في ذاكرة السينما العربية صفحات مجهولة, إحداها عن (نادرة) بطلة أول فيلم غنائي ناطق, ومطربة الشاعر والمفكر عباس محمود العقاد.
(أنشودة الفؤاد) هو اسم أول فيلم سينمائي غنائي في تاريخ السينما العربية, وهو أيضا ثاني فيلم ناطق في تاريخ هذه السينما, إضافة إلى أن هذا العمل يحتل الرقم 15 من سجلات هذه السينما هذا الفيلم عرض في العام 1932 ومنذ عرض وشغل حيزا من اهتمامات الفن السابع والحياة الغنائية والموسيقية ولا أحد يعرف أين ذهبت نسخته الأصلية, إلى أن أعلنوا في العام الأخير في مهرجان الفيلم العربي بمعهد العالم العربي في باريس أنهم توصلوا إلى هذه النسخة وأنهم بصدد ترميمها, غير أن الأمر اقتصر بعدئذ على الاعتراف باكتشاف بضعة فصول من هذا العمل السينمائي الذي لم يكتمل جزء العثور عليه كاملا, وليضيف هذا الأمر صفحة أخرى ضمن صفحات غياب التوثيق في حياتنا,
وغياب التوثيق هوا لآفة التي تضعف ذاكرة أي أمة, وهذا التوثيق يكاد يغيب تماما عن غالبية النشاطات الثقافية والفنية في حياتنا المعاصرة ويمتد أيضا إلى جوانب ونشاطات حيوية أخرى!
ورغم كونية الحديث عن ثورة الاتصالات وعصر المعلومات, فإن الحديث عن (الأرشيف) جيد الفهارس, دقيق المعلومات, موثق المادة والمستند, متاح المادة, يكاد يختفي من ذاكرة حياتنا الإبداعية, ويتردد معه السؤال عن موقع الأرشيف السينمائي والمسرحي والموسيقي والغنائي وغير ذلك من ألوان التوثيق والحفظ المرجعي في حياتنا المعاصرة.
شعرت بضعف الذاكرة الفنية العامة عقب استماعي إلى قصيدة بشعر الفصحى كتبها عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد وشدت بها نادرة نجمة أول عمل سينمائي غنائي في تاريخ السينما العربية من ألحان أستاذ فن تلحين القصيدة الموسيقار رياض السنباطي.
أمسكت بالخيط الأول الذي قادني إلى الخيوط الواهية التي تنسج مادة الذاكرة الفنية بعد استماعي إلى قصيدة (قلبي في الهوى زورق) ومن القصيدة إلى الفيلم الذي ليس له وجود في المكتبة السينمائية, بل إن أغنيات أول عمل سينمائي غنائي غير متاحة فيما يطلقون عليه متحف الموسيقى أو المكتبة الموسيقية, ولولا وجود بعض الأشرطة والأسطوانات الإذاعية القديمة التي تعود إلى نشأة الإذاعة الحكومية في مايو 1934 وبعض من بقوا على قيد الحياة من عصر السميعة ما أمكننا أن نخوض في هذه المحاولة للكشف عن إضاءة تفيد في التعرف على المطربة نادرة نجمة الفيلم الغنائي الأول الذي أخرجه الإيطالي المتمصر ماريو فولبي ولعب بطولته جورج أبيض أمام المطربة نادرة وزكريا أحمد - شيخ الملحنين الراحل.
ونادرة صاحبة لقب أول مطربة وممثلة في تاريخ السينما العربية لعبت بطولة ثلاثة أفلام غنائية فقط, كان أولها (أنشودة الفؤاد) وكانت مازالت في سنوات المراهقة المبكرة كما عرفت منها قبيل رحيلها عن الحياة عندما سجلنا لها برنامجنا التوثيقي (مهرجان النجوم) لإذاعة القاهرة, وكان فيلمها الثاني (أنشودة الراديو) أمام بشارة واكيم من إخراج الإيطالي السكندري توليو كباريني في الفترة نفسها التي قدمت فيها أم كلثوم فيلمها الأول (وداد) في عام 1936, بعدها لعبت نادرة بطولة فيلمها الثالث (الفنان الكبير) أمام بدر لاما من إخراج شقيقه إبراهيم لاما وقبل ظهور نجمة السينما الغنائية ليلى مراد في فيلم (يحيا الحب) أمام محمد عبد الوهاب من إخراج محمد كريم في العام 1938.
البحث عن نادرة!
