** فرقة المسرح القومي ستظل نقطة التحول وقاعدة الانطلاق

**الجماهير تخرج من قاعة العرض مطالبة بالانضمام لصفوف المقاومة

** كانت هناك ندرة في الكتاب بحيث لا نستطيع انت نتحدث عن تيار مسرحي

**شوقى وتيمور والحكيم قدموا نصوصا ذهنية للمسرح

اختلفت الآراء وتعددت الرؤى حول تقييم الفورة المسرحية التي صاحبت ستينيات القرن الماضي فالبعض وصفها بأنها النهضة المسرحية التي بدأ معها التأريخ لمسرح المصري الحديث والبعض الاخر وصفها بأنها المرحلة التي عايش فيها المسرح المصري موجة المسرح الموجه الذى يدعم النظام السياسي الذى اتت به ثورة يوليو 1952.

التباين الواضح بين هذه الآراء يجعلنا نقف مليا امام تلك الفترة ونتائجها وما افرزته من عناصر مسرحية استطاعت ان تحقق ذلك المتغير الذى كان موضع الجدل الذى شغل مساحة عريضة من التاريخ النقدي للمرحلة والتي ضمت اراء من يعتقدون فيما وصفوه بأنه نهضة مسرحية وفى المقابل الرأي الاخر الذى يجب ان يوضع في اطاره البحثي لكى نبين الابعاد التي حققها المسرح خلال تلك الفترة والتي وصفت بانها من الامكانية والقدرة بحيث تدعم ويستند اليها نظام سياسي قائم بالفعل.

 

البداية

وبداية المرحلة لم تكن في ستينيات القرن الماضي لكن الحقيقة تشير الى انها كانت مع منتصف الخمسينيات بعد ان تحققت ملامح المتغير السياسي الذى حققته ثورة يوليو ونال من كافة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية وسبغ بأبعاده حركة الجماهير ونشاطها اليومي.

ولم يكن المسرح بعيدا عن هذا التأثير بل ان ارهاصات تفاعله خاصة فيما يتعلق بأبعاد القضية الوطنية التي تحددت سبل ومنهاج التعامل معها من خلال البنود السته التي طرحتها الثورة فور قيامها كبرنامج عمل سياسي فقد تبنى المسرح من خلال عروضه التأكيد على الالتزام بهذا البرنامج بل انها عملت ايضا على الحث على بعث الحس الوطني.

ولقد شهدت هذه الفترة تألق نجم فرقة المسرح الحديث التي ترأسها زكى طليمات لكى يحتضن خريجي المعهد العالي الفني التمثيل العربي الذى تحول فيما بعد الى المعهد العالي للفنون المسرحية بعد ان ضاقت بهم الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى وذلك بعد ان دب الخلاف بين جيل الشباب من خريجي المعهد الذين التحقوا بالفرقة وبين قدامى الفنانين حيث تبادل الفريقان الاتهام.

واستطاعت الفرقة ان تقدم عدة مواسم ناجحة ساهمت بشكل واضح في تحقيق نجومية الشباب الذين كانوا بمثابة القاعدة التي انطلق منها الكثير من نجوم المسرح فيما بعد ، وفى المقابل كانت هناك فرقة المسرح الحر التي قدمت اسهامات حقيقية لبدء فاعليات تلك الفورة المسرحية والتي انطلقت من مفهوم مسرحي متقدم يتواءم وحركة المتغير الذى احدثته ثورة يوليو وقد حما ابعاد هذه الرؤية جيل الكتاب من اليسار المصري الذى تفاعل مع فكر الثورة.

ولقد حقق نعمان عاشور بداية اسهامات هذه الفرقة عندما احتضنت تقديم اعماله الاولى التي قدمت دراما التغيير الاجتماعي الذى اتضحت ملامحه من خلال قرارات الثورة المبكرة والتي كان ابرزها في تلك الفترة قرارات الاصلاح الزراعي وحماية المكاسب العمالية ....فقدمت مسرحية " المغماطيس" 1955 ثم مسرحية " الناس اللي تحت " 1956 كما قدمت العديد من العروض التي تتواءم وابعاد حركة هذا المتغير الذى اسقط النظام القديم بكل تداعياته حيث قدمت مسرحيتين عن الاقطاع وهما " الارض الثائرة " و" الرضا السامي " وناقشت قضايا ودور المرأة في ظل هذا المتغير مثل قضية نزول المرأة لميدان العمل حيث قدمت مسرحية "ماهية مراتى" ثم قضية تعدد الزوجات من خلال مسرحية " مراتى نمرة 11" الى جانب فرق المسرح الحر واسهاماتها كانت هناك فرقة انصار التمثيل وفرقة نجيب الريحاني اللتان قدمتا العديد من الاعمال الكوميدية وساهمتا في اثراء هذه الجانب من الفورة المسرحية السائدة.

