تخضع حركة التجريب في الآداب والفنون قديما لحركة الفاعل الاقتصادي ، متقنعا خلف الكاهن او الحاكم ( الفرعون او الملك ) لذا صور الفعل الدرامي في المسرح القديم محمولا على لسان ممثل الالهة او ما قرره الفرعون او الحاكم.
ولان الفاعل الحضاري عند اليونان تمثل فيما ينتهى اليه الحوار مع الاخر دون ان يتعارض مع ما تمليه الالهة لذلك سيطر عالم الغيب على عالم المعيشة فيما عبر عنه المسرح.
ولان الفاعل الحضاري عند الرومان تمثل فيما يمليه القانون المدني مقصورا على المواطن الروماني دون غيره من مواطني المستعمرات الامبراطورية المترامية الاطراف فقد تمثل ذلك في اعمال "سينيكا" المسرحية وفى اعمال "تيرانس" ولان الفاعل التاريخي في العصور الوسطى قد تمثل فيما يمليه فهم الكهنة والكهانة والمشايخ للكتب الدينية السماوية ، لذا سخر المسرح مطية للطاب الديني مغلفا بالوان الخرافة.
ولان الفاعل الحضاري في عصر النهضة قد تمثل فيما يمليه العلم سواء بالاستدلال الاستنباطي محمولا على قياس الكل الغائب على الجزء الحاضر او بالاستدلال التجريبي محمولا على اسبابه المادية لذلك زاحم المنطق الصورة الادبية والفنية وتغلغل متقنعا خلفها .
ولان الفاعل التاريخي في عصرنا الحالي يتمثل فيما تمليه القوة الغاشمة المنفردة بالسيطرة على الميديا والفضاء الخارجي والثورة المعلوماتية لذلك سيطر فكر التفكيك وما بعد الحداثة ولا مركزية الخطاب ونفى الانساق البنائية بالتشظي والتداخل المكاني والزماني على الابداع الأدبي والفني والنقدي وسادت ثقافة ( الكليب ) في كل مناحي الثقافة والفكر والابداع.
وتبعا لتغير الفاعل الحضاري عبر العصور وتعدد صور التعبير الإنساني ادبيا وفنيا بتعدد صور التعبير المسرحي ما بين عرض مسرحي وعرض اخر تبعا لتعدد العامل والتصور فهناك الفاعل الفرجوى في التعبير المسرحي وهناك الفاعل الفلسفي والفاعل التاريخي والفاعل الأنثروبولوجي ، الفاعل الاثنولوجى وهناك الفاعل النفسي والفاعل الديني والفاعل الجمالي والفاعل الفرجوى التعبيري او السردي او التشكيلي التجريدي او التجسيدي.
فمع انه لا تصور بدون صورة ولا صورة بدون تصور الا ان لكل منها مفهوما مغايرا لمفهوم الاخرى فهيجل يفصل بين التصورات والصور ، اذ يرى ان التصورات مجالها الفكر المجرد ومجال الصور هو الحياة المجسدة والتجريد وقوده التأمل و التأمل منبعه ايجابية الروح عند النظر الى الغائب ومحاولة استحضاره في حين ان التجسيد وقوده التخييل والتخييل والتخيل منبعه العقل عند النظر الى الحاضر الموجود ومحاولة استبدال صورته الحقيقية بصورة حقيقية بديلة.
والباعث الفرجوى سرديا كان ام تشكيليا حتمي في مجال الفن عامة وفى مجال المسرح خاصة فأن الباعث الفرجوى يكون تعبيرا دراميا فرجويا ، حضوري الارسال والتلقي.
والباعث في كل انواعه ليس سوى سلوك او انفعال بشرى أبداعي عن حالة او عدد من حالات الضعف فيما رأى جيمس وهو حالة من حالات سوء التكيف ودلالة على الفشل وهنا يجب التأكيد على ان السلوك في الصورة ما هو الا لون من الوان الخيال فلا فن اذا انتفى الخيال ولا ادب بل لا علم بدون خيال يتشكل عبر منطلقات الدهشة بإزاء ما يغاير مدركاتنا والخيال كما يرى سارتر ما هو الا نسخة ثانية من واقع محتمل وهو اعادة تجسيد صورة ما تجسدت فى الذهن اولا قبل تجسدها المادي .... يقول ايسر" من القوانين العامة ان كل ناتج مفترض للتصور تليه سلسلة من الصور الذهنية تستنسخ كل منها مضمون سابقتها ولكن بحيث تضفى على الدوام صفة الماضي على الصورة الجديدة ومن هنا فإن الخيال يثبت خصوبته"
صور التعبير عن السلوك في المسرح
يتغير التعبير عن السلوك مسرحيا تبعا للباعث النفسي او الاجتماعي او الأنثروبولوجي او الاحتفالي او الجمالي او الاثنولوجى او الفرجوى سردا او تشكيلا تجريدا او تجسيدا تعبيريا.