ورحلة البحث عن نادرة بدأت مع كاتب هذه السطور قبل حقبة زمنية كاملة عقب الاستماع إلى واحدة من روائع غنائيات الماضي, وعثر عليها قبيل رحيلها عن الحياة تعيش وحيدة, بعيدة عن الأضواء في عزلتها التي اختارتها منذ تركت ساحة الغناء في الستينيات, وبعدما سجلت للإذاعة نحو 360 أغنية خلال ربع قرن ولم يرحمها من ذل السؤال وعوز الحاجة إلا صدور قرار بمنحها معاشا استثنائيا من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بعدما قرأ يوميات عنها للمفكر الكبير عباس محمود العقاد, وقد جعلها هذا المعاش وكما قالت لنا - رحمها الله - (تعيش مستورة بحمد الله).
والمطربة نادرة هي نادرة أمين مصطفى من مواليد مدينة بيروت في عام 1916 من أب مصري ينتمي إلى مدينة رشيد شرق الإسكندرية وأم لبنانية هي فاطمة دغيم, وقد تعرف والدها إلى والدتها عندما كان يعاون والده في أعمال التجارة عبر البحر من الإسكندرية إلى بيروت, وحيث أجبرته سنوات الحرب العالمية الأولى والأحداث التي مرت بالمنطقة على الاستقرار في بيروت, حيث أنجب ابنته نادرة التي تلقت تعليمها الابتدائي في المدارس العربية اللبنانية, لتنتقل العائلة بعدها إلى مصر, فتكمل نادرة تعليمها في القاهرة.
اكتشفت نادرة حلاوة صوتها وهي تشارك في حفلات النشاط المدرسي بتقديم أغنية أم كلثوم (حبك يا سلام) حيث أشاد الحضور بجمال صوتها. كانت نادرة تحب غناء أم كلثوم وتراه مدرستها الوحيدة, ورغم هذا العشق لم تفقد نادرة خصوصية التعبير التي تخصها وهي تؤدي أغنيات أم كلثوم في تلك المرحلة المبكرة من سنوات العشرينيات وهي أيضا سنوات شروق ونجاح أم كلثوم.
ومن الغناء في الحفلات المدرسية إلى الغناء في الحفلات والأمسيات الغنائية التي كانت تقيمها البيوت الكبيرة في ذلك الزمن, وتنتقل نادرة تدريجيا من الهواية إلى الاحتراف بعد أن أتقنت قواعد الغناء وأصول الموسيقى والعزف على يد الموسيقي المصري يهودي الديانة إيلي كنعان والذي وجهها للتعرف على المقامات والأوزان والضروريات الموسيقية المختلفة عندما شعر بموهبتها الفطرية وقدرتها الارتجالية على التلحين أيضا بجانب الغناء.
وفي حفل من حفلات البيوت الكبيرة جاءت لنادرة الفرصة التي جعلت منها نجمة أول فيلم في تاريخ السينما الغنائية العربية, فقد كان يحلو لنادرة بين فترات غنائها أن تقوم بتقليد نجمات التمثيل في ذلك الوقت, عندما وقعت أسيرة الإعجاب بقدرات نجمة التمثيل الرائدة بهيجة حافظ نجمة فيلم (زينب) قصة د.محمد حسين هيكل وإخراج محمد كريم, الذي عُرِض في عام 1930, وكان من حضور الحفل المخرج الإيطالي السكندري ماريو فولبي الذي أعجب بتقليدها لبهيجة حافظ ويتوسم خيرا في إمكانات نادرة و حضورها السينمائي فيرشحها لبطولة فيلمه (أنشودة الفؤاد) ثاني فيلم ناطق في تاريخ السينما العربية بعد فيلم يوسف وهبي (أولاد الذوات) وبعد مرحلة البدايات في السينما الصامتة, وتنجح نادرة في الاختبار وتلعب بطولة الفيلم الذي جرى تحضير غالبية مراحله في استوديوهات السينما الفرنسية في العاصمة باريس.
لعبت نادرة بطولة الفيلم أمام رائد التمثيل المسرحي جورج أبيض وأمام الفنان الملحن زكريا أحمد الذي وضع لها ألحان الفيلم الذي كتب كلمات أغنياته شاعر القطرين خليل مطران, وكانت أشهر أغنيات أول فيلم في تاريخ السينما الغنائية العربية تلك الأغنية التي يقول مطلعها: (يقولون ليلى في العراق مريضة) وقصيدة (أين في الحب) وأغنية بالعامية المصرية عنوانها (يا بحر النيل).
وبنجاح (أنشودة الفؤاد) تتمكن نادرة من أن تصبح واحدة من المطربات المرموقات في الثلاثينيات, وتبدأ مع هذا النجاح رحلة تعرف الجماهير العربية إلى غنائها, حيث تسافر لإحياء حفلات الطرب في بلاد الشام والمغرب العربي, وتمنحها أقلام من يحررون الصفحات الفنية في الصحف لقب (أميرة الطرب) تمييزا لها عن سلطانة الطرب اللقب الذي حظيت به نجمة غناء ما قبل أم كلثوم المطربة منيرة المهدية.
