أهدى فقيد الفن الأستاذ نجيب الأستاذ نجيب الريحاني صورته "بديع خيرى" وكتب تحتها أن المستحيلات كانت ثلاثة قبل أن يعرفه، أما بعد أن عرفه ووجد فيه " الخل الوفي" فقد نقصت هذه المستحيلات الثلاثة واحدا .. وفى هذا المقال  يبكى "الخل الوفي" الذى اختطفه الموت.

نجيب الريحاني : صديق العمر!

كيف أرثيه .. ونفسى تأبى أن تصدق أنه مات!...

وكيف أكتب عنه وذهني شارد وقلبي حزين .. أصحيح أننى لن أراه ولن أسمعه؟! ولن أذهب إليه ولن يزورني؟!إلى أين أذهب إذن! وعلى أي طريقة سأقضى اليوم، وسيمر الغد، وستمر بقية العمر؟ لا أدرى..

اثنان وثلاثون عاماً عشتها مع نجيب الريحاني – منذ سنة 1918 لم يمر يوم واحد من غير أن نلتقى، ونتحدث معاً، ونمشى معاً ونجلس معاً، ونضحك معاً.. ! كنت أخرج من بيتي لأقابل نجيب، وأذهب إلى بيتي عائداً من مقابلة نجيب!..

لم نختلف يوماً في غير شئون العمل الذى كنا نقوم به معاً ... وإذا اختلفنا في شأن من شئون العمل.. لم يكن غضبنا يطول أكثر من يوم واحد يعود أحدنا في نهايته الى صاحبه معتذراً، أو نلتقى في الطريق وكل منا ذاهب إلى صاحبه..

سأقول لأمك !

لم تتوثق الصداقة بيني وبين نجيب فقط .. لا، بل توثقت أيضا بين والدتي فرق بيني وبينها، كانت والدتي تعتبر نجيب الريحاني ابنها، وكانت والدته تعتبرني ابنها .. وكنا نختلف أنا وهو  في شأن من شئون العمل .. واتركه غاضباً فيحضر الى بيتي ويبسط لوالدتي أسباب الخلاف ويشكوني اليها وينصرف ..

فإذا عدت إلى البيت أنبتنى وقالت لى بلهجة الآمر :إياك تزعل مع نجيب أو تفكر في إنك تسيبه .. أنتم مش حيفرق بينكم في الدنيا دي إلا الموت.

وكنت أسمع منها هذا الكلام فأذهب من فورى إليه، فلا يكاد يراني حتى يسرع نحوى ويعانقني .. كان دائماً ينتظرني اليوم!

وكان يقول لي ضاحكاً : والله لو زعلت مرة ثانية لأقول لامك..

منذ يومين اثنين كانت هذه الدعابة الفكهة تضحكني .. وما انذا الان أتذكرها فأبكى!

اختلفنا مرة في بعض شئون التأليف . وتوترت أعصابنا فكانت بيننا مناقشة عنيفة خرجت على أثرها مصمماً على ترك العمل معه، وخشيت أن يحضر إلى البيت فسافرت إلى طنطا كي لا يعرف مكاني.

وكان بيني وبين أحد أصحابي ما اضطرني إلى إخباره أنى مسافر إلى طنطا .. ولم يزل نجيب يبحث ويسأل حتى مسافر إلى طنطا .. ولم يزل نجيب يبحث ويسأل حتى عرف .. وفى صباح اليوم التالي سافر إلى طنطا وطاف بفنادقها واحدا واحدا، ولم يزل يبحث في المقاهي والمطاعم حتى رآني .. فبكى وأسرعت إليه معانقاً باكياً.

وما أبعد الفرق بين بكاء اليوم وبكاء الأمس .. إنه اليوم بكاء الفراق وكان في أمس بكاء اللقاء!

"ترابيزة الوحى" !

