي ما نفتقده في المسرح الشعري الروماني في إنجلترا، ولهذا جاءت المسرحيات التي سبق ذكرها أقرب إلى الترجمة الحوارية لأفكار الشاعر وتأملاته منها إلى الدراما.


ارتبط ظهور الواقعية الرومانسية في المسرح الإنجليزي في أواخر عهد الملكة إليزابيث الأولى ببزوغ الطبقة البرجوازية الجديدة من التجار والصناع وأرباب الحرف من ساكني المدينة. واستمرت الواقعية في الازدهار مع نفوذ هذه الطبقة في عصر الملك جيمس الأول الذي خلف إليزابيث على عرش إنجلترا إذ شجع هذا الملك نظام بيع حقوق احتكار بعض الصناعات والأنشطة التجارية

وأما الظاهرة الثالثة فتتصل عضوياً بالظاهرتين السابقتين، فغياب التفاعل الجدلي مع الواقع يمثل انفصالاً نفسياً هروبياً يتجلى في أبلغ صوره في اللغة التي استخدمها هؤلاء الشعراء في مسرحياتهم، فهي لغة لا تنتمي إلى عصرهم بل تحاكي في مفرداتها وتراكيبها وصورها وإيقاعاتها لغة مسرحيات شكسبير فتبدو للقارئ في بعض الأحيان وكأنها محاكاة ساخرة للغة هذا الشاعر العظيم.

إن مسرحيات بايرون تمثل رحلة بحث عن المعنى شكلت البناء الجدلي المركب الساخر الذي نلقاه في كل مسرحياته الثماني. أما الشعراء الرومانسيون فقد انطلقوا في كتاباتهم المسرحية من رؤى مثالية محددة كاملة التكوين بدرجة كبيرة لا تفسح مجالاً للجدل المركب الذي يمثل عصب الدراما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر / مجلة الرافد /  مايو 2010 .

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,252,876