ياسر سلطان
كيف يمكن الهروب من هذا الواقع الاستهلاكي النهم في مجتمعاتنا المعاصرة.. ؟.. هل يمكننا حقاً الاستغناء عن الهواتف وشبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت؟.. ماذا لو استيقظنا بالفعل ذات يوم على واقع كهذا!؟.. ماذا نفعل لو لم يكن أمامنا سوى بضع دقائق فقط للتواصل عبر هذه الأدوات قبل أن تختفي من حياتنا نهائياً.. ماذا ستكون رسالتنا الأخيرة, ولمن سنوجهها, وهل نستطيع بالفعل التعايش على هذا النحو؟ إن مجرد تصور فكرة كهذه لابد أن يصيب المرء بالتوتر والحيرة. كل هذه التساؤلات الافتراضية, هي ما حاول الفنان تامر شاهين الإجابة عنها من خلال عمله الذي تم عرضه مؤخراً في مركز الجزيرة للفنون بالقاهرة. العمل هو جزء من مشروع كبير تنظمه مؤسسة استوديو خانة للتنمية الثقافية بالتعاون مع قطاع الفنون التشكيلية المصري, ويقام تحت عنوان «سوبر ماركت» ويشارك به مجموعة من الفنانين الشباب الممارسين لأعمال الفيديو والتجهيز.

مجموعة الشباب المشاركين في هذا المعرض يمثلون خليطاً فنياً متجانساً, يحاول تقديم أعمال ذات قيمة بصرية مختلفة للمشاهد, عبر تبنيهم لأفكار منبثقة من الواقع السياسي والاقتصادي المعاش. وتعد هذه التجربة هي الثانية للفنانين المشاركين في العرض, بعد تجربتهم التي قدموها قبل شهور في قاعات مركز سعد زغلول الثقافي بالقاهرة تحت عنوان «شيفت ديليت 30» والذي لم يبتعد كثيراً في فلسفته ورؤيته عن معرض «سوبر ماركت», بمعالجته البصرية لحقبة الرئيس السابق حسني مبارك حسب رؤية الفنانين المشاركين, الذين ولدوا, وترعرع معظمهم في ظل هذا النظام. وقدم المعرض حينها عدداً من المعالجات الفنية المُلفتة, والمثيرة للانتباه. حتى العنوان في حد ذاته, كان بالغ الدلالة عن مضمون المعرض ومحتواه البصري, فهو من وحي لوحة المفاتيح الخاصة بأجهزة الكمبيوتر؛ وهي نفس الأدوات التي استهان بها النظام السابق, وساهمت في إقصائه وإزاحته عن المشهد. وقد مثل المعرض تجربة مفاهيمية وبصرية ثرية كان لابد لها أن تستمر.

وجاء معرض «سوبر ماركت» ليمثل تطوراً وامتداداً لنشاطات تلك المجموعة. و«سوبر ماركت» هو عنوان يلخص الفكرة التي يقوم عليها هذا المشروع الفني من حيث تصديه للتعبير عن مظاهر الواقع الاستهلاكي الذي نعيشه؛ وهو واقع استهلاكي متعدد الرؤى لا يسلط الضوء على السلع الاستهلاكية المادية وحدها على الرغم من تغولها وسيطرتها على مناحي الحياة من حولنا, فهو لا يقتصر على تلك السلع الاستهلاكية المادية التي اعتدنا عليها فقط.. فالأمر هنا يختلف, إذ إن كل شيء في هذا الـ «سوبر ماركت» يُباع ويُشترى, بدءاً من هذه السلع المعتادة, إلى الأفكار والعقائد والضمائر, والأوطان, وحتى البشر أنفسهم, تتم المتاجرة بهم, ويعرضون هنا كأي سلعة من السلع.

كانت الشعارات والرموز السياسية والفكرية محوراً لعمل الفنان عمرو عامر الذي ملأ جدران إحدى الحجرات الصغيرة بصور لتلك الرموز والشعارات, داعياً رواد المعرض إلى الإعلان عن مواقفهم الشخصية إزاء تلك الرموز والشعارات عبر أختام موضوعة وسط الحجرة تحمل كلمات الرفض أو القبول, ويتم استخدامها للطباعة على اللوحات المعروضة، ما عليك سوى غمس تلك الأختام في المحبرة القريبة وطباعتها بعد ذلك على أي من العلامات التي تريدها, ومن خلال مشاركة الجمهور وتفاوت استخدام الأختام وكثافتها من علامة إلى أخرى, تبرز دلالات جديدة، وتتجسد معان مختلفة. حاول عامر من خلال العمل تسليط الضوء على تلك الشعارات والرموز التي تحيط بنا وتتحدد قناعاتنا حيالها من خلال رفضنا أو قبولنا لها, فهذه الشعارات والرموز ما هي إلا واجهة بصرية لمعتقدات وقناعات وأفكار يؤمن بها الناس في حياتهم اليومية وتتحدد على أساسها نظرتهم للعالم من حولهم.

