عامل فقير بأحد مكاتب البريد اخذته نداهة المسرح فترك عمله الذى يقتات منه ويطعم زوجته وابناءه الاحد عشر وذهب معه خمسة من ابنائه...منهما فتاتان تزوجت كل منهما من شاب فقير اخر التقطه الاب ورعاه ليصبح اسطورة مسرحية قلما يجود العالم بمثلها ... وخلال القرون الاربع الاخيرة لا ينقطع ذكره في كل بقاع العالم وطالما ذكر موليير فيجب ان يذكر بيجار.
بداية دائما عند رب العائلة وكبيرها الاب " جوزيف بيجار " 1585 – 1641 والذى يعد اهم فرد فيها واكثر من اهملتهم الدراسات المختلفة ولم توضح مدى اهمية الدور الذى لعبه ...احب الاب جوزيف المسرح فترك عمله وذهب يعمل بأحدي مسارح حي مارايس اهم احياء باريس التاريخية واخذ يقدم العون والسند ويشارك في كل عناصر المسارح .... يدرك كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة.
زادت اهمية دوره في المسرح وبات يتقاضى اجرا ورويدا اصبح حكيما مسرحيا يلجأ له الجميع ولا يتأخر عنهم حتى جذبه بشدة شاب وجد فيه وسامة لا يعبر عنها وجهه فأخذ على عاتقه رعايته حتى يشتد عوده واكتشف فيه ملكات كثيرة شجعه على تنميتها اهمها التمثيل والكتابة والاخراج المسرحي ايضا.
كان جوزيف الاب اول قارئ لأعمال موليير مخطوطة بمخطوطة ... وحرص دائما على الا يتدخل في بناء كتاباته حتى يكتمل ثم يناقشه من اجل ما سيكتبه بعد ذلك وكان موليير حريصا هو الاخر على تلك العادة والاستفادة منها مما اسهم في تنمية قدراته بل وكانت غنيمة موليير الاكبر هي مخيلة الاب جوزيف الواسعة التي عبر حدود المعقول في عصره.
يتغنى الباحثون والمفكرون بسمات مميزة لأعمال موليير اكتسبها جميعا من كبير عائلة بيجار... اهمها سلاسة اللغة وتجددها بعيدا عن اللغة المعقدة التي كانت سائدة والتحرر من قواعد كثيرة مثلت قيودا لم يفطن من سبقوه لها... وهناك ايضا الطاقة العاطفية والرومانسية المتجددة التي تشبع بها موليير لاشعوريا وبدت واضحة في اعماله خاصة "دون جوان" و "مدرسة الزوجات"
وكان الاب جوزيف ايضا وراء النزعة الكوميدية التي غلفت اعمال موليير ومنحتها صبغة مختلفة عن الاعمال المعاصرة له وتجلى في مسرحيته "تارتوف" كما عزز الجوانب الانسانية عنده والتي وضحت في كل اعماله تقريبا وهو ما جعلها قريبة الى قلوب الجماهير العريضة خلال السنوات الطويلة الماضية.
عندما رحل الاب لم يترك ابنه الروحي هائما بل ترك حوله عائلة قوية بفكرها وروحها تعشق المسرح مثله...فخمسة من ابنائه الاحد عشر عملوا بالمسرح ومنهم جوزيف الابن 1616 – 1658 احد اعضاء فرقة موليير والذى ظل يعمل حتى سقط على خشبة المسرح وحاول العمل بوصية ابيه...وشغل الفراغ الذى تركه عند موليير ولكنه لم يكن بنفس قدر ابيه رغم محاولاته وان تغلب على ذلك بالاهتمام بالفرقة والمسرح لإنجاح اعماله حتى توفى ومن بعده تأتى جنيفيف 1624 – 1675 التي كانت ملكة جمال لقبا ووصفا واهلها هذا الجمال لتعمل ممثلة رغم افتقادها للكثير من الموهبة ولكنها عوضت ذلك بسحر تعبيرات وجهها وابتسامتها الخلابة ... ورغم ارتباطها بالعمل مع الفرقة وتجسيد شخصيات موليير النسائية ولكنها تمردت في بعض الاوقات وان ظلت وفية له حتى وفاته...بعدها تقاعدت واقامت في فندق جريندا حتى وفاتها.
وايضا "لويس" او "لو" 1630-1678 وكان نجم اعمال موليير الكوميدية والذى اسهم في رسم العديد من شخصياته فكلما لعب شخصية منح من خلال ادائه مدخلا جديدا لموليير لينسج شخصية اخرى او اكثر.... وبخلاف جنيفيف كان لويس موهوبا بل لعله اكثر ابناء بيجار موهبة وطلاقة وقدرة على الاستحواذ والاحتفاظ باهتمام الجماهير طالما كان هناك جزء منه على خشبة المسرح ويسجل التاريخ انه كان اول ممثل يتقاعد في التاريخ وهو في الاربعين ويحصل على الف فرانك شهريا معاشا له.