أعطت السينما المطربة نادرة شهادة الميلاد الفني, غير أن السينما انشغلت بعد ذلك عن أول مطربة عرفتها الشاشة الكبيرة بتقديم غيرها من المطربات في مراحل زمنية تالية مثلما كان الحال مع أم كلثوم وليلى مراد ونجاة علي وأسمهان ورجاء عبده ونور الهدى وصباح ثم شادية وهدى سلطان ونجاة وفيروز وفايزة أحمد ونجاح سلام وسميرة توفيق وغيرهن خلال عمر السينما الغنائية, بداية من العام 1932 وحتى غاب عن السينما دورها المؤثر في السنوات الأخيرة.
كان الراديو هو المدخل الحقيقي للتعبير عن النشاط الغنائي للمطربة نادرة بعدما انصرفت عنها السينما عندما لم يحقق فيلمها الثاني (أنشودة الراديو) ماحققه فيلمها الأول (أنشودة الفؤاد) من نجاح, ومع إقبال الإذاعات الأهلية الخاصة عليها ثم بعد ذلك الإذاعة الرسمية القومية, كانت نادرة تقدم وصلة غنائية منذ النصف الثاني من سنوات الثلاثينيات من القرن الأخير, كانت وصلتها في مساء يوم الاثنين أسبوعياً وكان تقديمها لرائعة الملحن القديم محمد عثمان (ياما انت واحشني) بمنزلة بطاقة التعارف بين صوت نادرة ومستمعي الراديو ثم تلت هذا الدور الشهير بموشحات وأدوار أخرى من ألحان داود حسني وزكريا أحمد ومحمد القصبجي وأيضا موسيقار الشعب سيد درويش.
ومن يتأمل الإنتاج الغنائي لنادرة يلحظ أنها تفوقت في غناء القصائد وكان من أبرزها تلك التي لحنها أستاذ فن تلحين القصيدة الموسيقار رياض السنباطي وهي قصيدة (قلبي في الهوى زورق) من شعر عباس محمود العقاد الذي خص المطربة نادرة بعدد من قصائده الغنائية كان أشهرها (فضفض الماء يا قمر) من تلحين فريد غصن وقصيدة (ساعة الصفو) من تلحين رياض السنباطي
أعطني العود وغني
وعند رصدنا أغنيات المطربة نادرة وتأملنا لغنائياتها ذهب بنا الاختيار إلى وضع بعضها في صدارة منحنى البيان المتفوق لغناء نادرة, حيث يبدو في مقدمته لحن (أعطني العود وغني) لحن فريد غصن وكلمات سلام فاخوري وهو عمل جميل سبق غناء قيثارة لبنان فيروز لرائعتها (أعطني الناي وغني) وبينهما تقارب في المعنى وفي المحتوى الموسيقي أيضا, وقد وضع الملحن فريد غصن الكثير من الألحان الجميلة التي قدمتها نادرة مثل أغنية بالعامية هي (متشوقني لعنيك) وقصيدة بالفصحى هي (يا حبيبي) من شعر عباس محمود العقاد وأغنية (بين الزهور) تأليف محمد محمود الهلاوي, وهناك أيضا لحن محمد عبدا لوهاب وشعر علي محمود طه (يا حبيبي أقبل الليل) وأغنية (على نغم العود) من ألحان فؤاد حلمي وأغنية (عاشق) من ألحان محمد القصبجي وأغنية (أنا الأمل) من تلحين محمود الشريف.
وإلى جانب ألحان أقطاب التلحين كانت مطربة أول فيلم غنائي في تاريخ السينما العربية تميل إلى تلحين بعض أغنياتها ومن ذلك قصيدة (يقولون ليلى) وقصيدة الشاعر عمر بن الفارض (هيئ لنا من أمرنا), وقد بدأت نادرة التلحين لنفسها من خلال وصلتها الإذاعية الغنائية بداية من عام 1935 عندما كلفها الإذاعي الرائد الموسيقار مدحت عاصم تقديم وصلتها, ومنذ قررت نادرة التوقف عن تقديم الجديد والاعتزال في عام 1960 وقتما اختلفت مع الإذاعة تمضي السنوات والإذاعة لا تهتم بتقديم أغنيات نادرة بما يتناسب مع موقعها على الخريطة الغنائية ومع توسع الإذاعات العربية في بث إذاعات متخصصة في الغناء والموسيقى نراها لا تقدم أغنيات نادرة بل إنني لا أبالغ عندما أقول إن بعض من يعملون في تلك الإذاعات من المحسوبين على العمل الإعلامي لا يعرفون نادرة اتساقا مع هذا الغياب لضعف ذاكرة الأمة الثقافية.
