حين قرر الرحيل عن عالمنا في لحظة انفعال صادق رأى معها أن موعد الغروب قد حان و أن يوم الزهرة اليانعة قد انتهى ، و انه قد عاش كزهرة الخمائل التي كانت تعرف في قصيدة مرسى جميل عزيز المفعمة بالحياة ( لما لا أحيا ) ان عمرها يوم لا أكثر و مع ذلك كانت تصر على أن تحيا اليوم حتى منتهاه ، لذا عاش حياته حتى منتهاه لذا عاش حياته حتى منتهاها و عاش يومه بإرادة من فولاذ تعشق هذه الحياة و عاش ساعته عاملا فاعلا في كل ركن جلس فيه و بكل قاعة وقف بين طلابه في فضائها و أمام كل كتاب  اختار أن يكتبه أو يترجمه عن الانجليزية ليستفيد منه كل متلق مؤمن بقيمة العلم و المعرفة .

 عرفته في النصف الثاني من العقد السبعيني اللعين في القرن الماضي ، كان المجتمع بتخبط بين قرارات صداميه و غليان شعبي و انحراف حاد في توجهاته  السابقة و التقينا ذات مساء على مقهى ريش و تحادثنا حول مقال نشره عن أرسطو الدراما في مجلة عراقية قد تكون ( الأقلام ) أن لم  تخني الذاكرة و قد يكون مقالا مؤلفا له او ربما مترجما ، غير أن جوهر حديثنا دار حول أهمية الحديث الجاد في وقت لم يعد كذلك حيث كانت تباشير النفق المظلم قد بدأت تلوح في الأفق ، و الجنازير قد عرفت طريقها إلى ردهات الجامعة فقاعات محاضراتها تطيح بكل عقل متنور و تطفئ سراج التقدم و مع ذلك كان مصرا على أن يكون جادا و يتحمل مسؤولية جديته ، لذ ا راح يخرج أعمالا مسرحية جادة في قصر ثقافة الربحانى بمجموعه شابه عاشقة لهذا الفن الجميل .

و رغم المحبة التي عمقها حب المعرفة و اسكنها بقلبينا تعاركنا ذات يوم حينما كتبت عنه حزينا على مشاركته  في عرض تجارى مسف لممثل كوميدي كان شهيرا و كان يتمسك بأخر ابام شهرته التي كونها في الإذاعة بداية ثم صعد لأوجها في مسرح و سينما الستينات و راح في أواخر السبعينات يقدم أخر أطباقه المسلية لجمهور مصري خرج توا من تحت الردم و جمهور عربي جاء للقاهرة لمشاهدة ما تحت تسميته وقتذاك بـ ( المسرح السياحي ) و رأيت في مسرح مترو بول كيف يتزامن تناول المرطبات و السندوتشات و الفشار في صالة العرض مع حوار الممثلين و محاولة دغدغتهم  لحواس السادة الأفاضل بالنكات السخيفة المبتذلة و كان سامي في عمق الصورة يحاول أن يكون جادا في عرض لا يعرف الجدية . لذا جاء نقدي ليه بجريدة المساء حادا فغضب و استوعبت غضبه فهم ا ول من يعرف أن الصلاة لا تصح في المواخير و الموعظة لا تنطلق من أفواه الفاسدين لكنه كان قد قرر أن يغامر ، و الحاجة ليست هيا أم الاختراع بل هي قناع التنازل .

 من اجل هذا تعلق بفكرة الرحيل بحثا عن المعرفة هناك في بلاد تفتح أبوابها و منذاك لكل من يريد أن يعرف و هو أبواب مثل جدران المدن السحرية قد تظن أنها موصده ، لكنك ما أن تكتشف مفتاح المرور عبرها لعوالم مختلفة المعارف حتى تفتح لك و لك وحدك الاختيار و الثقافة اختيار و المعرفة اختيار و العقل وحده هو يقرر أن يختار مميزا بين الصالح و الطالح و الإرادة هي دفعته لان يحدد لنفسه مسار مستقبله .

 و عاد للقاهرة و عادت علاقتنا قوية ، ذات يوم مشرق قال لي : كنت فعلا على حق عندما هاجمتني لمشاركتي في العرض السخيف و قلت له : " كنا شباب يا أبا السام راديكاليين و حساسياتنا تجاه النكوص عاليه و رعبنا من الزمن القادم فظيع فقد كنا نؤمن مع ط ناظم حكمت " أجمل الأيام لم تأت بعد " بينما يقف " محمود يس " في النقطة الذهبية بمسرح الطليعة ليصرخ بكلمات صلاح عبد الصبور المقتنع بلسان سعيد بطل " ليلى و المجنون " رعب اكبر من هذا سوف يجيء ، لذا كنت قاسيا عليك يا صديقي " .

 

فعذرا يا صديقي عن قسوة صاغتها أيام التمرد و عن عدم انتباه في الكتابة عن إبداعاتك و ترجماتك فقد كنت أنت المبدع تضيء له نور اللقاء و يبعدني حورانا الصريح معا عن الكتابة عنك ، فقد كنت تعيش  اليوم حتى منتهاه و كنت ألقاك لنعيش لحظات الحوار حتى جوهره .

 

و ها أنا استدعى من الذاكرة المجهدة لمحات خاطفة قد لا تقول شيئا ذا بال لقارئها لكنها حتما تفجر في الأعماق حديث المودة و الأيام القليلة غير أننا نصر على أن نشرب رحيقها حتى الثمالة .

 

هكذا كنت وجودا فاعلا و عقلا متوهجا و نغما يسبح في فضاء الكون يتغنى بالضوء الاتى من عمق النفق المظلم فمهما كانت الصعاب و مهما كانت الغيوم ستاتى هذه الأيام الجميلة التي حلمنا و مازلنا نحلم بأنها آتية عبر أجيال شابة تدرك أن من أعطاها عصير الفكر بحب ، سوف يبقى حيا في القلب و الثقافة امتداد التمرد حقيقة و الوعي جوهر ، و الزمن لا يرتد أبدا إلى الوراء .

 

 

 بقلم د/ حسن عطيةالعميد السايق للمعهد العالى للفنون المسرحية اكاديمية الفنون  
  • Currently 252/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
84 تصويتات / 2620 مشاهدة
نشرت فى 2 نوفمبر 2009 بواسطة egyptartsacademy

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,559