لا اعرف لماذا لم تأخذ مذكرات نجيب الريحاني موقعها المرموق والطبيعي في أدب "السيرة الذاتية" بجوار "أيام طه حسين" و"سيمون" ميخائيل نعيمة، وحياتي "لأحمد أمين" ، وغيرها من أدب السيرة الذاتية الرفيع، بل أظن أن مذكرات الريحاني أهيلت جحافل النسيان، وأعتقد أنها لم تطبع مرة أخرى بعد نشرها فى كتاب الهلال في يونيو 1959 بعد رحيله بعشر سنوات، وقدمها رفيق حياته الفنية والاجتماعية بديع خيرى واستهلها بتقديم هذه المذكرات قائلاً: "ليس غريباً أن تفكر دار الهلال بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة نجيب الريحاني في إصدار مذكراته التي خصها بها في حياته، وكتبها لها بقلمه، فشعارها كان دائماً ولا يزال – لا يصح الا الصحيح، ولا يبقى إلا الأصلح ونشر هذه المذكرات وفى هذه المناسبة بالذات، تكريم للفن الاصيل في شخص كرس حياته للفن.
وبالفعل فإن نشر مذكرات نجيب الريحاني لهو حدث كبير في دنيا الادب من ناحية، والفن من ناحية أخرى نظراً لقيمة نجيب الريحاني الاستثنائية في مسيرة الفن في مصر والعالم العربي ولأن هذه السيرة – كما صرح خيرى – بقلمه ثم للصدق الكبير الذى آثر أن يكتب به الريحاني، والذى يقرأ هذه المذكرات سيشعر بدرجة كبيرة جداً بينها وبين الريحاني الذى نعرفه في ما بقى لنا نحن المشاهدين من نجيب الريحاني في بعض أفلامه السينمائية مثل "غزل البنات" الفيلم الذى لم يره ومات قبل عرضه مباشرة أو فيلم "سلامة بخير" ... وغيره من الأفلام القليلة التي مثل فيها نجيب الريحاني ... ثم تأتى أهمية إضافية أن مذكرات الفنانين عادة ما تتحدث عن تمجيد كاتبها، إلا أن نجيب الريحاني آثر أن يوازن بين النجاحات التي لاقاها في حياته، وبين أشكال الإخفاق المتتالية التي قابلته في حياته، وهو لا يلقى باللائمة – كما يفعل آخرون – على الغير عندما يفشل ولا يمدح نفسه دوماً عندما تلقى أعماله نجاحات منقطعة النظير بل إنه دوماً يوجه لنفسه اللوم وأسباب فشل مسرحية ما، وعادة يعيد لأصحاب الفضل وأسباب النجاح أدوارهم فنجد مذكرات الريحاني مدججة بأشكال من الشكر لأصدقاء ورفاق رحلته على طول المذكرات، وبالطبع أولهم الفنان والشاعر والمؤلف الفذ بديع خيرى وتأتى خلفه سلسلة ذهبية تكتظ بالأسماء الكبيرة مثل سعد زغلول، وغيره الى الأسماء الهامشية التي ساهمت بشكل أو بآخر فى تشكيل مسيرة الريحاني الفنية ...
ولأن الريحاني يعتمد على حياته الفنية بشكل أساسي في كتابة سيرته لذلك جاءت السيرة درامية ومثيرة وغنية، مثل السير التي كتبها فنانون عظام كشارلي شابلن، وموريس شيفاليه وغيرهم، وكان لابد أن يعرج الريحاني على حياته الاجتماعية منذ ولادته ويعبر لحظة الولادة – بالطبع – قائلاً في خفة دم وطرافة" :ليست في حاجة إلى أن أرجع بالذاكرة إلى التاريخ الذى تلقفتني فيه كف العالم، فأقول مثلاً إنني ولدت لخمس خلون من شهر كذا عام كذا أو إن ولادتي اقتربت بظهور كوكب درى فى الافق اعتبره اهلى طالع يمن وإقبال ... أو .. أو مما لا أرى فيه للقراء فائدة... ) ولذلك يقفز الريحاني على هذه اللحظة والمرحلة الأولى كاملة، إلى بعد مغادرته مدرسة الفرير بالخرنفش..
وكان قد تزود بذخيرة جيدة من التعليم الذى اهله ليكون ميالاً لدراسة اللغة العربية ويتوسع في الحصول على قسط وافر من فنونها كالشعر وتاريخ الشعراء – كما ينوه في البداية – بل إنه لم يكتف بما يتلقاه فى المدرسة من دروس بل جيء له بالشيخ بحر الذى علمه الالقاء بصوت جهوري، والذى كان الريحاني يملك منه الكثير .. فكانت لديه ملكات طبيعية فى فن الالقاء والتمثيل وكانت المدرسة تكلف طلبتها بين الحين والآخر بتمثيل بعض الروايات على مسرحها وكثيراً ما كان الريحاني ينتدب لتمثيل الادوار المهمة في هذه الروايات..
