كان مسرح بيسكاتور فى تطوره نموذجاً لأشكال مسرح الصحيفة الحية والذى ضمن داخله أساس المسرح الوثائقى والمسرح الملحمى.
حين تقطع الرأس من فوق كتفى أى جسد، فلن يسير الجسد سوى بضع خطوات قليلة، ثم يسقط دون حراك، ولكنه سوف يسقط حتماً،وسوف يستقر جثمانه على الأسفلت، أو على الطرق غير المرصوفة على سطح الأرض، أو ربما سوف يدفنه فاعل خير فى باطن الأرض، أو يسرق أعضاءه تاجر من تجار هذه الأيام ... وهكذا، فإن الفكر، أو تلك الأفكار التى تحملها الرأس فوق الجسد هى العامل الأساسى لتحريك الجسد إلى أهدافه الواضحة... وتشكل الندوات والمحاضرات الرئيسية لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، والتى يشترك فيها عشرات المفكرين والمنظرين من رجالات المسرح من كل مكان من العالم، هى هذا الرأس، أو هذا العقل الذى ينبر به المهرجان الالتباس والغموض والمفاهيم المغلقة والمستغلقة حول العملية التجريبية، وحول المسرح، وحول طلاسمه، وألغازه وتجاربه وفعالياته وتنظيراته.
ويطرح رجالات الفكر على مستوى العالم من المسرحيين فى هذه الندوات قضايا مهمة على الصعيد المسرحى تشغل رجال المسرح فى العالم ... وتدور ندوات المهرجان التجريبى هذا العام حول قضية (التجريب فى المسرح السياسى) على ثلاثة محاور، حيث يتشكل المحور الأول حول (مسرح الصحف الحية) والثانى حول (المسرح الملحمى) والأخير حول (المسرح الوثائقى) ويشترك فى ندوات هذا العام أكثر من سبع وعشرين مفكراً ومنظراً مسرحياً من مصر والدول العربية والعالم الغربى.
وسوف نلقى الضوء فى هذا المقال حول المسرح السياسى لنتابع فى المقالات القادمة محاور الندوات.
بيسكاتور والمسرح السياسى...
يؤرخ للمسرح السياسى فى عالمنا لمعاصر بتجارب أرفين بيسكاتور(1983- 1965)
ومسرحه السياسى – كما يصفه بنفسه، لا يقوم على أكتاف شخص، ولا هو نتيجة إجتماعية لصراع الطبقات فى ألمانيا وتنامى الطبقة العاملة بها، خاصة على أثر هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى عام 1918، ومشاركة هذه الطبقات العاملة فى ثورة 1919، وهى الثورة التى شارك فيها بيسكاتور بنفسه، وقد أسس فى العام نفسه مسرح البروليتاريا الذى ارتبط به- وإنما- كما يرى بيسكاتور- أن جذور مسرحه تمتد إلى نهاية القرن الماضى، وهو يقصد بذلك القرن التاسع عشر، حيث كانت هناك قوتان مؤثرتان، وهما قوة البروليتاريا من جانب، وقوة الأدب من جانب آخر، ومن هذا التقاطع والتداخل تشكل مفهوم الحركة الطبيعية، وفى المسرح خرج المسرح الشعبى إلى الوجود.
وفى مسرح البروليتاريا الذى أسسه بيسكاتور عام 1919، تجده يصدر منشوره الأول وقد كتب أعلاه (المسرح البروليتارى ... مسرح العمال الثائرين) ويتصدر مساحة وسط المنشور صورة لرجل يتقدم للأمام وقد رفع فى يده شعلة،وقد كتب أسفل الصورة: (إلى الرفقاء والرفيقات .. إلى روح الثورة إلى روح المجتمع القادم بغير طبقات . إلخ) وبهذه الروح تشكل مسرحه الدعائى السياسى مستخدماً فيه تقنيات العصر المختلفة مما جاءت به الحركات التعبيرية والمستقبلية والدادية، كما استخدم فى مسرحه مفردات العصر من صحيفة مكتوبة إلى سينما مصوره، ومعلقات وإحصائيات وأرقام.
بالإضافة إلى الموضوعات السياسية والاقتصادية، مع أساليب السرد المختلفة والأفلام والبروجيكتور، كما وظف التكنولوجيا فى مسرحه بعد أن استعان بالمهندس المعمارى الشهير آنئذ فالترجروبيوس، وكان مسرح بيسكاتور بتطوره نموذجاً لأشكال مسرح الصحيفة الصحيفة الحية، والذى ضمن داخله أساس المسرح الوثائقى الذى ظهر لديه عام 1925، فكان أول ما قدمه بيسكاتور فى هذا المجال مسرحية (رغم كل ذلك).
على مسرح شاوشبيل هاوس الكبير بمدينة برلين فى الثانى عشر من يوليو عام 1925 كم يمكن التاريخ لبداية المسرح الملحمى لدى بيسكاتور منذ عام 1927، حينما قدم مسرحية (راسبوتين) مبلورا فيها تقنيات السينما والتعليم والسرد وأساليب مخاطبة العقل. وقد تضمنت مراحل بيسكاتور المختلفة كل هذه الاتجاهات – (مسرح الصحيفة الحية والذى ظهر قبله بعدة أشهر فى روسيا، والمسرح الوثائقى والملحمى الذى ظهر لديه وتبلور من بعده) بشكل مغاير من مرحلة إلى أخرى لديه، وبذلك تضمن مسرحه تأسيساً لهذه الاتجاهات، والتى تبلورت بشكل أكثر نضوجاً وتميزاً لدى الكاتب ورجل المسرح الملحمى – (وهى إحدى مراحل تطور بريشت المسرحية) ولدى كل من رولف هوخهوت وهاينار كيبارد وجونتر جراس وبيتر فايس فى المسرح التسجيلى أو الوثائقى.
فلقد كان مسرح بيسكاتور هو الأساس الذى بنى عليه كثير من الاتجاهات المسرحية السياسية، باعتباره المجرب الأول فى هذا المجال فى القرن العشرين.
بقلم: د. أحمد سخسوخ
مجلة أخبار النجوم
ساحة النقاش