الفنانون سفراء فوق العادة لبلادهم في العالم وبينما يقع اختيار الحكومات على سفراء الدبلوماسية المبعوثين للحكومات الاجنبية فإن الفنانين هم بعثات إلى الشعوب الاجنبية وإلى عقول وقلوب الناس في البلاد القريبة والبعيدة.
وقد كنا نعرف ذلك ونهتم له في كل وقت حتى أنه يؤثر عن جمال عبد الناصر أنه وصف أم كلثوم بأنها رمز الوحدة العربية، لأن أسواق البلاد العربية كانت تغلق أبوابها ليجتمع التجار والزبائن مع أسرهم ليلة حفلة أم كلثوم الشهرية حول أجهزة الاذاعة القديمة رغم اختلاف التوقيت من العراق إلى المغرب العربي.
وكان لعبد الوهاب مثل هذا التأثير كما كان للسينما المصرية أثرها في إشاعة اللهجة العامية المصرية وتذوق جمالياتها في كل أنحاء العالم العربي.
ولكن أبواب أوروبا والغرب ظلت مغلقة دون الفن المصري الحديث إلى أن اقتحمها نجيب محفوظ بفوزه بجائزة نوبل للآداب فانفتحت أبواب الترجمة أمام "سي السيد" والفتوات والحرافيش والأفندية ليتحدثوا بكل اللغات ولابد أن ذلك كان له أثره المباشر وغير المباشر على المجال السياسي والاقتصادي والثقافي والعالمي.
ولا تقل لي أن الفرق الرياضية تتمتع أيضاً بصفة السفراء فوق العادة في العالم، لأنى أعرف ذلك وأتمنى مع كل المصريين الفوز بكأس العالم ذات مرة حصد الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية في دورات الأولمبياد.
ومع إني أعرف ذلك فإني أعجب من التفاوت الهائل بين سخاء اهتمام الحكومة والمجتمع بالفوز على الغير فى كرة القدم، والتقتير في الاهتمام بفوز أغنية أو فيلم أو مسرحية مصرية في مهرجان دولي أو دعم مشاركة الفنون المصرية في المحافل العالمية ولكن ما علينا من ذلك ، فإن حديثي اليوم سببه سعادتي بالمشاركة في ندوة عن المسرح المصري في مدينة "أروس" الدنماركية توجها عرض مسرحية "المراكبي" للكاتب المبدع "سامح مهران" باللغة الدنماركية.
وكانت مسرحية المراكبى قد عرضت بالقاهرة منذ عدة سنوات على مسرح السلام بإخراج الفنان ناصر عبد المنعم ورحب بها النقد .. وفى الدانمرك الليلة نشاهد بإخراج الفنانة "إيزابيل رينو" والترجمة إلى الدانماركية للدراما تورج "باربارا سيمونسن"
ويقوم بالأدوار الفنانون "كاترين اندرسون" و "أولاف هوجارد" و"أول مادسين" و"أنى بورن" و "أوف بيدرسون" وهم فريق مسرحي اسمه "تياترسى" يقدم المسرحية طوال شهر أغسطس في ميناء أروس في موقع مسرحي فريد وغريب وجذاب وهو ظهر سفينة رأسه تتسع لمنصة مسرحية وصالة للجمهور .
والمسرحية كاملة العدد كل ليلة كما فهمت بما يعكس تعطش الجمهور للتعرف على أحوال المصريين والعرب بعد أن غلب على الاعلام العربي الحديث الغامض والزائد عن الارهاب المنسوب زورا الى المسلمين!
الآن يصبح كل حدث ثقافي من هذا النوع في أوروبا وأمريكا أمراً نافعاً للمصريين والعرب والمسلمين من جهة وللأوروبيين والأمريكيين من جهة أخرى وبخاصة، حتى يتخلص الأجانب من أوهام زائفة عن المسلمين والعرب والشرقيين والمصريين تضر بالعلاقات الانسانية بين الشرق والغرب، وتضر بالفكر والوجدان في عالم يتحول إلى قرية صغيرة وتترابط أنحاؤه بالحتمية التاريخية بالتجارة والحضارة والثقافة والرأي العام.
وقد قدمت الندوة في جلستين عددا من المداخلات أسعدني الحظ بالمساهمة فيها بحديث عن المسرح المصري في القرن العشرين والتأثيرات الثقافية والفنية المختلفة التي أثرت عليه، كما قدم سامح مهران حديثاً عن المؤلف المسرحي في مسر وتحدثت "بربارا سيمونسن" عن ظروف ترجمتها المسرحية "المراكبي" الى الدنماركية، وتحدثت "ايزابيل رينو" عن ظروف إخراج المسرحية والتقنيات الذى اختارته لها، ومحاولتها مواءمة المسرحية للمشاهد الدانمركى.