المسرح القومي

غير ان فرقة المسرح القومي ستظل نقطة التحول وقاعدة الانطلاق لتحقيق ابعاد مفهوم النهضة في اطارها الكمي والكيفي وتحول البعد من مجرد فورة مسرحية اعتمدت بالدرجة الاولى على الكم المسرحي الى بعد جديد يتمثل في افراز القاعدة الاساسية القادرة على ان نطلق من خلالها الاعمدة التي يرتكز عليها مفهوم النهضة في تحقيقه العلمي.

حيث يشمل تطبيق ابعاد المتغير في اطاره الفكري والمنهجي اما القاعدة الاساسية التي حملت اعباء هذا الانطلاق فهم جماعة لكتاب المسرحيين الذين حملوا على عاتقهم ارساء قاعدة المسرح الواقعي المبشر والمستشرف للتوجه الاشتراكي بديلا عن مفهوم المسرح الذهني الذى كان يمثل البعد الفكري للمسرح قبل الثورة ولم يستطع هذا التوجه ان يكون القاعدة الجماهيرية العريضة بل كان اعتماده على تلك الشرائح من الطبقات "المتبرجزة" اقتصاديا او تلك التي اتخذت التعليم وسيلة وطريقا نحو " التبرجز".

اما القاعدة الجماهيرية العريضة فقد كان المسرح الكوميدي والفرق الشعبية الجوالة هما النافذة التي يطلون منها على فنون المسرح.

من هنا كان هذا التحول في المفهوم الفكري للحراك المسرحي الذى افرزته حركة التفاعل مع المتغير الذى احدثته ثورة يوليو حيث كان التوجه نحو الجماهير الحقيقية والتي تمثلها القاعدة الشعبية العريضة والتي كانت اصلا محور الفعل للمتغير الذى قصدته الثورة.

ولقد هذا البعد مسرحيا عندما اغلقت الستار عن مسرحية " الناس اللي تحت " على لطيفة / عزت وهما متوجهان الى مصر الجديدة .. تلك التي كانت ملامحها تتحقق فيما اطلقته الثورة من متغير.

ويبدو ان هذا الحراك المسرحي المتفاعل مع المتغير الذى طرحته الثورة قد اكد لها اهمية الدور الذى يمكن ان يقوم المسرح في صياغة حركة الجماهير وتوجهها... فكان اهتمامها بإعادة هيكلة الجانب المسرحي التابع للدولة فكان قرارها المبكر بتشكيل لجنة عليا للأشراف على المسرح القومي كان بين اعضائها د. طه حسين و د. حسين هيكل وهما من رموز الواجهة الثقافية والفكرية لمصر وذلك لمساندة هذا الحراك واستمراره كما كان قرار تولى احمد حمروش وهو من رجالات الثورة رئاسة المسرح القومي تحقيقا موضوعيا لهذه المساندة.

بدأت بحرب

يقول حمروش في كتابه " عشر سنوات في المسرح " ... بعد ثلاثة ايام من استلامي العمل وصل الى مصر الانذار البريطاني الذى رفضه عبد الناصر وظهر شبح المعركة في الافق وحلقت طائرات الاعداء تقذف المدن والمطارات ...ودخل الشعب المعركة، كنا نستعد لتقديم مسرحية " ايزيس " لتوفيق الحكيم وكان يخرجها نبيل الألفي ، كنت اذهب في الصباح الى موعد البروفة فأجد عملا منعزلا تماما عن روح الشعب حيث اسمع لحنا جنائزيا يقول...

مات الرجل الاخضر

مات الرجل الطيب

واحسست ان اشاهده على المسرح لا يتناسب وطبيعة المعركة ، ماذا افعل؟ وسألت عن المسرحيات الوطنية ... وكان الجواب باعثا للأسف اذا لم يكن هناك سوى مسرحيتين احداهما " كفاح شعب " تأليف محمد محمود شعبان عن فترة الاحتلال الفرنسي لمصر والاخرى " دنشواى الحمراء ..." عن مأساة قريتنا الشهيرة.

وبدأنا بروفات على المسرحيتين حيث بدأ نبيل الألفي في اخراج كفاح شعب وحمدي غيث في اخراج دنشواى ولما كانت الانوار تطفأ ليلا بسبب الغازات الجوية لقوات العدوان الثلاثي فقد قرر حمروش ان تعرض المسرحية بدءا من الساعة الثانية عشرة ظهرا وحتى الخامسة قبل اطفاء الانوار وان يفتح المسرح للجمهور مجانا.

