انهينا مقال العدد الماضي ، ونحن نعلق علي تسيد اتجاه العودة حنينا للماضي علي رؤى الكثير من أعمالنا الإبداعية ، بفقرة مكثفة ، قد تبدو قاسية علي مسلسل " حنان وحنين " الذي اشرنا إليه كنموذج دال علي هذا الاتجاه ، باعتباره مرثية للزمن الجميل الذي كان " ولكنها مرثية تكبل وتعمي بصيرته " لأنها بالضرورة تقف عند حد البكاء علي الأطلال وتؤدي لعدم تغيير الواقع سجنا في ماضيه أو هربا من حاضره ، دون النظر إلي المستقبل القادم لا محالة .

أن إدانة هذا الحنين المرضي العاجز للماضي في مجمله ، لا يعني أبدا ادانتنا للماضي ذاته وعدم اعترافنا بما تحقق فيه من انجازات علمية واجتماعية عظيمة ، وما ساده من قيم نبيلة وأفكار تحررية وتنويرية وهي انجازات وقيم نراها متسقة مع مجتمع الأمس " المستنير " وزمنه الماضي " الجميل " بينما كان من الواجب علينا تطويرها والتقدم بها في مجتمع اليوم الذي تردي بأيدينا وأفكارنا الصحراوية بدلا من البكاء عليها أو السخرية منها والاكتفاء بالقول بأن هذا هو واقعنا وهذه هي شوارعنا وعلي الفن أن ينقل كل هذا التشوه دون تجميل كما تجلي واضحا في أقوال المتحدثين بحلقة الخميس الماضي من برنامج " ستوديو مصر " بقناة النيل للسينما ، والتي كانت مخصصة لمناقشة موضوع مصر في عيون سينماها وأكد حديثهم علي أن دور الفن محصور في نقل الواقع كما هو " بعلبه " وشوارعه القذرة ولغته السوقية وتفسخ علاقات ناسه وانهيار قيمه ، دونما ما ننظر إلي الدور الفاعل والحقيقي للفن والساعي لتنوير عقول متلقيه ودفعهم لمواجهة الواقع والعمل علي تغييره والمفارقة أن قناة روتانا زمان كانت تبث في نفس الوقت فيلم " مصطفي كامل " عن قصة ل " فتحي رضوان " وسيناريو " يوسف جوهر " و " انور احمد " مع مخرجه " احمد بدرخان " والذي قدم لمتلقيه منذ مايقرب من ستين عاما نموذجا لفتي اتخذ من العلم سلاحا لمواجهة المحتل لأرضه ونزل الحياة السياسية شابا يخطب ويحث المجتمع علي المطالبة بحقوقه في الحياة الحرة الكريمة فصار قدوة حسنة لأجيال تالية ووجها مشرقا نتطلع إليه .

هذا هو النيل : وقبل برنامجنا المشار إليه بيومين عرضت احدي القنوات الفضائية فيلم " الصعود للهاوية " للسيناريست " ماهر عبد الحميد " مع كاتب قصته " صالح مرسي " وإخراج " كمال الشيخ " والذي انتهي بواحدة من أشهر جمل السينما المصرية جاءت علي لسان " خالد " ضابط المخابرات المصرية الذي كلف بالقبض علي " عبلة كامل " الجاسوسة الحسناء حيث قال لها في طائرة العودة لأرض الوطن " دي الأهرام " وده النيل ، هي دي مصر يا عبلة " فصار جيل كامل أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي ، متعلقا بمصر النيل والأهرام والوطن الرحيم الواعي بقيمة الفن في توعية العقول وتبنيها لسبل مواجهة العدو الخارجي والفساد الداخلي وليس مجرد الإعلان عن وجودهما .

الخلافة وسقوطها : كما لم تعن ادانتنا للحنين للماضي صرف النظر عن أهمية دراسته وإعادة إنتاجه فنيا علي الشاشة من منظور اللحظة الراهنة وبهدف إدراك أن نتائج ما حدث هو وليدة مقدمات سابقة عليها وان ما نعيشه اليوم من أحوال قد تشابه مقدمات سابقة عليها وان ما نعيشه اليوم من أحوال قد تشابه مقدمات الأمس مما ينبهنا إلي ضرورة التدخل لتغيير النتائج المستقبلية لصالحنا وهو ما فعله الكاتب الكبير المتميز " يسري الجندي " في مسلسله الشهير " الطارق " الذي تابع فيه سيرة " طارق بن زياد " ودوره البارز في فتح الأندلس مستفيدا من قوة العقيدة ومدركا أن الانتصار في المعارك الحربية هو وجه من أوجه الانتصار في المعارك السياسية التي تعرف كيف تتناول وتستفيد من خلافات الآخرين وتستعرض قوتها في المفاوضات وتستعد للحظة الهجوم بقوة العقل .