إذن هذه هي العتبة الاولى التي خاضها الريحاني ليتلوها الى عتبات اخرى اقصد اهوال اخرى اول هذه الاهوال كانت الوظائف التي تقلدها الريحاني وهى وظائف عادية لم ينل منها سوى الرفت والمفارقات المضحكة المبكية والتي اودت به فى بعض الاحيان الى قسم الشرطة عندما راح يتحرش بإحدى فاتنات الصعيد فقبض عليه ولكنه خرج معافى ، ليعود مرة أخرى الى الوظيفة ليكتشف أن مستقبله ليس له علاقة بهذه الوظائف فيعقد صداقة أبدية مع الفن عندما تعرف على الفنان عزيز عيد فى إحدى هذه الوظائف وكان عزيز بدوره مجنوناً بالفن مثله فاتفقا على أن يتشاركا ويتآلفا ليعملا معا، وقد كان فألفا وأخرجا مثلا سوياً إلى أن جاءت أشكال الخلافات التي لا تنتهى بين الاثنين بل بين كل الفنانين وكان جوهر الخلاف بين الريحاني وعزيز عيد يتلخص فى أن الأول كان يعشق كل ما هو مصري، وعندما كان عيد والريحاني يقرران اقتباس رواية فرنسية، كانت وجهة نظر عيد أن يتركها بما هى عليه الاسماء والاماكن وكل ما يرد بالرواية وكانت وجهة نظر الريحاني هي تمصير كل ما فى الرواية .. وكان هذا هو الخلاف الذى تراكمت عليه خلافات أخرى، فادت الى الفراق، الذى لم يفسد – بالطبع – العلاقة بين الاثنين، لأن عيد والريحاني كانا على درجة من الحساسية والإنسانية والإخلاص للفن – أساساً – لا تسمح لهما بما هو خسيس أو ناقص، على عكس ما حدث مع فرقة جورج أبيض عندما اقترض مديرها سليم أبيض – شقيق جورج – مبلغاً من المال ثم تنكر للريحاني بل كانت مكافأة الأخير هى فصله من الفرقة ، مع سداد المبلغ بالتقسيط الممل، والذى لم يسدد بالطبع، وهناك روايات مختلفة لهذه الواقعة فقد تم تكويرها وتدويرها وقصها على انحاء مختلفة.
وبعد كل اشكال التعاون والتنافر والفراق والنجاح والفشل، كانت العلاقة العظيمة التي نبتت بين فنان وشاعر ومؤلف أزجال هو بديع خيرى، وبين الريحاني وخلف هذه العلاقة قصة طريفة يحكيها الريحاني، وقد حدثت القصة بعد وقوع خلاف بين الريحاني وامين صدقي مؤلف رواية "حمار وحلاوة" التي لاقت نجاحاً منقطع النظير، وهذا النجاح أغرى صدقي ليطالب بحقوق كبيرة فاضطر الريحاني الى قطع العلاقة بينه وبين صدقي وراح ليبحث عن مؤلف جديد فيقول الريحاني : (وأعلنت فعلا عن حاجتي هذه الى كثيرين ممن حولي فتقدم البعض لأداء هذا العمل، وأذكر بينهم الاساتذة حسنى رحمي المحامي، والاستاذ اميل عصاعيصو ... وكذلك زميل قديم ممن كانوا معي في البنك الزراعي هو السيد جورج .ش) .. وادعى جورج أنه يقدر على تأليف بعض الأغاني والازجال وبالفعل جاء للريحاني ببعض المقطوعات التي أعجبت الريحاني، ونجحت عند عرضها على خشبة المسرح، ولكن جاء للريحاني صديقة ت.م الذى أفشى سر هذه المقطوعات وأنها ليست لجورج. ش، ولكنها لشباب مجهول اسمه بديع خيرى، الذى عقدت . م بينهما لقاء ومنذ ذلك الوقت صار مستقبل الاثنين واحداً، الفشل والنجاح والفقر والغنى، ولم تحدث هذه الفرقة إلا في حالات قصوى وهى الاوقات التي سافر ليها الريحانى للبرازيل فتذمرا من انواع الفشل التي لاقاها مسرحه هنا ثم المفرق الاكبر وهو الموت .. والذى كتب فيه بديع خيرى رثاء مؤثراً وتحدث عن علاقته به.
الجدير بالذكر ان الريحاني كان يكتب سيرته وهو فى حالة كشف حساب للذات عالية، وفى الوقت ذاته كان ميالاً لعدم تجريح الآخرين، لذلك قرأنا أنه يشير لبعض الشخصيات بالرمز، رغم التصريح بهذه الاسماء فى بعض الكتابات الاخرى، فمثلاً جورج . ش هو جورج شفتش، و(ت.م) هو توفيق ميخائيل، وذكر الريحاني كثيراً من الاسماء بحروفها الاولى، حتى لا يجرح الناس بذكر بعض رذائلهم بطريقة تجرحهم، او تعريتهم امام الاخر ولكنه لم يكن متستراً مع نفسه، مثلما كان متستراً مع الآخرين لذلك جاء الحديث عن زوجته الفنانة بديعة مصابني بالغ الدقة، رغم ملاحظاته السلبية والحديث عن كل من اختلفوا معه كان حديثاً محايداً، دون سباب، ودون تصفية حسابات كما تقرأ لآخرين...
الحديث عن نجيب الريحاني – بالطبع يطول ولكن اقل ما يمكن أن نكتبه هنا هو إعادة طباعة ونشر مذكراته فى ذكرى رحيله الستين وإقامة حفل لهذه الذكرى، التي يمكن أن تمر مرور الكرام، وربما التذكير بنجيب الريحاني ، يعيدنا الى بعض امجادنا المسرحية فى يوم من الايام.
بقلم يوسف شعبان
المصدر جريدة مسرحنا
العدد 100 بتاريخ 8 من يونيه 2009
ساحة النقاش