إنني أجلس اليوم جامداً في مكاني .. وأغمض عيني، فأرى "نجيب فى كل مظاهر حياته .. أراه فى "قهوة فينيكس" في شارع عماد الدين .. ذلك المقهى الذى كنا نلتقى فيه كل يوم ونؤلف فيه .. ويهبط علينا وحى الفن ونحن جالسان حول منضدة معينة لا تغيرها ... منضدة فى داخل المقهى، كنا إذا غيرناها لا يفتح الله علينا بكلمة واحدة في المسرحية التي نؤلفها .. وكان أصحاب المقهى ورواده يعرفون هذا بمضى الزمن، فكانوا يتركونها لنا .. فتظل خالية في انتظارنا.

منذ ست سنوات دخل هذا الكلب الثمين مسرح نجيب الريحاني .. ورآه بديع خيرى، ونجيب الريحاني وابن شقيقه بديع الريحاني .. فأراد كل منهم أن يأخذه  .. لكن نجيب أثبت بالمنطق أنه أحقهم به .. وظل هذا الكلب لا يفارقه أبداً .. وقبل وفاة نجيب بثلاثة أيام أخذ الكلب "يعوى" .. ظل يعوى ثلاثة أيام .. وكأنما كان يحس بأن صاحبه سيموت!

على هذه المنضدة في "قهوة فينكس"  بشارع عماد الدين كان "نجيب الريحاني" و "بديع خيرى" يؤلفان الروايات المسرحية التي طالما أضحكت الجماهير وعالجت هموم الناس .. كان نجيب يعتقد أن "وحى" التأليف لا يهبط عليه وعلى صديقه إلا على هذه المنضدة .. ها هما يتخذان  مكانهما المعتاد فى انتظار هبوط الوحى!

لقد شهدت "قهوة فينيكس" أحلك أيامنا وأشقاها ورأت أبهى أيامنا وأسعدها .. كنا نجلس الساعات الطوال كل منا ينظر إلى الآخر .. وكان يسألني : الوحى جه؟ .. فأقول  : لا .. وبعد دقائق أساله نفس السؤال، فاٍمع نفس الجواب!

ويستولى علينا اليأس فيقول :"يا لله نتسكع شوية؟ طبعاً  مش حايلاقينا!.. وينتهى الأمر بأن نترك التفكير فى الرواية مع عدم ترك المنضدة .. إلى أن يهبط الوحى، فنضيف إلى المسرحية التي نؤلفها شيئاً جديداً

كدنا نموت جوعاً!

كنا نجلس فيها للتأليف وكلانا ليس فى جيبه قرش واحد .. لقد ظللنا ثمانية أشهر نؤلف رواية "حكم قراقوش" !

 وقد طالت المدة لأن نجيب لم يعجبه الفصل الثانى، وكدنا نموت جوعاً وهو يصر على تغييره .. و"الوحى" مصر على عدم الهبوط! كنت أقول له إن الرواية مقبولة، وإننا في حاجة إلى نقود . فيقول لي : إزاى بديع خيرى يقول كده؟

وماله لما نموت من الجوع .. مش أحسن من إخراج رواية ما ارضاش عنها ولا يرضى عنها الناس؟!

وانقطعنا عن إصلاح الرواية بضعة أشهر ونحن في أسوأ حال .. ثم هبط الوحى، فأصلحناها في يومين! كان ينشد الكمال في فنه، ولم يتخذ خفى يوم من الأيام وسيلة للكسب .. كان الفن عنده هو الغاية ومن هنا كانت إجادته وكان نجاحه..

وفى تلك الأيام الشديدة أخذنا نؤلف رواية "نجمة الصبح" وانتهينا من كتابة الفصل الأول في بيتي .. وكنا فى أشد الحاجة إلى المال لنسكت الدائنين.

وقال نجيب :

عال .. أهو  ده الكلام!

وشربنا القهوة احتفالاً بكتاب الفصل الأول .. ثم قال:

اقرا لنا الفصل الحلو ده كمان مرة وقرأته له، فإذا به يقول غاضباً :

إيه الكلام الفارغ ده .. ده كلام ما ينفعش!

