**نحن نعيش زمن الخصخصة فلماذا تطالبون بتعميم السينما؟

كان المهندس أسامة الشيخ رئيس إتحاد الإذاعة والتليفزيون قوياً وصريحاً  وقاطعاً فى نهاية ندوة الفضائيات السينمائية وغياب الإنتاج السينمائي التى نظمها مهرجان الإسكندرية السينمائي خلال دورته الأخيرة، حينما حذر المطالبين بتدخل اتحاد الإذاعة والتليفزيون فى الإنتاج السينمائى، طالبا عدم إعادة الإنتاج السينمائى لقبضة الدولة، هذه القبضة التى صرخ منها صناع السينما المصرية، وأكدوا طوال الوقت على ضرورة تحرير السينما من هيمنة الدولة، مؤكدين على أن الإنتاج السينمائى ولد خاصاً، ولابد أن يعيش خاصاً، متحرراً من أية قيود حكومية تفرض عليه.

ورغم المفارقة المثيرة للاستغراب بين حرص السينمائيين ومن ورائهم جيش من النقاد والإعلاميين على استقلالية السينما وحريتها فى مناقشة قضايا المجتمع بعيداً عن بيروقراطية الحكومة وتوجهاتها الرسمية الملزمة، وطلب السينمائيين أنفسهم مساعدة الحكومة لهم مادياً، والهرولة وراء وزارة الثقافة لدعم الإنتاج السينمائى، بل والرغبة فى السير بأسلوب إنتاج الدراما التليفزيونية بوزارة الإعلام، الذى تنتج به الشركات الخاصة مسلسلاتها بأموال اتحاد الإذاعة والتليفزيون العامة، سواء باسم المنتج المنفذ سابقاً، او باسم المنتج المشارك حالياً. وفى الحالتين لا يدفع المنتج الخاص مليماً فى المنتج، رغم أنه يحسب له، حتى أن أحد المنتجين المنفذين لمسلسل درامى من أهم مسلسلات التليفزيون منذ عشر سنوات، ظهر مؤخراً ببرنامج المسلسلاتى متباهياً بصرفه السخى على المسلسل، رغم أن المال هو مال قطاع الإنتاج وليس مال شركته.

همبكة

عندما أسست الدولة القطاع العام فى السينما فى ستينيات القرن الماضى، شكل القطاع الخاص ثلاثة أرباعها الهيكلية، وادارته العقول التجارية، رغم انه كان يستهدف ترقية وعى ووجدان المجتمع وليس الربح، فضلاً عن استمرار الشركات الخاصة المتميزة فى الانتاج خارج القطاع الخاص، ومع ذلك، ما أن لاح الأفق، بعد حركة مايو 1971، أن ثمة توجها للدولة نحو القطاع الخاص، تبلور فيما بعد بقوانين الاستثمار عام 1974، ثم ببيع القطاع العام وخصصته كل شىء فى البلد، حتى أشاوس السينمائيين للانقضاض على القطاع العام، الذى لم يستمر لاكثر من ثمانى سنوات فقط، وأعلنوا أفلاسه مؤكدين على أنه اهدر ثمانية ملايين جنيهاً من اموال الدولة على افلام من عينه (المتمردون) و (اللص والكلاب) و (ميرامار) و (الرجل الذى فقد ظله) والتى وصفها الممثل رشدى أباظة بانها افلام (همبكة). وعادت السينما الى المنتج الخاص، وتحول الفيلم الى سلعة تجارية مهمتها اصطياد الزبون وجره لصالات العرض التى تضاءل وجودها العام.

وغابت دور العرض المفتوحة للعائلات كى تستمتع بالسينما فى أجواء صحية آمنه، وأضحت دور العرض السينمائى شبابية داخل المولات الكبرى، يرتاح بمقاعدها المثيرة من تعب التجول بين المحلات التجارية، ويشاهد أفلاماً ترفه عنه وتضحكه، دون أن تعبر عنه أو تناقش همومه، ولا تختلف كثيراً عن أكياس الفشار التى يتناولها أثناء مشاهدة الفيلم، والتى خصص لها موقع متميز بمقعده الوثير.