اولا : السلوك النفسي للتعبير المسرحي
يتمثل في صورة فردية ذات بواعث ذاتية وخير مثال له في المسرح قائم في التعبيرية ومثالها ( القرد الكثيف الشعر ) ، ( بيرجنت ) ، ( عربة اسمها الرغبة ) ، ( الاميرة تنتظر ) يقول فرويد عن الشعراء والروائيين هم فى معرفة البشرية معلمونا واساتذتنا نحن معشر العامة لانهم ينهلون من موارد لم نفلح بعد في تسهيل ورودها على العلم.
ثانيا : السلوك الاجتماعي للتعبير المسرحي
يتمثل في صورة متكررة من فرد الى اخر وسط اجتماعي محدد زمانا ومكانا وخير مثال له المسرح الواقعي والمسرح الطبيعي مثال ( مس جوليا ) ، ( بيت دمية ) ، ( مشهد من الجسر ) ، ( الحضيض ) ، ( الناس اللي تحت ) ، ( الجنزير )
ثالثا : السلوك الأنثروبولوجي للتعبير المسرحي
يتمثل فى صورة متكررة لدى الانسان وفق العادة تلازمه منذ نشأته حيث تتواصل معه عبر الاجيال ومنها ( العقوق ، الغيرة ، التفاؤل ، التشاؤم ، الانفلات ، الحقد ، الغيرة ، الفخر ، العدوان ، الاستحواذ ، التصابي ) وخير مثال له المسرحية الشعبية ( الهلالية – على الزيبق – الظاهر بيبرس – يا عنتر – حسن ونعيمة – اليهودي التائه – يهودي مالطه – تاجر البندقية – منين اجيب ناس – شفيقه ومتولى )
رابعا : السلوك الاحتفالي للتعبير المسرحي
يتمثل في صور متكررة في المناسبات وفى فنون الاداء الاستعراضي وخير مثال له المسرحية العرائسية ( الليلة الكبيرة ) ( القاهرة في الف عام ) والمسرحية الاستعراضية التي تعتمد على المبالغة بالتضخيم او التصغير للأيهام بحالة لانتشاء الجمعي الطقسي وفيها يتلاحم المرسل والمستقبل.
خامسا : السلوك الجمالي للتعبير المسرحي
يتمثل في صورة تتخذ مواضع معينة قائمة على الاحتمال لا الضرورة وهى جالبة للمتعة عن طريق التناسب والتماثل والغرابة وافق التوقعات وخير مثال له عروض الباليه وعروض الرقص المسرحي الحديث والمسرحية الرومنتيكية ومسرح السرد التشكيلي ( الصورة ) كعروض ( وليد عونى وكانتور وشاينا ومونجييك وباربا وفيدا)
سادسا : السلوك الاثنولوجى للتعبير المسرحي
يتمثل في الصورة المتنوعة المحدودة بالطبيعة العرقية والتراثية وخير مثال له في المسرحية المعتمدة على الاسطورة والخرافة والمسرحية الكلاسيكية والمسرحية الرمزية ومسرح الكابوكى ومسرح النو والمسرحية الدينية ( ادم – كرنفال الاشباح – منين اجيب ناس )
سابعا : السلوك الفرجوى للتعبير المسرحي spectacle
تتمثل في الصور الكرنفالية القائمة على التفاخر والتباهي وفيها يميل التعبير نحو لغة الجسد على حساب لغة الكلام وهو جمالي في الاساس يعلى من شأن الصورة على المادة سواء بالمعنى الأرسطي او بغيره.
ويتمثل غالبا في عروض المسرح الشامل حيث تتعدد الفنون الادائية والتشكيلية والاكروباتية والموسيقية وتتداخل بتعدد الانا الخاصة بالفنان من خلال الشخصية المسرحية نفسها اذ ان الذات المتصدعة المنقسمة للفنان الحداثي تتلبس اصوات شخصيات مختلفة وحركاتها النابعة من الذات الواحدة وفى المسرحية المابعد الحداثية حيث تتشظى الصور وتتداخل لتكشف عن تناقض الدلالات واساءة القراءة وارجاء الاختلاف على المعنى التام للعرض المسرحي.
