1. المذهب الكلاسيكي

لم يعرف اليونانيون القدماء والرومانيون القدماء الذين ورثوا عن اليونانيون ثقافتهم بما فيها من مسرح وشعر وأدب كلمة "كلاسيكي" إذ إن أول من أطلق هذه الكلمة كان كاتباً لاتينياً من أهل القرن الثاني الميلادي يدعى "أولوس جليوس"، فقد كتب هذا الرجل كتاباً صاغ فيه عبارتين إحداهما هي Scriptor Classicus أي كاتب أرستقراطي يكتب للخاصة فقط، والثانية هي عبارة Scriptor Proletarius أي كاتب يكتب للعامة وجماهير الشعب. ولم يكن أولوس يقصد بعبارته الأولى هذا الكاتب الذي لا تقرأ كتبه إلا في فصول المدرسة Classes، كما وهم الذين حرّفوا معني تلك الكلمة أو كما شوهها غيرهم بعد ذلك بقرون طويلة، فزعموا أنها تطلق على كل كاتب أو كل أثر علمي أو أدبي جدير بالدراسة الأكاديمية في الكليات والجامعات. كما غلب ذلك المعني طوال العصور الوسطي وفي عصر النهضة بين الشعوب اللاتينية، وهو المعني الخاطئ الذي تسرب منذ تلك العصور إلى اللغات الحديثة.

هذا وقد كان الإنسانيون Humanists يعدون روائع الأدبين اليوناني واللاتيني هي وحدها المؤلفات الجديرة بمثل تلك الدراسة، ومن ثم أصبحوا يطلقون على الروائع اليونانية والرومانية كلمة Classics أي الروائع الكلاسيكية.

على أن هذا الاسم أصبح يطلق الآن على كل الروائع الحديثة، حتى تلك التي لم يتقادم عليها الزمن، والتي لا تمت بصلة إلى المذهب الكلاسيكي.

يعدّ أرسطو "384- 322 ق.م" بلا شك أول من قنّن المذهب الكلاسيكي في المسرحية، وضبط قواعده غير المكتوبة وذلك في كتابه "الشعر"، ذلك الكتاب المضطرب الذي لم يعدو في البداية أن يكون مذكرات مهوشة وضعها أحد تلاميذ أرسطو في أثناء أحاديثه، إلا أن أرسطو عاد ووضع هذا الكتاب في صورته النهائية سنة "330 ق.م". وكان أرسطو يكتب كتابه هذا وبين يديه مآسي الثلاثة الكبار: أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس. كما كان بين يديه كذلك ملاهي أرستوفنس وغيره من عظماء عصره، وكان هؤلاء جميعاً قد ماتوا قبل أن يولد أرسطو، وكان عصر المأساة اليونانية قد انتهي، وعلي هذا فقد عاش أرسطو في فترة من فترات المسرح اليوناني كان جميع مؤلفي المآسي فيها ينسجون على نهج مآسي الثلاثة الكبار، ولعل هذا هو الذي جعل أرسطو يتخذ من مآسي هؤلاء الكبار قانونه.

ويعرف أرسطو المأساة بأنها:

"محاكاة الأفعال النبيلة الكاملة، وأن لها طولاً معلوماً، وتؤدى بلغة ذات ألوان من الزينة تختلف باختلاف أجزاء المأساة، وتتم هذه المحاكاة بواسطة أشخاص يمثلونها وليس بواسطة الحكاية، وهي تثير في نفوس المتفرجين الرعب والرأفة وبهذا تؤدي إلى التطهير "تطهير النفوس" من أدران انفعالاتها".

ويقصد أرسطو باللغة ذات الألوان من الزينة، اللغة المشتملة على الإيقاع والألحان والأناشيد. ويعد من أجزاء المأساة الكلاسيكية القصة "أو الخرافة" والأخلاق "أي الشخصيات" والفكرة والمنظر والأناشيد والحوار، وهذه عند أرسطو هي الوسائل التي تتم بها المحاكاة.

ويري أرسطو وجوب أن تكون المأساة متوسطة الطول حتى لا تمل، وأن تشتمل على بداية ووسط ونهاية، وأن تتم لها وحدة الفعل، أي وحدة الموضوع، فلا تختلط عقدتها الأساسية بعقد ثانوية، ولا تتألف من أكثر من موضوع واحد حتى لا يتشتت انتباه المتفرج وتنصرف الأضواء عن البطل إلى أشخاص آخرين فيضعف الموضوع الأصلي.