إن العودة لذلك الغناء الذي لا تعرفه الأجيال الحالية والذي يمثل تقديمه مذاق الحنين لأغنيات الذكريات عند المخضرمين ممن عاصروا هذا الغناء الجميل وأتيح لهم أن يعاصروا هذا الكم المتردي من غناء اليوم غير الجميل, يجعلنا ننقب عن كنوز الغناء الجميل الذي يمكن إعادة اكتشاف روائعه من خلال العودة إلى تسجيلات الماضي الصالحة وعبر أعمال السينما والإذاعة والمسرح والتلفزيون.
ونادرة صاحبة قدر لا يستهان به من خزائن كنوز هذا الماضي, وقد تعرض صوتها للعديد من التغيرات منذ بداياتها في الثلاثينيات وحتى سنوات توقفها عن تقديم الجديد في أوائل الستينيات وعمرها 47 عاما, فقد تدرج الصوت من مرحلة إلى أخرى من عمل غنائي مبكر مثل أغنية (أين مني الحب) التي لحنها شيخ الملحنين زكريا أحمد ومن خلال حرصه في بداياتها على ضبط تنفس مطربته الشابة الناشئة والمعاونة على تدريبها وزيادة طول النفس, وحيث يعطي هذا التحكم للصوت القدرة على اختيار النبرة الملائمة للجو النفسي وللمعاني التي تغنت بها نادرة في هذه الأغنية.
ولقد تدرج صوت نادرة من أغنية البدايات (أين مني الحب) وحتى أغنية ما قبل التوقف واسمها (على نغم العود) لحن فؤاد حلمي في أواخر الخمسينيات, عبر عدة مراحل, كانت المرحلة الأولى فيه من الحدة التي تقارب طبيعة صوت (السوبرانو) وكان ذلك في الأعمال التي ظهرت في الثلاثينيات, ثم ليصل الصوت في مرحلته الثانية في الأربعينيات لأن يكون أكثر اتساعا, وعلى النحو الذي يبدو في طبيعة الصوت المسمى (السوبرانو دراماتيك) وحتى كان اعتزال نادرة للغناء في أوائل الستينيات والصوت يقارب في ملامحه ما يوجد في الصوت (الميتزو سوبرانو) وهو أصدق ما يميز غناء المرحلة الثالثة في التعبير الصوتي عن نجمة أول فيلم غنائي في السينما العربية.
ولننعش ذاكرتنا الغنائية نعود إلى أغنيات نادرة لنجد أن من معالم المرحلة الأولى أغنية (يا بحر النيل) التي لحنها زكريا أحمد وأغنية (يا حبيبي) التي لحنها فريد غصن حيث يتميز الصوت بالليونة والذبذبات السريعة ذات اللمعان والمساحات النغمية الواسعة, أما إذا اخترنا من معالم مرحلتها الصوتية الثانية أغنية (قلبي في الهوى) لحن رياض السنباطي وأغنية (أنا الأمل) لحن محمود الشريف وأغنية (يا حبيبي لاتقل أقبل الليل) لحن محمد عبد الوهاب صاحب الفيلم الغنائي الثاني في تاريخ السينما الغنائية العربية بعد فيلم نادرة, فإننا نجد في أغنيات هذه المرحلة ما يتناسب فيها الصوت مع مرحلة الشباب والنضج, حيث أصبح الصوت أكثر تركيزا, تتزايد فيه مقومات التعبير والتلوين الصوتي.
وعندما نتوقف عند أغنيات ما قبل الاعتزال مباشرة نجد أن أهمها أغنية (على نغم العود) التي وضع لحنها فؤاد حلمي وهو ملحن قدير كان زميلا لعبد الحليم حافظ وكمال الطويل في دراسته الموسيقى بالمعهد العالي للموسيقى في أواخر الأربعينيات, غير أن شهرة فؤاد حلمي لا تتناسب مع موهبته وإبداعاته وما أضافه من عطاء
في هذا النموذج الغنائي الذي لحنه فؤاد حلمي لنادرة نلحظ على غنائيات هذه المرحلة تفهم الصوت للمقامات والإيقاعات المختلفة وخصوصا في غناء القصائد ومنها أغنية (هيئ لنا من أمرنا رشدا) وهو غناء فيه الاستيعاب الصريح لقدرات هذا الصوت بملامحه الرصينة وغنائه السليم.
تمر السنوات وتمضي سبعة عقود كاملة على عرض أول فيلم غنائي عربي في تاريخ السينما وما يزيد على حقبة واحدة على رحيل نادرة عن الحياة فهل وفقنا في إنعاش الذاكرة الفنية بتناول ملامح من ريادتها الغنائية والسينمائية? وهل نجد من مؤسساتنا الثقافية من ينقب عن هذه الكنوز التراثية لينصف الموتى منا لأحياء?!.
ساحة النقاش