العرض المسرحي بين نظريات التطهير ومسارات الاداء
لا شك ان الاخراج المسرحي شأنه شأن كل نشاط إنساني يتقوى بالعلم ويحصن مصداقيته بمساراته لذا ينهج الاخراج التعبيري نهجا تأصيليا في اتجاه التواصل الى ما وراء الفعل من بواعث نفسية ومدى تفعيلها لتحقق الاثر التطهيري ، ان عرض مسلك الفعل على المسرح يستهدف التطهير عندما يقترن بناؤه ادائيا بدراسة تأثيره على الممثل وعلى جمهوره ، يحيل المخرج في وجهته التعبيرية نحو دراسة النظريات العلمية التي ترتب محددات التطهير في منظومات علمية لكل منها منطلقاتها الفكرية والمنهجية وفى تحليل المخرج لشخصية مثل ( جوليا او بلانش او ميديا او ليدي ماكبث او عطيل او الكترا او احدى شخصيات كافكا) عليه ان يدرك الفرق بين النظرية الاحلالية واختلافهما عن النظرية التعليمية وعن النظرية الطبية وعن النظرية التجريدية وعن النظرية التماثلية وعن النظرية المقارنة.
ففهم الاخراج التعبيري الذى يتصدى لمسرحية تنتمى لأسلوب مسرح القسوة او فيها سمة منه يقوم على النظرية السادية التي تردى ان التطهير يحدث في نفس مشاهد المسرحية المأساوية عندما يتمتع برؤية الاخرين يتعذبون امامه وتتضاعف هذه المتعة حين يتحقق من ان ما يراه فوق خشبة المسرح ما هو الا تمثيل في تمثيل وليس الحياة المعيشة وبذلك الفهم يتمكن المخرج من توجيه الممثل نحو التحليل الأدائي الاكثر دقة لفهم دور ( الماركيز دي صاد ) او دور الزباء او ميديا اما فهم المخرج الذى يتبع اسلوب التغريب الملحمي الذى يركز على الصفة الاجتماعية للدور المسرحي فانه سيجد في النظرية الاحلالية مدخلا لرؤيته الاخراجية بملامحها الايدلوجية المسار ، تلك النظرية الاحلالية التي ترى ان المتفرج عادة ما يتمثل احدى الشخصيات المأساوية التي تعانى الازمة المعذبة وبعدما تنتهى المسرحية يداخل المتفرج نوع من السرور الناتج عن شعورين :
شعور بأن الاحداث المفجعة لم تحدث له حقيقة ، وشعور مترتب على الشعور الاول يتمثل في ان متاعبه الشخصية ليست كارثية كتلك التى رأها تحدث للشخصية المسرحية التى شاهدها وهى محتملة الحدوث.
فذلك ما يحدث لعامل شاهد مسرحية ( الاستثناء والقاعدة ) وتمثل شخصية ( الاجير ) او شاهد ( السيد بونتيلا وتابعه ماتى ) وتمثل ماتى او تمثلت مشاهدة الام في ( الام شجاعة ) وينطبق ذلك ايضا بالنسبة له بوصفه مخرجا على طريق الايديولوجيا حالة ارتكازه على النظرية التعليمية التي ترى ان المشاهد لموقف درامي تطهيري عندما يشاهد معاناة البطل المأساوية فإنه يتعلم عن طريق احاسيس الخوف والشفقة المستثارة – ان انفعالات البطل الشرير كما هو حال " ياجو " او " شايلوك " او " يهودى مالطة " فى مسرحية " ( مارلو ) ومن ثم عليه ان يتجنبها
اما تصديه لاخراج مسرحية مثل ( سوء تفاهم ) لألبير كامى فهي تحتاج منه الى استظهار ( النظرية الطبية ) تلى التي ترى ان عاطفتي الخوف والشفقة تزيد في نفوس بعض المتفرجين على الدرجة والكمية التي لهاتين العاطفتين بما يترتب عليه احداث باثولوجيه ، انطلاقا من الفكرة التي تقول ( وداوني بالتي كانت هي الدواء ) ومن ثم يشعر المتفرج غير المتوازن انفعاليا بالإمتاع الذى يعيد اليه توازنه الانفعالي الصحيح.
اما النظرية الدرامية التجريبية : فترى ان المتفرج يستمتع بخوض تجربة الانفعالات المقدمة له عبر منظومة متشظية لصور غير مألوفة وغير مسبوقة لمشاهد الخوف والشفقة دون ادنى إحساس منه بأنه مطالب بالتوحد مع ما يعرض عليه وبذلك يرى نفسه في منأى عن اية اضرار شخصية يمكن ان تقع عليه ويدخل في اطار تلك النظرية كل العروض المسرحية الحداثية التي تتعدد دلالات تلقيها الى جانب العروض المسرحية المابعد حداثية التي تفكك الانساق الفنية في بنائها المتشظى والذى تتداخل ازمنة احداثه وامكنتها.