وبعد التحليق والمرور سريعا على جوزيف الابن وجينفيف والاخ الاصغر لويس.. جاء موعد الغوص الى الاختين الكبرى والصغرى في هذه العائلة واولهما " مادلين بيجار " 1618-1664 والتي تأتى في المرتبة الثانية من حيث اهمية دورها في حياة موليير والتي كانت خير عون له بعد وفاة والدها كونها الابنة الكبرى...وكذلك ابرز اعضاء مسرح موليير والتي احبته وعشقت التمثيل وكانت شديدة الاندماج بكامل وعيها ووجدانها بصورة فريدة ونادرة الوجود...ولهذا حفرت اسمها على شخصيات موليير في اشهر مسرحياته وادوار "دورين في تارتوف " ، " مجدولين فى المفرحة السخيفة " ، " اليس في دون جوان "
تتلمذت مادلين على يدى موليير وتعلمت التمثيل وتفصيلاته منه رغم انها كانت تكبره عاما ... وولد تقاربهما مشاعر قوية بينهما حتى تزوجها وباتت شريكته في كل شيء .....كما لعبت دورا كبيرا في اوقات الازمات المالية ولولا ذلك لما خرجت العديد من اعمال موليير وخاصة روائعه التي كتبها بعد نضجه الفكري والمسرحي وعلى راسها البخيل وترتوف ولم تكن علاقتهما تخلو من الشد والجذب.
قال عنها موليير " مادلين نصفا افتقدته ....جميلة شجاعة وشديدة الذكاء ، حنونة ذات صوت عذب...ترقص وتغنى فتمنحك كل ما تحتاجه من متع الحياة ...تجيد لعب كل الادوار النسائية والذكورية ايضا ... كانت تجيد القاء الكلمات شعرا ونثرا ... وكانت تجيد الانصات ... تعرف متى تتكلم ؟ ومتى تصمت ؟
بعد رحيل مادلين...شعر موليير بالاسى وكاد يتوقف وتنتهى رحلته المسرحية ولكن تلميذته الثانية والشقيقة الصغرى " ارماندا بيجار " 1642 -1700 والتي كانت تعشق معلمها الذى يكبرها بعشرين عاما والتي احتفظت بمشاعرها وخبئتها من اجل اختها الكبرى ولكنها لم تستطع الاستمرار في ذلك بعد وفاة مادلين ...فاقتربت من موليير وعبرت عن حبها وعشقها له.
تزوج موليير من ارماندا التي كانت صاحبة عاطفة جياشة انجذب معها من شدتها ... رغم هدوئها وكياستها وغمرته حتى اصابته الحيرة ولم يكن يصدق ان هذه هي الفتاة التي ولدت وحملها منذ اول يوم لها على الارض وادرك طفولتها ومراهقتها وصباها واثرت كثيرا في كتاباته التي زادت فيها جرعة الرومانسية ...ثم لعبت اهم شخصياتها بدورها لتكتمل الحالة المسرحية النادرة واستكملت علامات مادلين من خلال ادوار دوريس في مدرسة الزوجات ، لويزا في روح و فروزين فى البخيل.
حاولت الحفاظ على فرقة موليير اسرة مسرحه بعد وفاته ...وتقديم النصوص التي كتبها ولم تكن قدمت بعد واعادة نصوصه الاخرى من خلال الرؤى التي أسر بها اليها قبل وفاته ...كما تركت وصية لتحويل منزل " بيجار – موليير " الى متحف للفن...وهو ما حدث بالفعل وعملت في سنواتها الاخيرة بالمسرح الكوميدي ثم تقاعدت ومنحوها معاشا قدره الف فرانك.
خلال ربع قرن واكثر.... وهى الفترة التي تزوج فيها موليير من مادلين وارماندا ...اسهمت بشدة من خلال علاقة التأثير والتأثر الشديدة في كتاباته من ناحية واكتملت العلاقة عندما جسدا شخصيات مسرحياته افضل تجسيد فمنحاها روحا وصدقا...فبعد نهاية العروض الاولى كان موليير يعيد كتابة بعض المشاهد طبقا للأداء واحساس كل منهما وهو الامر الذى لم يتاح لغيره.
رغم معاناة موليير في طفولته وشبابه وامتهانه مهنة والده والعمل بالتنجيد ... وما واجهه من شقاء ولكنه بالتأكيد محظوظ وسعيد القدر الذى جمعه بهذه الاسرة التي رعته ومنحته كل ما لديها بإخلاص من حب وحنان وفكر ورؤية .... واحتضان ربما لم يناله كثيرين ممن يعيشون في كنف اسرهم.
وعند استعراض مسرحيات موليير خلال 28 عاما هي الفترة بين اول واخر واحدة كتبها ...ثم اسنادها لمن عاصروها او شارك فيها من عائلة بيجار ...ثم دراستها واحدة بعد الاخرى بأسانيدها لادرك ان هذه العائلة شريك أساسي في اسطورية موليير وابداعاته.
ولن يتوقف الامر عند المرور بعائلة بيجار وذكرها في سطر وكلمة ولكن يبدو ان الوقت قد حان لأسناد الحقوق الى اهلها ... وسيأتي يوم قريب تتساوى فيها اعداد الصفحات التي تخص كل فرد من هذه العائلة مع صفحات موليير في سجل تاريخ المسرح العالمي ...وسنجد عبارة هامة مفادها" قلم موليير وفكر وروح بيجار"
ترجمة / جمال المراغي
المصدر/ جريدة مسرحنا
19 سبتمبر 2011
ساحة النقاش