المتعة الفنية عند "تاسو" مجرد وسيلة لتوصيل الفائدة المرجوة من القصيدة
عرف الإنسان الأول الدراما التعليمية فى أبسط صورها حينما كان يخرج فى رحلة صيده لاقتناص فريسة معينة، فإن نجح فى اصطيادها عاد لأفراد قبيلته مرة أخرى، وجمع أقاربه حوله ممسرحاً أمامهم كيف تمكن من اصطياد هذه الفريسة، وبالطبع فإن فى ذلك درساً تعليمياً أراد أن يلقنه لهم من خلال تجسيده حركياً للأشياء التى يجب أن يتبعونها عند تعرضهم لنفس الظروف، وهنا نرى بداية خيوط البناء الدرامى من قصة يحاكيها شخص بحركات تمثيلية راقصة فى مكان متسع، ويلتف حوله مجموعة من الأشخاص الذين يشاهدونه فى حالة شغف تام، لما تحمله حكايته الممسرحه من مغزى تعليمى يفيدهم فى حياتهم العملية.
وفى العصر الفرعونى تطورت ملامح هذه الحبكة، واتخذت شكلاً دينياً يهدف إلى تعليم المصرى القديم مبادىء وقواعد دينيه، حيث نشأ المسرح الفرعونى داخل أروقة المعابد وكانت الأعمال المعروفة آنذاك تؤكد على قيمة تعليمية مغزاها أن الشر مهما طالت دولته لابد وأن ينهزم، ويعلو صوت الحق، وظهر ذلك جلياً فى أسطورة "إيزيس وأزوريس" التى كانت تعلم المصرى القديم مبادىء الخير والحق، وتعرفه أيضاً بحياته الأخرى بعد الموت، وأنه حين يبعث سيلقى حسابه فيكافأ أو يجازى بما كان يصنع، وكانت هذه الأطورة تتضمن تعاليم وطقوساً دينية، وتوضح كيف انتصرت قوى الخير على قوى الشر.
وإذا كان المسرح المصرى القديم نشأ نشأة تعليمية دينية داخل المعابد، فإن المسرح اليونانى القديم نشأ أيضاً كذلك حيث ارتبط بعبادة الإله "ديونسيوس" وكانت الأعمال المسرحية تعرض فى أعياد هذا الإله التى كانت أكثر العبادات اليونانية اتصالاً بالمسرحية، وأشدها تأثيراً على تطورها لأن طقوسها تتضمن كثيراً من الحركات التمثيلية وتشتمل على عواطف متضاربة، يعبر عن اتباع الإله فى بهجة وسرور تصحبها نكات غليظة، وضحكات عالية، كانت بمثابة البذور التى نشأت منها الملهاة، وأحياناً أخرى يعبرون عنها فى حزن عميق مصحوب بالشكوى والأنين كان أصلاً للمأساة، وكانت حياة "ديونسيوس" مليئة بالأحداث المؤلمة، والأحداث السارة، وكان اليونان يعتبرونها رمزاً للظواهر الطبيعية التى تتعرض لها زراعة الكروم، فشجيرات العنب تخضر أوراقها، وتنبثق براعمها وتتفتح أزهارها فى الربيع، ثم تثمر وينضج عنها فى الصيف وتجمع وتعصر فى الخريف، وأخيراً تصفر وتزيل فى الشتاء، وكان موسم الحصاد يقابل بالابتهاج والمرح، أما ذبول الأوراق وموت الأغصان فيثير الأحزان والآلام ، مما أوضح أن هذه الاحتفالات كانت تقدم لليونانى القديم درساً تعليمياً عن طقوس العبادة وحياة الإله المفعمة بالشكوى والآلام حينا والفرجة والنصر حينا آخر.
أما فى العصر الرومانى فكان شغف الجمهور الرومانى بشهود الصراع الدامى سواء بين الوحوش الضاربة، أو بين الآدميين أو بين الإنسان والحيوان.