قلنا (بلاها) سينما ويكفينا منها البعض القليل من الأفلام الأجنبية التى نبحث عنها فى التظاهرات السينمائية والبعض النادر من الإنتاج المصرى الذى يفوز فى استفتاءات النقاد، وترشحه اللجان للمهرجانات، ولنحتفظ بمسلسلاتنا التليفزيونية ونحتضنها بعد ان أصبحت قادرة على التصدى لمشاكل الواقع بعمق وجراءة وأضحت سجل الحياة الاجتماعية لبلد يفوز بالرغبة فى التغيير، وتصدت بقوة لكل ألوان الفساد فى المجتمع، حتى ان منتقديها لم يقدروا على مناقشة أفكارها، فبحثوا عن شماعة الأخلاق يعلقون عليها رفضهم لما تقدمه، وأمست هذه المسلسلات فى النهاية وجوداً فاعلاً فى حياة المجتمع، وحضوراً لا يمكن انكاره.

تذكرة مقصوصة

هذا الحضور المتميز، والذى جر وراءه جحافل شركات الدعاية والإعلان، مما حقق ربحاً خيالياً لمنتجى هذه الأعمال الذين تسللوا لشركات الإنتاج العامة، ويكادون الآن يلعبون معها نفس لعبة المنتجين مع مؤسسة السينما وشركاتها فى الزمن الماضى، ويجرونها لخسائر فادحة، وذلك برفع أجور السينما الذين هبطوا على وليمة الإبداع التليفزيونى مع تدلليهم بجيش التابعين لهم خلف الكاميرا، ولم يلتفوا بهبر مال التليفزيون العام بل راحوا ينادون بضرورة دعم التليفزيون لأفلامهم السينمائية، صحيح أن التليفزيون فى أوروبا والدول المتقدمة يدعم أفلاما سينمائية، ولكنه يدعم بشروطه وليس بشروط هذه الأفلام، وشروطه تدور أساساً حول معايير الجودة والتميز الفكرى والتقنى كأفلام مصنوعة أولا للسينما، وليست منتجة للعرض التليفزيونى، بعد ان تمر لعدة ايام باى دار عرض سينمائى خاصة فى اسبوع العيد والفضلات وهذا فقط من اجل ان تدخل تاريخ السينما، الذى لا يعترف الا بأفلام التى تعرض بدار عرض "مخصوصة وبتذكرة مقصوصة" على حد تعبير الجبرتى فى وصفه للعروض المسرحية فى زمنه.

يا سادة نحن نعيش فى زمن الخصخصة، فلماذا تطالبون بــــــ "تعميم" السينما التى وصفهم انتاجها بالهمبكة؟ ولماذا تريدون جر "رجل" اتحاد الاذاعة والتليفزيون بوزارة الاعلام ومؤسسات وزارة لانتاج أفلام لا ترضون عنها؟ ولماذا بعتم "نيجاتيف" أفلامكم باعتبارها ملكية خاصة، ولم يبق لنا غير انتاج القطاع العام الذى هو ملكية الوطن؟

لسنا ضد ان تدخل وزارات الدولة المعنية بالثقافة والاعلام فى انتاج او دعم انتاج افلام سينمائية كبيرة، لكنا نخشى من أن "يتكل المنتج الخاص على هذه الوزارات فى إنتاج الأفلام الجادة وكثيرة النفقات مثل الأفلام التاريخية، ويكتفى هو بإنتاج أفلام الهلس والسخافة، فهذا اعتراف ضمنى بان المنتج الخاص لا يهمه سوى الربح فقط، وان الرسائل الثقافية والخدمات الاعلامية مسئولية الدولة ، وهو امر يؤدى الى اتجاهين فى وقت واحد، الاول هو ان ينافس القطاع الخاص بسلعه المليئة بالرخص والميوعة ومداعبة الحواس، إنتاج وزارات الدولة الجادة والمخاطبة للعقول المستنيرة، وكلنا يعرف أن السلعة الرديئة أكثر بيعاً وطرداً للسلعة الجيدة .. أما الاتجاه الثانى الملازم للأول فهو يعنى أننا نعود مرة أخرى لأن يصبح للقطاع العام دور فى الإنتاج السينمائى، والذى سيدفع معه الدولة لحماية انتاجها باصدار القوانين التى ستضيق بالضرورة على القطاع الخاص وسلعة الرديئة.

اتجاهان يعدان نتيجة للمقدمات التى يقدمها المننتج الخاص، والذى سينسحب فوراً يوم ان يدرك دخول الدولة فى الانتاج سيزيحه من الملعب الذى يلعب فيه وحده، فالدولة بجبروتها لن تسمح لاى تاجر بمنافسة سلعها فى السوق، رغم الابتسامة الظاهرة على وجهها.

  

بقلم/ د. حسن عطية

مجلة أخبار النجوم العدد/989

30 سبتمبر 2010

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,278,457