لكل امة تراثها الموسيقى و الغنائى الذى تفخر به و تحافظ عليه و تعرضه بصورة دورية حتى تتمكن الاجيال المتعاقبة من التعرف عليه و حفظه حتى يرسخ فى نفوس المواطنيها . و برغن اننا اصحاب الريادة فى مجال المسرح الغنائى العربى عندما بدا سلامه حجازى ( 1852 – 1917 ) يقدم عروضه فى المسرح الغنائى و لاقت اعماله نجاحا جماهيريا كبيرا خاصة بعد ان انشا فرقته الخاصة عام 1905 و قدم العديد من المسرحيات الغنائية التى نذكرمنها ( صدق الاخاء – هناء المحبين البرج الهادىء – السر المكنون – غانية الاندلس – شهداء الغرام - صلاح الدين الايوبى ) و برغم توالى قيام كبار الملحنين المصريين بتقديم مسرحياتهم الغنائية الا اننا لا نرى لعروض المسرح الغنائى المصرى وجودا فى حياتنا الموسيقية فى الوقت الحالى .
و انتعرف فى لمحات خاطفة على نماذج من تراثنا فى مجال المسرح الغنائى نجد ان سيـد درويش ( 1892 – 1923 ) ابو الموسيقا المصرية الحديثة لحن ( 31 ) مسرحيه غنائية فيما بين عامى ( 1917 – 1923 ) نذكر منها
( الهوارى – و لو – عقبال عندكم – احلاهم – قلنا له – راحت عليك – العشرة الطيبة – شهرزاد – هدى – البروكة )
و قدم كامل الخلعى ( 1870- 1938 ) مسرحيات غنائيه ذات موضوعات مقتبسة نذكر منها ( كارمن – تابيس – توسكا ) و لحن داود حسنى ( 1870 – 1937 ) لحن المسرحيتين الغنائيتين ( شمشون و دليلة ) و ( ليلـة كليوباترا ) .
و لحن زكريا احمد ( 1896 – 1916 ) ست و خمسون مسرحية غنائية نذكر منها : ( دولة الحظ – ناظر الزراعة – حكيم الزمان – انوار – ابز زعيزع – اخر مودة – على بابا – الوارث – عزيزة و يونس – يوم القيامة ) و حاول بليغ حمدى ( 1931 – 1993 ) فى مطلع الستينات من القرن العشرين ان يحيى المسرح الغنائى المصرى فقدم عملا مهما بعنوان ( مهر العروسة ) عرض على مسرح دار اوبرا القاهرة القديمة و فى نفس الفترة قدم الفنان الموهوب محمد الموجى ( 1923 – 1995 ) مسرحية غنائيه بعنوان
( هدية العمر ) و قدمت المسرحيتان و قت ان كان الفنان القدير عبد الحليم نويرة مديؤا لادراة المسرح الغنائى . ثم قدمت فى اوقات متفرقة مسرحيات غنائيه مصرية مثل ( العشرة الطيبة ) و ( شهرزاد ) لسيد درويش و ( يوم القيامة ) لزكريا احمد . و السؤالالان هل هذا يكفى ؟ اين عروض مسرحنا الغنائى سواء على مسارح البيت الفنى للمسرح او فى دار اوبرا القاهرة الجديدةالتى افتتحت ( 10/10 / 1988 ) اذ كيف يكون لدينا كل هذا التراث الضخم و لا يعرفه شبابنا و الاجيال المتعاقبة ؟ فكل الامم تحافظ على تراث فنانيها و تحرص كل الحرص على تقديمه بل و تباهى به الامم . سؤال يحتاج الى جواب شاف و العجيب ان عدد من هذة المسرحيات الغنائيه مسجل بالفعل فى الاذاعة المصرية وقت ان كان حفظة هذا التراث مازالوا على قيد الحياة اى لدينا وثائق حقيقية اذا كانت لدينا النية لاعادة تقديم عروض المسرح الغنائى المصرى فى دار اوبرا القاهرة . و قد اقترحت ان يتم الاعداد لتقديم تلك العروض حتى