ويواصل حمروش حديثه في هذا الصدد : وبدأت جماهير الشعب تتدفق على باب مسرح الازبكية وتعطل المرور في ميدان العتبة واستنجدنا بالبوليس لتنظيم الدخول ... لكن ضغط الشعب كان اقوى وامتلأت مقاعد المسرح والبناوير والالواج بأبناء الشعب البسطاء وتحولت الصالة الى مظاهرة شعبية.

ويستطرد حمروش : وكان هذا الحدث ملهما لعواطف الادباء والكتاب حيث اقبل نعمان عاشور ومعه مسرحيتان والفريد فرج مسرحية ومحمد عبد الرحمن خليل وامينة الصاوي وانور فتح الله وعدد كبير من الكتاب انفعلوا بالحدث وقدموا انتاجهم من اجل المعركة.

مظاهرات شعبية

اعد المسرح ثلاثة عروض من نوعية الفصل الواحد حيث قدم لنعمان عاشور مسرحية " عفاريت الجبانة " التي اخرجها نبيل الألفي و" صوت مصر " التي كتبها الفريد فرج واخرجها حمدي غيث ثم مسرحية " بورسعيد " التي اخرجها فتوح نشاطي.

وكانت العروض تنتهى كل يوم بمظاهرة شعبية حماسية تندد بالعدوان ... وتطالب المجتمع الدولي بالوقوف الى جانبها ضد الغزاة وقوات العدوان الغاشمة ثم يتوجهون الى مقار المقاومة الشعبية للانضمام الى فرق الفدائيين المتوجهة الى مدن القناة حيث المعركة الدائرة.

شاهد عيان

يقول شاهد عيان من الذين عايشوا تلك الاحداث يومها خرجت الجماهير من المسرح ولم تكن تدرى الى اين تتجه لكى يصل صوتها الى المسئولين ، وكان اقرب مقر رسمي امامها هو مركز الاطفاء الرئيس المواجه لمسرح الازبكية واعتصمت بداخله مطالبة بتسجيل اسمائهم في كشوف المتطوعين وانهاء اجراءات سفرهم الى الجبهة على الفور والانضمام الى كتائب المقاومة الشعبية.

ويقول حمروش في ملاحظته حول طبيعة الاجواء التي احيطت طوال فترة العرض للمسرحيات الثلاث: والمدهش انه رغم استمرار العرض لأكثر من شهر تقريبا الا ان الجمهور كان يخرج يوميا على شكل مظاهرة مطالبا بالانضمام الى صفوف المقاومة الشعبية.

محاور النهضة

وكان هذا الحدث البداية الحقيقية التي صاغت وشكلت بناء القاعدة التي انطلقت منها كافة العناصر المسرحية اللازمة لبناء النهضة وكان بينها اهم عنصرين حققا البداية الحقيقية للحراك المسرحي المبشر بأحداث النهضة كما كانا ايضا محور جذب لكافة العناصر المكونة لمنظومة العملين المسرحيين وهذان العنصران هما : الكاتب المسرحي / الجمهور

اولا : الكاتب المسرحي

الكاتب المسرحي يمثل داخل الدائرة العملية المسرحية المركز الذى تلتقى حول كافة العناصر المكونة للعرض المسرحي ، وحتى خمسينيات القرن الماضي كان الكاتب المسرحي المصري من العناصر التي يندر وجودها بالصورة التي يمكن ان تحقق تيارا مسرحيا مصريا خالصا ولهذا فان الحركة المسرحية في مصر التي تشكلت على المنهاج الغربي والتي بدأت مع قدوم الفرق المسرحية الشامية التي صاحبت هجرة الشوام الى مصر في منتصف القرن التاسع عشر حيث كانت عروض هذه الفرق تعتمد على النصوص الاجنبية المعربة سواء على مستوى العروض التراجيدية ذات الطابع الكلاسيكي او على مستوى العروض الكوميدية التي كانت تعتمد على الفودفيل الفرنسي.

وكان يقوم بدور المقتبس او المعرب للنصوص العديد من الكتاب واغلبهم من الشوام المتمصرين  الذين كانوا يعتمدون على ترجمات المسرح الفرنسي بشكل خاص ثم تأتى عملية التعريب او التمصير بعد ذلك طبقا لموضوعية الواقع الاجتماعي او السياسي المعاصر للعرض المسرحي او طبقا لأهواء وميول صاحب الفرقة وغالبا ما يكون هو المخرج بجانب هذا التوجه الذى كان يمثل حال وواقع النشاط المسرحي كانت هناك بعض الاجتهادات لفردية من كتاب مصريين حققوا نصوصا ارتجالية تكتمل من خلال عروضها على الجمهور وهى جهود شكلت موجه اشبه بتلك الموجة التي اجتاحت اوروبا تحت مسمى الكوميديا ديلارتى.