وها هو كاتبنا يغلق القوس الذي فتحه بفتح الأندلس في زمن قوة العرب وتألق الخلافة الإسلامية وصعودها العلمي والفكري المستنير بقوس سقوط هذه الخلافة بسبب ضعف امبراطويتها العظيمة وتفرق أجزائها وتجمد أفكار شعوبها وصراع مماليكها وشراذمها وإغوائها علي كراسي حكم دولها مما أدي لتعطيل العقل وتخلف الآداب والفنون وتفتت الأمة الإسلامية وتمزق الوطن الغربي بداية بين دويلات متنازعة ونهاية بين براثن الدول الأوربية التي حاصرت عقل الخلافة الإسلامية المريض في تركيا ونجحت في القضاء نهائيا عليه منهية الخلافة العثمانية أطول وأخر مراحل الخلافة الإسلامية بأكملها من الوجود عام 1924 .

انهيار إمبراطورية : والمستغرب انه في سعي الصحافة نحو تقديم الخدمة الإعلامية للمتلقي عن المسلسلات المتصارعة اليوم للعرض علي الشاشات العربية في شهر الدراما التليفزيونية ، ومن بينها مسلسل " سقوط الخلافة " الذي يخرجه " محمد عزيزية " هو تعرض البعض بالنقد للمسلسل دون رؤيته ، ومناقشة أفكاره حتى قبل الانتهاء من تصويره كاملا وربط موضوعه بقضايا الواقع الساخنة ، بناء علي قراءة ملخصه أو ما طرحه كاتبه في مؤتمره الصحفي وحواراته الصحفية ، وهو أمر علي جانب كبير من الخطورة لأنه يؤدي لتهيئة المشاهد لرؤية العمل بأفكار مسبقة بل ويجعل البعض يأخذ موقفا إيديولوجيا تجاهه ، لمجرد حديثه عن تركيا التي يري البعض أن دولتها الحديثة تعاود اليوم إحياء إمبراطوريتها المنهارة واستعادة دورها المؤثر في الوطن العربي دونما انتباه بين دولة اليوم الدينية وإمبراطورية الأمس الدينية ودونما التفات إلي أن الدور الفاعل الذي تريد أن تلعبه تركيا اليوم بيننا هو نتيجة لضعفنا ، أكثر ما كونه مؤسسا علي قوتها .

أسباب السقوط : يذكرنا مسلسل " سقوط الخلافة " المزمع عرضه في شهر رمضان بمسرحية " انظر وراءك في غضب " التي كتبها الانجليزي " جون اوزبورن " في نهاية عام 1956 ، عقب السقوط الأخير للإمبراطورية البريطانية وانتهاء مجدها مع مشاركتها لفرنسا وإسرائيل في العدوان الثلاثي علي مصر ، وكأن صمود بورسعيد وانتصار الإرادة المصرية علي العدوان مثار فخر في العالم ، وتأكيد لدورها في كسر رقبة الأسد البريطاني هذا الدور الذي يبخسه للأسف بعض منا ويهين شعبنا بعدم اعترافه بنصره الواضح لأسباب انتهازية سياسية بحتة عنده المهم إن مسرحية " انظر وراءك " كانت تدعو للنظر إلي ماضي الإمبراطورية المنهارة لمعرفة أسباب انهيارها ، والعمل علي تعديل المسار والتقدم للأمام وهو ما نراه ماثلا في موضوع " يسري الجندي " الجديد ، بدعوته لنا كي ننظر للماضي بغضب دون استكانة لما حدث فيه وبتأمل لمعرفة أسباب السقوط والتردي لتلافيها وبوعي بأن ثمة إستراتيجية موضوعة منذ زمن طويل لإضعاف العالمين العربيةالاسلامية تجدد كل فترة وفقا لمتغيرات الواقع تشارك فيه الحركة الصهيونية مع الدول الغربية للهيمنة علي هذين العالمين ، نسميها مؤامرة ونوافق عليها أو نرفضها لكن علينا أن ننتبه إلي أن العالم لا يسير بقوة غامضة أو يتحرك وفق الأهواء الذاتية بل ثمة فكر وقوي ومصالح تتحكم في حركته .

أما البناء الدرامي لمسلسل " سقوط الخلافة " والذي يعادل أهمية موضوعه وأفكاره المطروحة فهذا أمر سنناقشه في حينه حكمنا المجمل عليه كعمل إبداعي وليس منشورا سياسيا وكرؤية تنقل عفن الوطن أو تعمل علي تمجيد روحه .

 

 

بقلم د/ حسن عطيه

المصدر : مجلة أخبار النجوم العدد : 926

1 يونيه 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,267,478