أما حديث الدكتور "حازم عزمي" الاستاذ بالجامعة الامريكية بالقاهرة فقد كان اضاءة ثرية للموضوع الذى اختاره وهو "المسرح المصري في مقابل المسرح الغربي" ووصف حديثه بأنه بعد ثقافي لمسألة الاختلاف بين المسرحيين.
وكان حديث الدكتور "حازم" ممتازاً في ربط الثقافة بالسياسة والصراع بين الشرق والغرب فى عصر الاستعمار، ويحث الثقافة المصرية عن هويتها المستقلة منذ القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين.
وقد تشرفت بتلبية دعوات كهذه للحديث عن المسرح المصري في أوروبا وفى أمريكا، لاحظت من خلالها ذلك التطلع في الغرب الى معرفة المسرح العربي ... فان من الاحوال الاستثنائية فى هذا العالم المعاصر أن يكون في خريطة المسرح العالمي الى اليوم مساحة بيضاء مجهولة للمثقف الغربي في عصر اكتشاف الفضاء وأعماق البحار ... وهى مساحة تحتاج ويحتاج العالم كله اليوم إلى اكتشافها ورسم معالمها والدعوة إلى تبادل المعرفة بها..
وهذا الواقع ما تنهض به اقسام الدراسات العربية والشرقية والاسلامية فى الجامعات الغربية ولكن الدراسة والبحث عن المسرح العربي لم تصبح بعد من مواد الدراسة فى اقسام المسرح او معاهد السينما والمسرح فى أوروبا وأمريكا ... بل وحتى نظائرها فى آسيا وأفريقيا وهذا ربما يدعونا للدهشة من أن الثقافة العربية والابداع العربي إنما "يتسرب" إلى الغرب من خلال ثغرات ضيقة، وكأنها تتسرب من ثقب باب مغلق أو من ثقب الإبرة .. كما يقولون.
وهذا لا يكفينا للحضور الفني والفكري فى العالم أو يغنى عن الدخول من الابواب الواسعة، مقاب ما يستضيف المثقفون العرب الى لغتهم والى قرائهم وجمهورهم ثمرات الابداع الغربي مترجمة في سوق الكتب، أو محلاة بالترجمة على شاشة السينما أو التليفزيون أو يقدمونها للجمهور فى القاهرة على مسرح الاوبرا أو غيره من المسارح.
وتحقيق هذا التوازن في التبادل الثقافي والفني هو مشروع له مضمون حضاري بعيد الآثر والأمل أن تتضافر لتحقيقه بالنظر والدعم والرعاية هيئات محلية وعربية وعالمية تؤمن بحوار الحضارات وتفاعل الثقافات والوفاق العالمي عن طريق الفنون والآداب.
وبهذه المناسبة يسعدني ملاحظة أن مطبوعات السهرة المسرحية الدنماركية تعلن عن أسماء الشركات أو الهيئات الزراعية للمشروع وهو تقليد أوروبي معروف والجهات الست بينها الشركة المصرية العالمية لفنادق هلنان التي يملكها المستثمر المصري العالمي الاستاذ عنان الحلالى.
وقد دعا الاستاذ عنان فريق الندوة الى العشاء بكرم مصري أصيل ولأنى أعرف انتشار استثماراته فى بلاد كثيرة وفى مصر بخاصة، فقد سألته عن سكناه وبيته فقال بمرح :"الطائرة"
ثم قال لي :" إن كنت تسأل عن وطني فإني انتقل في بلاد كثيرة ولكنى لا أنسى أبدا أنى مصري وانى مسلم وأن أهلي وأصدقائي بمصر الجديدة .
وقد حدثنا الاستاذ عنان عن مصر الجديدة في شبابه وروابط الوطنية بين المسلمين والمسيحين التي تتمثل في زيارات التهنئة بالأعياد والاحتفال بها بإهداء أطباق الكعك والحلوى وأطباق العاشورة...
وكان الأستاذ عنان يتحدث بلطف حديث المحب لأيام مصر وعادات مصر وحى مصر الجديدة ...
خيل إلى أنه كالملاح السكندري الصديق الكابتن محمود الذى طاف بموانئ العالم ... إلا أن دخوله ميناء الاسكندرية في كل مرة كانت له نشوة خاصة ومذاق خاص وفرحة خاصة .. أو كم ا قال لي "متعه الله بالصحة ومتع مضيفنا في أروس الدانمرك بالسعادة والصحة وتمنياتي بنجاح "تياترسى" .
المصدر / جريدة الاهرام
العدد / 23371 – بتاريخ 4 سبتمبر 2005
بقلم / ألفريد فرج
ساحة النقاش