نخرج بالصورة اللائقة و حتى يتم ذلك اقترحت تقديم البرامج الاذاعية الغنائية التى قدمتها الاذاعة المصرية و يعرفها الجميع مثل ( على بابا – خوفو – عوف الاصيل – عذراء الربيع ) على ان يقدم كلا منها كما لو كان مسرحية من فصل واحد على ان يقدم اثنين او ثلاثة منها فى سهرة مسرحية واحدة . و لا يفوتنى هنا الاشارة الى ما قد يكون لدى اسر الفنانين الراحلين من مدونات موسيقية او تسجيلات صوتية يمكن الاستعانه بها لاعادة تقديم عروض المسرح الغنائى المصرى و هذا يقودنا الى الى الحديث عن المشروع الحالى الذى تتبناه دار الاوبرا المصرية بالتعاون مع الحكومة البولندية لتوثسق تراث الموسيقا المصرية و يستهل هذا المشروع القومى المهم و الذى يستحق كل دعم و تقدير بتوثيق تراث الملحن العظيم زكريا احمد ( 1896- 1916 )من خلال استخدام احث الوسائل التكنولوجية فى مجال التوثيق . ان توثيق التراث و تقديمه شىء فى غاية الاهمية سواء كان هذا التراث من اعمال المسرح الغنائى او فى اشكال الغناء العربى التقليدى ( القصائد الغنائية – الادوار – الموشحات – الطقاطيق و غيرها ) حتى لا يندثر هذا التراث او يتم تحريفه . و لكن بالرغم من اهمية ذلك فاننا لا يفوتنا ان نلتفت الى ما يقدم اليوم من الوان الغناء على الساحة المصرية و العربية لنرى ماذا يقدم المبدعون اليوم ؟ فاذا اردنا ان نعرف لماذا تحدث موجة الغناء الحالى التى لا يرضى عنها الكثيرون نعود الى جذور المسالة .
كان لدى الاذاعة المصرية عام 1951 فرقة موسيقا الاذاعة المصرية لمصاحبة المطربين و المطربات و لتقديم المؤلفات الموسيقية المصرية التقليدية و كانت تلك الفرقة تضم كبار الموسيقين المصريين و فى الوقت نفسه هناك لجنة خاصة لاجازة كلمات الاغانى سواء كانت بالفصحى او العامية .
و كانت هناك لجنه اخرى تضم كبار الموسيقين يقومون باختبار المطربين و المطربات و الملحنين الذين كانوا يتقدمون الى تلك اللجنة . لتقرر مدى صلاحيتهم من الناحية الفنية للغناء او للتلحين من عدمه . فكانت الاغنية تمربعدة مراحل تضمن مستواها الفنى دون ان يكون هناك اى حجر على حرية الابداع فالفنان حر فى ابداعه و لذلك ظهرت اعمالا غنائية رائعة ظلت حية و ستبقى فمن اين جاءت هذة الموجة الهابطة من الغناء ؟
حدث ذلك عندما تخلت الاذاعة المصرية عن مهمتها فى انتاج الاغانى و المؤلفات الموسيقية و رعايتها فقد كان المسؤل عن الموسيقا فى الاذاعة يكلف الملحنين بانجاز الالحان و يؤديها من يقع عليه الاختيار من المطربين او المطربات فالكلمات تقدمها الاذاعة بعد اجازتها و الملحن و المطرب و الفرقة تتولى الاذاعة دفع اجورهم . اما اليوم فالامر خرج عن السيطرة .
النقطة الثالثة هى اذدهار تجارة اشرطة الكاسيت التى تقدم الاغانى و تلك التجارة لا غبار عليها اذ جاء نشاطها ايجابيا فى صالح الحياة الفنية و لا تضع فى حسابها فقط لمكسب المالى و انما ما نطلبه ان تكسب و تقدم فنا راقيا يرتفع بالذوق العام للمجتمع و لا يحدث العكس .