أغضبتني ثورته بعدما بذلنا من جهد شديد.. فمزقت الكراسة التي كتبنا فيها الفصل الأول وألقيت بها على الأرض وبعد لحظة جلسنا نكتبه من جديد.. حتى اتممنا كتابته.  

قال "نقرأه الآن" قرأته له ، قال :

أهو ده الكلام الفارغ ...

الفصل اللي قطعته هوا الكلام الكويس المعقول!

وانحنينا على الارض .. وأخذنا نجمع الأوراق الممزقة .. ثم ألصقناها بالصمغ ورقة .

وقرأته له مرة أخرى .. فوقف وأخذ يرقص قائلاً "يا سلام! لازم نسويها!

كان نجيب الريحاني – كما قلت – ينشد الكمال فى فنه. لم يتخذ خفى يوم من الايام وسيلة للكسب .. كان الفن عنده هو الغاية، ومن هنا كانت إجادته وكان نجاحه وكان نبوغه.

ما قابلته مرة بعد تمثيل رواية جديدة لأهنئه .. وأثنى على مواقفه إلا عارضني ! كان يقول لي : وبعدين يا بديع .. أنت بتتكلم جد؟! أنا حاسس إن فى الرواية حاجات ناقصة سوا ... حسيت بيها وأنا بأمثل .. لازم نسويها!

ونجتمع ونفحص الرواية من جديد، فنجد فيها دائماً ما يستحق الإصلاح .. بينما الإقبال عليها شديداً والثناء عليها لا حد له!

ألم أقل إنه كان ينشد الكمال الفني؟

أيام زمان

ارتفع نجيب الى اوج مجده أيام "تياترو  الإجبسيان" .. كانت أعظم من أيام العهد الاخير .. فى تلك الاياك كانت التذاكر تباع فى السوق السوداء، وكانت تنفد قبل موعد التمثيل بأسبوع على الاقل .. وكان عامل الشباك حاكما بأمره يستبد بالعباد ويظفر "بالبقاشيش" السخية من طلاب  ليحجزها لهم! في تلك الايام كان المغفور له الملك فؤاد الاول من رواد "تياترو الإجبسيان" وكان أميراً .. وكان يتردد عليه المرحوم عبد الرحيم صبري باشا .. وكان لجلالة الملكة نازلي مقصورة خاصة فيه .. قبل أن تصير ملكة للبلاد..

وذات ليلة حضر "الامير أحمد فؤاد" وشاهد الرواية التي كان يمثلها نجيب .. وضحك طويلاً من طرافة التمثيل، كان يقهقه .. ولم يكد ينصرف حتى اذيعت بشرى تنصيبه سلطانا لمصر.

وكان سعد زغلول لا يحب التمثيل ويسميه "التشخيص"!

ولكننا فوجئنا ذات ليلة بحضوره إلى "تياترو الإجبسيان" وكانت فى فصول الرواية إشادة بأثر الامهات الصالحات فى رفع شأن الامة .. فإذا بسعد يصفق طويلا لنجيب الريحاني.

وقيل لنجيب "اذهب الى سعد ، فاعتذر بأنه لا يستطيع  مقابلته بملابس التمثيل ، وكلفني أن انوب عنه.

دخلت على سعد وصافحته وجلست .. وعقدت الهيبة لساني فلم يفتح الله على بكلمة تحية .. وتكلم سعد .. فشجعنا وقال إنه إذا كان التمثيل يدعو إلى أن يكون فى مصر امهات صالحات فهو مدرسة لا مثيل لها.

ورجعت إلى نجيب فسألني:

قلت لسعد أيه؟!

و لا كلمة .. !

فضحك رحمه الله وقال:

-      أمال غلباوى معايا أنا بس!

-      الفن لا ينتقل .. !