وفي مشهد بصري صادم, عرض الفنان أحمد عبد الفتاح مائدة طعام فاخرة, تجبر رواد المعرض على تفقدها, غير أن ما يحدث أنهم يصدمون حين يقتربون منها، إذ يكتشفون حينها بأن الوجبة الرئيسية المُقدمة على تلك المائدة ما هي سوى أجزاء لجسم بشري تم وضعها في أطباق بيضاء, وإلى جوارها بعض المشهيات. لم يكتف الفنان بتلك الصدمة البصرية وحدها, بل قدم لجمهوره بعضاً من هذه القطع على سبيل التذوق والمشاركة.. القطع المقدمة كانت بالطبع مصنعة من مواد صالحة للتناول, وقد نجح الفنان بالفعل في خلق هذه الصدمة البصرية عبر صياغته المتقنة لأجزاء الجسم البشري بشكل يحاكي الطبيعة, وبصورة شبه كاملة.. في هذا العمل يقدم عبد الفتاح صورة قاتمة إلى حد الصدمة, لواقع البشر, كما يراه, وفي صورة مجازية على ما يبدو لمشاهد العنف والقتل المروع الذي يطالعنا عبر الشاشات, ويمارسه الطغاة في حق شعوبهم, أو تمارسه المجتمعات المتقدمة في حق المجتمعات الفقيرة.. في هذا العمل تتجرد الصورة, وتتحول إلى شكل أبلغ تعبيراً عما يحدث, وأكثر صدمة أيضاً للمتلقي من دون أية رتوش أو إضافات.

الفنان إبراهيم سعد هو قوميسير المعرض, وهو من بين المشاركين أيضاً, وقد عرض بدوره عملاً مركباً, يقدم من خلاله تصوراً لمجموعة السلع والمفردات, اتساقاً مع المتغيرات السياسية, والتفاعلات الفكرية القائمة بعد الثورة, وصعود تيارات الإسلام السياسي في الواجهة.

وليس بعيداً عن إطار السياسة والأوضاع التي تمر بها مصر اليوم, قدم الفنان باسم يسري رسوماته الحائطية التي تعبر عن الأوضاع السياسية كما يراها اليوم في مصر. فالسياسة من وجهة نظره هي مجرد سلعة يتم تقديمها إلى الناس في هيئة أفكار ومشاريع وأيديولوجيات, تستغل عواطفهم ومعتقداتهم. يرسم يسري في هذا العمل بشراً يتحركون في مسارات محددة, مسارات تتجه بهم نحو المجهول, هذا المجهول الذي يجسده على هيئة رجل ضخم بلباس عسكري يقف فاغراً فاه في نهاية هذه المسارات, فهو المتحكم في اتجاهاتها, كي يؤول الأمر إليه في النهاية. يطرح هذا العمل كما يقول صاحبه, العديد من التساؤلات المتعلقة بفكرة الاختيار الحر في ظل الظروف التي مرت بها مصر منذ بداية عام 2011. يحمل العمل عدداً من التساؤلات حول حقيقة امتلاك الناس لمصائرهم، وفكرة الوقوع في شرك الدعاية السياسية التي تستخدمها بعض التيارات السياسية والدينية لتضليل الرأي العام, ففي الوقت الذي نعتقد فيه أننا الوحيدون المتحكمون في مصائرنا, ثمة قوى غاشمة تسوق الأحداث, وتتخذ القرارات, بغض النظر عن اختياراتنا أو إرادتنا.

التعامل مع المعتقدات الدينية كسلعة يمكن السيطرة بها على أدمغة الناس, هو مضمون العمل الذي تقدمه الفنانة مي الحسامي, حيث تعرض لفيديو يناقش فكرة الحجاب كرمز ديني وكيف يحوله البعض إلى سلعة تجارية مُربحة.. ففي دقائق مكثفة تطالعنا إحدى الفتيات «هي الفنانة نفسها» وهي تقوم بارتداء مجموعة من أغطية الرأس وترتيبها بشكل منسق.. يختلف هذه الشكل من وقت لآخر حسب ما تسوقه لنا مؤسسات الموضة, ليتحول غطاء الرأس مع الوقت من رمز ديني إلى أداة للربح التجاري والاستهلاكي.

نموذج آخر يعكس سمات الواقع الاستهلاكي في مجتمعاتنا, قدمه الفنان علاء عبد الحميد عبر فيه عن سطوة العلامات التجارية في حياتنا وكيف يمكن لها أن تتحول إلى مقياس اجتماعي تتحدد على أساسه أحكامنا ونظرتنا للآخرين. في العمل الذي يقدمه عبد الحميد, ثمة مجموعة من التماثيل المتشابهة الملامح, وعلى صدر كل منها وضعت علامة تجارية لمنتج من المنتجات التجارية الرائجة، وهو يرى أنه على أساس هذه العلامات, يتم بشكل أو بآخر فرز الأفراد إلى شرائح مجتمعية وطبقية, وهو أمر بات مسيطراً على رؤية الناس وتقييمهم لأنفسهم كما يقول إلى الحد الذي دفع أحد الشباب الصينيين إلى الإقدام على بيع كليته من أجل الحصول على أحدث إصدارات جهاز الآي باد, وهي حادثة تناقلتها الصحف, ومثلت منطلقاً للعمل الذي يقدمه عبد الحميد في هذا المعرض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر / مجلة الدوحة ـ سبتمبر 2012 .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 605 مشاهدة

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,577