و فى ظل الظروف التى امتدت على مدى العشرين عاما الماضية ظهر العديد من الاصوات الضعيفة ووجدنا مطربا يظهر على المسرح فى حفل عام و قبل ان يبدا الغناء يوجه الميكرفون الى الجمهور ليغنى بدلا منه او لعله يستنجد بالجمهور لتنقذه من الورطة التى وقع فيها !!!!! و كذلك وجدنا الفرق الكبيرة التى تضم بين الاتها الات موسيقية كهربائية تطغى على كل ما عداها من الالات و نستمع الى كتيرمن الموسيقا سواء فى لمقدمة الموسيقية او الفواصل بين الكوبليهات ، و لكننا نستمع الى قليل من الغناء فى اغلب الاحيان . و لما دخلت موجة ( الفيديو كليب ) الى عالم الغناء وجد المطربون ضعيفى الصوت طوق النجاة فى هذه الكليبات حيث تظهر الفتيات الجميلات الرشيقات يرقصن حول المطرب فيصرفن اذهان المشاهدين عن متابعة المطرب للتعرف على قيمة صوته الفنية و طبيعة اللحن الذى يغنيه .
هذا كثير مما يسود على ساحة الغناء فى مصر و لكن هذا لا يعنى انه لا يوجد غناء حقيقى و اصيل ، يؤديه مطربون و مطربات يتمتعون بالموهبة و الدراسة و الصقل الفنى الذى اهلهم ليحتلوا مكانهم على ساحة الغناء المصرى و العربى . فنذكر على سبيل المثال مطربون امثال ( على الحجار – محمد منير – هانى شاكر – محمد الحلو – مدحت صالح – ايمان البحر درويش – خالد عبد الغفار – امجد العطافى – احمد ابراهيم – حمدى هاشم – وائل سامى ) و من المطربات نذكر ايضا على سبيل المثال ( انغام – ريهام عبد الحكيم – مى فاروق – امال ماهر ) .
و هكذا نجد ان الدنيا بخير و لكن المطلوب التركيز على اصحاب المواهب الحقيقية و دفعها دوما الى الامام فاذا تحدثت عن الملحنين الذين يبدعون الالحان نلاحظ ان هناك ملحنون راسخو الاقدام فى عملهم يعرفون طبيعة الموسيقا العربية و مقاماتها و دورهم فى تقديم الحان تعبر عن عصرهم و يقدمون من التجارب ما يدفع الموسيقا العربية الى الامام و على الجانب الاخر فان الكثير من الملحنين الموجودين على الساحه يبتعدون عن الطابع العربى لموسيقانا سواء فى استخدام المقامات العربية الاصيلة و خاصة تلك المحتوية على ثلاث ارباع النغمات او فى هجرهم للموازين الموسيقية العرية البسيطة و المركبة ، التى تميز موسيقانا و هى تتيح للملحن الموهوب الدارس ان يستعرض قدراته الموسيقية و سيطرته على عناصر حرفته فنحن مثلا لا نجد ملحنا فى الوقت الحالى يقدم لنا موشحا حيث ان صعوبة الموشح تاتى من انه يغنى بمصاحبة موازين موسيقية تظهر مدى براعة الملحن سواء البسيط منها ا و المركب .
و هناك لون من الوان الموسيقا العربية قد اصبح نادرا و هو الارتجال سواء فى العزف او فى الغناء و هو من اهم المميزات الفنان العربى ففى مجال العزف نطلق عليها مصطلح ( التقاسيم ) و فيها تظهر براعة العازف على احدى الات الموسيقا العربية ( الناى – العود – القانون – الكمان ) و مدى معرفته باسرار الموسيقا العربية و انتقالاتها المقامية السلسة . و هناك نوعان من التقاسيم الاول حر و يؤديه العازف بمفرده و الثانى موزون و يؤديه العازف بمصاحبة ميزان موسيقى معين وو عليه الا يخرج عليه حتى يختتم التقسيمة . و فى كل الاحوال فان العازف يؤلف الحان التقاسيم لحظة ادائها ، فتكون وليدة اللحظة تعبر عن مشاعرالعازف وقتها و مدى تجاوب الجمهور معه ان كان فى حفل عام و لا يجوز تحضريها .
اما فى الغناء فن الارتجال عنصر مهم فى الغناء العربى حيث انه يظهر مدى معرفة المطرب باسرار الموسيقا العربية و انتقالاتها المقامية و هى ميزة افتقدناها كثيرا فى حياتنا الموسيقية المعاصرة .
د/ زين نصار دراسات موسيقية و كتابات نقدية المعهد العالى للموسيقى العربية اكاديمية الفنون
ساحة النقاش