وعلى الرغم من ان النظرية التطهيرية المقارنة التي تأسست على مأخذ افلاطون وهجومه على المسرحية المأساوية بدعوى انها تثير في نفس مشاهدها عاطفتي الخوف والشفقة الامر الذى يضعفه انفعاليا ، ومقارنة مأخذ افلاطون تلك بالردود التي عارض بها ارسطو استاذه حيث رأى ان اثارة هاتين العاطفتين في نفسية المشاهد تخلصه منهما ومن ثم يحدث التطهير الذى يجعل الشخص افضل صحيا واقوى انفعاليا.
فإن دارسي المسرح الدرامي في اعتمادهم على النظريات العلمية المتصلة بنظرية التطهير يتوجهون بأنظارهم نحو تلك النظريات تبعا لقرب إحداها من طبيعة الاسلوب الذى تنبنى عليه المسرحية في اتجاه تحقيق الاثر التطهيري دراميا وجماليا.
فالنظرية التماثلية التي ترى ان التطهير يجب ان يقع بطريقه مماثلة لشخصيات المسرحية ذاتها قبل ان يؤثر في الجمهور المشاهد ولنا ان نلاحظ حالتي الخوف والشفقة اللتين تشعان على هاملت قبل ان تؤثر على متفرجيها وسيطرتهما على ( اوديب ) وعلى ( بيكيت ) وعلى ( مس جوليا ) وعلى ( كوارج ) فى ( الام الشجاعة ) لبريخت على الرغم من بنائها التغريبى وعلى ( جولييت ) وعلى ( ديدمونة ) كذلك يتماثل حالة التطهير ما بين جمهور ( جريمة قتل في الكاتدرائية ) و ( بيكيت او شرف الله ) وكلتاهما تتناول حياة القديس توماس بيكيت قبل تعيينه قديسا لإنجلترا ( رئيسا لأساقفة كانتربيرى )حيث يتطهر من رذائل ماضيه في مصاحباته العربيدة مع الملك هنري الثامن فور تعيين الملك له رئيسا للأساقفة.
ان التحول من حياة العربيدة التي عاشها ( توماس بيكيت ) عندما كان صاحبا للملك هنري الى حياة الطهر والتقى فور تعيينه رئيسا للأساقفة لم يكن متوقعا من قبل صديقه الملك الذى عينه ليؤمم له اموال الكنيسة الانجليزية واوقافها التي تؤول حصيلتها الى الكنيسة الام في روما لذلك يصاب بحالة من الادهاش نظرا لوقع المفاجأة عليه كذلك تصيب المتفرج حالة من الادهاش نظرا لمتانة الرابطة التي راها في علاقة ( بيكيت ) بـ الملك وفى ذلك ابطال لافق التوقعات الذى ركن اليه المتفرجون كما ركن الملك نفسه اليه ومناقضة التوقع تحدث الصدمة وتحرك شعور المتلقي للصورة او الموقف لأنه يكشف عما وراء المظهر الذى يتسم به الفعل الدرامي بطريقة غير سابقة التخطيط وهى في الوقت ذاته تشى باحتمال تدبرها وفق تخطيط سابق في ضمير الشخصية ، يقول ارسطو " الادهاش المتولد ، يكون اعظم مما لو وقعت هذه الاحداث من تلقاء ذاتها او بالمصادفة وحتى الاحداث التى تقع اتفاقا او بالمصادفة تبدو اكثر ادهاشا عندما تتم وكأنها وقعت عن سابق تخطيط"
فالتأثير الامثل للحدث في التراجيديا من حيث اثارة الخوف والشفقة يتحقق بتحقق عنصرين – وفق ارسطو :-
ا- الوقوع الفجائي ، غير متوقع للحدث
ب- تتابع الفعل وترتب كل فعل على فعل اخر في الوقت ذاته على ان التماثل فى المثير الشعوري بالتعاطف والتخوف مع الشخصية المسرحية لا يتحقق عن طريق التحول المتماثل ما بين الشخصية والمتفرج الا اذا تشابه المتفرج مع الشخصية وذلك شرط التحول التراجيدي كما نص عليه ارسطو.
وهنا يجوز لنا القول بأن فكرة التوحد او عدوى الاندماج بين الممثل وجمهوره وفق شروط النظرية الارسطية تتناقض مع ذلك الشرط الأساسي للتحول عند المتفرج ، ذلك ان التحول الذى لا يتحقق عند المشاهد الغير متشابه مع الشخصية التراجيدية المعروضة امامه بالتجسيد الأدائي وهنا تسقط نظرية الاندماج او التوحد الجماعي بين جمهور العرض المسرحي مع الشخصية اذ يقتصر ذلك على المتفرج المتشابه مع الشخصية المعروضة.
بقلم/ د. ابو الحسن سلام
المصدر / جريدة مسرحنا العدد 171
18 اكتوبر 2010
ساحة النقاش