وقد أنشئت من أجل هذه المشاهد وأمثالها الملاعب المدرجة المستديرة، أو البيضاوية الشكل وفى المدرج حلقة العرض areha وأشهر الملاعب المدرجة الملعب المنسوب إلى الأباطرة من آل فلافيوس ( a mphiteatrum – flavium) وهو المعروف بوصفه العام الكولوزيوم (colosseum) ويتسع لما لا يقل عن 8700 متفرج وأهم العروض فى هذه الملاعب اقتتال المتصارعين حتى يلقى أحدهما مصرعه تسلية للمتفرجين، وفى البداية كان المتصارعون من أسرى الحرب على أثر كل انتصار فى المعارك الدائرة بين روما والشعوب المجاورة، وكانوا فى بعض المرات يعدون بعشرات المئات، ثم لحق بهؤلاء وعومل معاملاتهم من صدرت عليهم أحكام الإعدام وكذلك المغضوب عليهم من العبيد وأخيرا من دخلوا باختيارهم الى المعترك من طلاب العتق من العبيد، وبعض أحرار الرجال من هواة النزال يحترفونه للشهرة وكسب المعاش، وقد أعدت المعاهد لهؤلاء لتخريجهم فى هذه الحرفة الرياضية الخطرة وكان المتصارعون يسيرون يوم العرض على هيئة الموكب فى ساحة المعترك حتى يبلغوا شرفة الامبراطور فيحيونه هاتفين :"الوداع يا قيصر، الذاهبون إلى ملاقاة الحمام، يهدونك السلام"، ثم يبدأ القتال على نقر النواقير ونفخ الأبواق، فيتقاتل القرن والقرن أو الفريق زالفريق، وكان يراعى اختلاف السلاح عند المتقاتلين فالذى يحمل الدرقة الكبيرة والسيف القصير يقاتل صاحب الدرقة الصغيرة والسيف الطويل، والمصارع ذو الدرع السابغة يختار له خصماً أقرب ما يكون إلى العراة مع تزويده بالشبكة الواسعة البعيدة والحربة المديرة، وقد يجرى القتال بين المتصارعين على ظهور الخيل أو العجلات الحربية، وقد يكون الصرا عبين الفصائل المختلفة من وحش الحيوان وقد يكون بين وحش الحيوان والإنسان، وعلى الصورة الأخيرة كان مصرع الكثيرين من شهداء المسيحية الأولين ونضيف هنا أن الرومان لم يكتفوا بالصراع الدامى الذى يعرض على أرض الحلقة فى وسط المدرج، بل كانوا يملأون هذه الحلقة بالماء حتى يطمرها وتوتصبح كالبحر، ليعرضوا عليها محاكاة للصراع فى المعارك البحرية ليقدموا لجموع المتفرجين العديد من الدروس التعليمية المليئة بمشاهد هلاك الكثيرين فى تلك المعارك غرقاً وقتلاً.
وقد تيقن رجال الكنيسة فى العصور الوسطى من ذلك السحر التلقائى الذى يجذب الجمهور إلى فن المسرح، ومن ثم وظفوه فى خدمة الوعظ والإرشاد الدينى من خلال تقديمهم لمسرحيات الكتاب المقدس منذ بدء الخليقة إلى يوم القيامة حيث استلهمت معظم قصصها من الانجيل فتناولت شخصيات المثل والغضب والفضول ونذكر على سبيل المثال التمثيلية القصيرة "قيامة المسيح من اللحد" De Re – surrectione domini، التى أخذ القساوسة يمثونها مع القداس فى عيد الفصح: "فهذا قسيس عليه ثوب أبيض وبيده سعفة من سعف النخيل جالس بجوار المذبح حيث غطوا الصليب بملاءة بيضاء، والقس هنا يمثل الملاك، ويقبل ثلاثة قساوسة يمثلون المريمات الثلاث فيقول لهم القسيس الملاك الجالس باللاتينية :"عمن تبحثن فى اللحد يا خادمات المسيح
"quem quaeritisin sepulchero, o christicolae
فيجبنه فى صوت واحد: "يسوع الناصرى المصلوبظن يا سكان السماء"
ويرفع القسيس الملاءة البيضاء ويقول:
"إنه ليس هنا. لقد قام كما قال: اذهبن واذعن أنه قام من لحده" وعلى أثر ذلك ترتفع الأصوات بنشيد tedum لك الحمد يارب" وهذا النص على قصره تمثيلية لا ريب فيها، فثمة القصة وثمة المكان المحدد المعالم وهو اللحد، وثمة الممثلون: القسيس الأول يمثل الملاك الكريم والقساوسة الثلاثة يمثلون النسوة المسيحيات الثلاث، وقد دار الحوار بين هؤلاء مع الحركة والإيماءة، وبذلك كله كملت عناصر التمثيلية الممسرحة على قصرها، على هذا النحو ولدت الدراما الطقوسية باللغة اللاتينية فى الكنيسة، ولم تقتصر العروض الطقوسية على تمثيل هذا المشهد الذى يعيد إلى الأذهان من حياة السيد المسيح مأساة آلامه من خلال عرضه الموجز لمعجزة قيامه عارجاً إلى الملأ الأعلى، بما تثيره هذه القصة من الأسف فى النفوس، بل تناولت التمثيلية الطقوسية بعد ذلك مشهداً آخر هو الأسبق قبل ذلك فى ترتيب الأحداث، ونعنى به معجزة ميلاده، والسواد الأعظم من الناس حتى اليوم - وخاصة النساء والصغار – تستهويهم قصة ميلاد المسيح الطفل، بما تعرضه من ظهور الملاك للدعاة يبشرهم بميلاد المخلص، ثم قدوم الملوك الحكماء الثلاثة lestois mages من أنحاء الشرق يهديهم نجم جديد إلى موضع ميلاد المسيح، وهى فى جملتها مشاهد غنية بالحركة المسلية، وكل ما فيها يبعث على الغبطة والسرور، وعلى نقيض مشهد اللحد والقيامة الذى يدعو إلى العبرة التى يشوبها الأسى وإن كانت تبعث على الأمل وتؤكد الإيمان بالبعث.