واذا كان هناك بعض الكتاب استطاعوا ان يحققوا رؤية مسرحية مصرية من خلال مؤلفاتهم يجب ان نذكر على وجه التحديد اعمال شوقي المسرحية ثم توفيق الحكيم وعلينا ان نقف مليا امام اتجاهات وتجارب محمود تيمور الكوميدية وعلى الرغم من تنوع انتاج الثلاثة ما بين المسرحية التاريخية والدراما الاجتماعية وكذلك الاتجاه نحو الكوميديا في الفترة التي كان يسود فيها السوق السينمائية هذا النوع من العروض المسرحية والطريف في الامر ان هذه النوعية ازدهرت تاريخيا في اعقاب الحربين الكبيرتين.

الا ان هذا الانتاج لم يستطع ان يحقق تيارا مسرحيا مصريا وذلك لأسباب عدة ...

1- ان مجمل الانتاج المسرحي لهؤلاء الكتاب الثلاثة يغلب عليه سمات المسرح الذهني وقد تكون اغلب النصوص التي قدموها خاصة المسرح الشعرى عند شوقي ... وذهنيات توفيق الحكيم تصلح للقراءة اكثر منها للعرض المسرحي وذلك لغلبة التوجه الأدبي عليها.

2- ان مشكلة اللغة العربية الفصحى التي كانت تقدم بها هذه العروض لا تجد قبولا جماهيريا عريضا وان القلة من الطبقة البرجوازية او تلك " المتبرجزة" بشرائحها المختلفة تمثل جمهور هذه العروض القليل الامر الذى يفقد العرض خصائصه التجارية وهو ما يسبب نوعا من الخلل المالي للفرق التي تقدمها ... خاصة وان هذه الفرق من الكيانات الاقتصادية الفردية الخاصة التي تحتاج الى هامش من الربح كضرورات مادية دافعة للاستمرار.

3- هذا الواقع انعكست تداعياته على حجم الانتاج لهؤلاء الكتاب فقل انتاجهم خاصة على مستوى العرض المسرحي واعتمدوا على نشر كتاباتهم المسرحية كنصوص ادبية تحتويها وفى كتاب يطرح في الاسواق ولم تظهر نصوصهم كعروض مسرحية بشكل يكاد ان يكون منظما الا بعد تكوين الفرق المسرحية التي تتبع الدولة التي بدأت مع انشاء الفرقة القومية في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي.

اما العنصر الثاني الذى ارتكز عليه حراك الفورة المسرحية منذ بدايتها والتي واكبت قيام الثورة والقرار المبكر الذى اتخذته بقيام الإصلاح الزراعي وتصفية الاقطاع ، هو الجمهور وعلى الرغم من تعدد شرائحه الا انه دخل حالة التفاعل مع ابعاد هذا الحراك وفى اطار وحدة الزمان والمكان والفعل توحدت كافة المشاعر تجاه ابعاد المتغير الذى فجرته الثورة والذى جعل من القضية الوطنية بكل خطوطها المتشابكة على المستويين الداخلي والخارجي هي الدافع للحراك الجماهيري حيث تجسدت تلك الخطوط من خلال العروض المسرحية التي تفاعلت وابعاد هذا المتغير ... فكان هذا التوحد الذى وحد بين شرائح الجماهير في اطار تفاعلها مع العروض المسرحية التي وجدت فيها الجماهير قراءة واضحة اللغة عبرت عن مشاعرها تجاه ما فجرته الثورة من تغير.

ومن هنا كانت البداية لتحقيق القاعدة الجماهيرية العريضة للمسرح والتي كانت بمثابة الشرارة التي شكلت ملامح النهضة التي تفجرت ابعادها خلال عقد الستينيات حيث كان التفاعل مع كافة مجريات الاحداث المصيرية التي تحققت خلال مساحته الزمانية ولقد كانت الاحداث المتلاحقة والفاعلة التي عايشتها مصر بل والمنطقة العربية بأكملها خلال هذا العقد وما احدثته من تأثير على تركيبة البنية الاجتماعية والسياسية والعسكرية حيث جسدت نكسة 67العسكرية احدى اهم مفاجئات هذا العقد  وكانت هذه الاحداث وتفاعل المسرح بها بمثابة حلقات الاتصال الدائمة بين المسرح والجمهور وهو الامر الذى حافظ على الرابطة القوية بين المسرح وجمهوره خلال هذا العقد واكد على الدوافع التي حققت مفهوم النهضة التي صاحبت مسرح الستينيات.

 

بقلم / محمود مسعود

المصدر/ جريدة مسرحنا العدد 99

1 من يونيه 2009

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,270,107