-      وكان المسرح الذى يمثل فيه نجيب تتردد عليه الشخصيات الكبرى .. توفيق نسيم ومصطفى النحاس وعلى ماهر وأحمد ماهر واحمد حسنين .. فإذا حضر أحد هؤلاء طلبنا من نجيب أن يذهب إليه .. فكان يرفض بشدة .. كان يقول لي : إن الفن لا يجوز أن ينتقل إلى أعظم عظيم .. ولكن الرجل العظيم هو الذى ينتقل إلى الفن ، لأنه أعظم .. لا أقول هذا كبرا فأنت تعرف أننى لا أنتقل إلى أحد لأحييه .. لأنه جاء يشاهد الفن.

أذكر هذا كله فأبكى .. أبكى الفنان الذى استطاع أن يرفع رأس الفنان .. ويجعله فى موضع التقدير والإجلال.

عاطفة كلب!

وأذكر له الحس الرفيق المرهف .. كان هذا الرجل الذى أضحك الناس يبكى مما يضحك الناس!

كان يقيم فى شقة بعمارة الإيموبيليا .. وكان كلبه يصاب بنوبة جنون كلما رأى كلب إحدى جاراته .. كان يهم بالفتك بنوبة جنون كلما رأي كلب إحدى جاراته .. كان يهم بالفتك به فيبذل "نجيب" كل جهده ليحول دون اشتباك الكلبين، وتقوم صاحبة الكلب الآخر بنفس المهمة.

وفى ليلة دخل نجيب المصعد وكلبه معه، فإذا بجارته فيه .. ومعها كلبها! لابد أن تقع جريمة قتل فى هذه المرة!..

ولكن كلب نجيب لم ينبح .. ولم يغضب .. بل تحرك فى هدوء الى الكلب الآخر ، وأخذ يلحس شعره فى حنو شديد!

دهش نجيب .. وسأل جارته: "إيه الحكاية؟"

فقالت له وهى لا تقل عنه دهشة:

إن الكلاب أنبل من الناس .. لقد أصيب كلبى بالعمى منذ ثلاثة أيام، وشعر كلبك بما حدث له فلم يشمت، ولم ينتهز الفرصة للهجوم على عدوه، بل تقدم إليه محزونا كما ترى .. وها هو ذاسيه .. فهل يحدث مثل هذا بيننا حن الآدميين؟!

جمد نجيب فى مكانه وأخذ يتأمل .. ودخل مسكنه، وأخذ يبكى، لقد أثار المنظر الغريب حسه الرقيق وأبكاه .. وقد يضحك غيره!

موقف نبيل!

وحدث مرة أن سبه أحد أفراد فرقته بأقبح الشتائم وأخذته سورة الغضب فتمادى .. وبالرغم من أن نجيب لا يطيق مثل هذا، فإنه لم يتكلم!

ودخل على وهوى يغلى .. وقد امتقع لونه، وقال لى إنه حينما سمع سباب الممثل فكر فى أن يرد له شتائمه بألعن منها، ولم تعجبه الفكرة لأنها ستجعله شبيها له فى فن السباب .. وفكر فى ضربه .. ثم رأى أن هذا ألعن .. وأخير رأى فصله من الفرقة.

وفى اليوم التالي قابلني نادماً، وقال لى :"يا بديع" .. إزاى تتركني أفصل الراجل ده؟

قلت :

إنه يستحق أكثر من الفصل فقال رحمه الله:

نعم ولكنني لم أنم فى ليلتى .. إنه يستحق الفصل، ولكنه متزوج وله أولاد .. ما ذنبهم إذا كان عائلهم أخطأ ,, ونادى بعض رجاله، وطلب منه إحضاره ليستأنف عمله.

وبعد .. فهذا هو الصديق الذى فقدته أمس .. فهل يلومني أحد إذا بكيت طويلاً إنني لا أبكيه .. بل أبكى نفسى!!

 

المصدر /  جريدة مسرحنا

العدد 100 بتاريخ 8 يونيه 2009

حوار بديع خيرى نقلا عن مجلة المصور يونيه 1949

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,821,005