ويبرز كل ما سبق أن الدراما التعليمية لم تنشأ من فراغ ولكن كان لها جذورها المتأصلة منذ بداية الإنسان الأول، وبمرور العصور اتخذت أشكالاً مختلفة، وفقاً لطبيعة كل عصر من احتفاظها بشقى الطرح الدرامى والتعليمى.
وحتى عندما تطور الأدب فى القرن السادس عشر، فإنه لم يتغلب على الاتجاه التعليمى النفعى فى الأدب، ويؤكد الشاعر "تاسو" أن المتعة الفنية مجرد وسيلة مؤقتة لتوصيل الفائدة العملية المرجوة من القصيدة، بل ويكرر ما كتبه "لوكريتاس" من قبل حول وضع المتعة الفنية فى خدمة المضمون التعليمى.
وفى القرن السابع عشر كانت وظيفة الدراما أن تعلم أولا ثم تمتع ثانيا، ومادام هذا التعليم الذى تقوم به الدراما يجب أن يكون واضحاً، لذلك يتحتم أن تعاقب أو تكافأ الشخصية تبعاً لسلوكها، ومن هنا نشأ الإصلاح المعروف "بالعدالة التنفيذية" وتحددت وظيفة الكوميديا على أنها الكشف عن النتائج المفزعة للسلوك الخاطىء، أى أن عمل الدراما لا يقتصر على التعليم فلابد لها من الامتاع، إذ بدون الامتاع لا يتسنى أو لا يتحقق التعليم.
وبمرور الزمن ازداد الهجوم على العنصر التعليمى بحيث يقول "ورد زورث" فى مقدمة "المواويل الغنائية" إن الشاعر يكتب تنفيذ الالتزام واحد ضغط يحتم عليه إمتاع القارىء الذى يعرف المعلومات التى تحتويها القصيدة مقدماً، ولكنه لا يعرف التعبير عنها بهذا الشكل كما يضيف الشاعر "شيللى" إلى "وردزورث" فى مقدمة "بروميثوس طليقا" أنه يمقت القارىء العادى بحيث يتمتع بهذا العالم السحرى المصنوع من الخيال، عندئذ يستطيع أن يحب ويتذوق ويتحمل كل ما تأتى به الأيام، وهذه هى النتيجة الأخلاقية التى ينتفع بها القارىء.
ومهما وصلت ذروة الجدل النقدى حول مفهوم الدراما التعليمية وتطويرها من عصر لآخر فهذا لا يقلل من قيمة قضيتنا فى تتبع ملامحها عبر العصور المختلفة، بل يؤكد أن كل أديب حمل لواء العصر الذى ينتمى إليه، وتشبع بأفكاره ومعتقداته وحضاراته التى أذابها فى كتاباته محاولاً نقل طبائعها وأساليبها إلى أبناء جيله، والأجيال التالية فى صورة فنية شيقة تجذبهم لتلقيها، وتفهم ما تضمنه من خبرات أفرزتها ظروف كل عصر ليلقنهم درساً تعليمياً أساسه الخبرة والممارسة.
بقلم/ د. فاطمة مبروك
المصدر/ جريدة مسرحنا
العدد 179- بتاريخ 13 ديسمبر 2010
ساحة النقاش