كما يرى أرسطو أن مدى الأحداث التي يتألف منها الموضوع يمكن أن يجري في الحياة الحقيقية في "دورة شمسية"، وهو يعني بتلك الدورة الشمسية نهاراً وليلة أو أكثر قليلاً. وهذه هي وحدة الزمان عند أرسطو، أما الأحداث التي وقعت في الماضي، سواء كان ماضياً بعيداً أو قريباً فتروى على ألسنة الشخصيات أو تحكيها المجموعات.

وكل مأساة عند أرسطو تشتمل على "تحوّل"، أي انتقال من السعادة إلى التعاسة والعكس، وعلى "تعرّف" أي انتقال من الجهل إلى المعرفة، مما ينتقل بالشخصية من المحبة إلى الكراهية أو العكس.

وقد ظل الناس يتدارسون ما ورد في كتاب "الشعر" لأرسطو عن المأساة الكلاسيكية أحقابا طويلة بوصفه من الأمهات في هذا الفن. وظلت أقوال أرسطو قواعد جامدة يحكم النقاد بمقتضاها حتى القرن الثامن عشر الميلادي بالرغم مما شهدته الدنيا من روائع شكسبير وكالدرون ولوب دي فيجا وغيرهم من الجبابرة الذين لم يبالوا بتلك الموازين القديمة، فراحوا يبتدعون وينظرون إلى التأليف المسرحي نظرة حرة من تلك القيود المربكة.

تعدّ فرنسا المهد الحقيقي للكلاسيكية الحديثة، ففيها ظهر الناقد المتحرر أوجييه المتوفى عام 1670م، (وموليير Moliere 1622-1673م) ، (والمؤلف تشابلان 1595- 1674م)،( ولامينارديير 1610- 1663م)، وكذلك (بوالو 1636- 1711م)، الذي نظم رسالة هوراس، وغيرهم ممن أرسوا قواعد هذا المذهب.

على أن الحركة الكلاسيكية بدأت في فرنسا بترجمة روائع المسرحيات اليونانية نفسها، ثم تزعم "إيتن جوديل" حركة الإحياء الكلاسيكي، وقد انصرف عن الترجمة إلى التأليف، محتذياً الأنماط اليونانية واللاتينية، فظهرت مأساته كليوباترا عام 1552م.

وقد حفزت هذه النهضة الكلاسيكية الفرنسية رجال المسرح الإنجليزي فأخذوا يترجمون الروائع اللاتينية بين عامي 1559- 1566م. إلا أن ريح المذهب الكلاسيكي لم تشتد في إنجلترا اشتدادها في فرنسا.

أما الحركة الكلاسيكية الحديثة في ألمانيا فقد بدأت في القرن الثامن عشر الميلادي وبالأحرى عام 1730م.

2. المذهب الكلاسيكي الحديث

تعدّ الفترة الواقعة بين عامي 1660- 1685م من تاريخ الأدب الفرنسي، هي العصر الذهبي للمذهب الكلاسيكي الحديث في فرنسا التي تعدّ مهد الكلاسيكية في أوروبا كلها. وهي تلك الفترة من حكم الملك لويس الرابع عشر راعي الفنون والآداب، وموجه الحياة الفكرية في العالم في عصره، وقد سبقت هذه الفترة حقبة من الاستعداد والاضطراب الفكري مهدت للعصر الكلاسيكي.

أما ربع القرن المهم "1660- 1685م" في حياة الكلاسيكية الحديثة في عهد لويس الرابع عشر فيمثله "راسين Racine" و"موليير"، المسرحيّان، و"بوسويه" الشاعر، و"بوالو" مقنن الكلاسيكية الحديثة وأشبه رجالها بهوراس، و"لافونتين" شاعر قصص الحيوانات والطيور الخيالية البارعة الممتلئة بالحكمة والأمثال الواعية.

ويمتاز المذهب الكلاسيكي الحديث بمحاكاة قدامي اليونان في مسرحياتهم من حيث الشكل مع تيسيرات أهمها:

أ. إباحة وجود عقدة ثانوية أو أكثر بشرط ألا يضعف ذلك من العقدة الأساسية وألا تشوه وحدة الموضوع.

ب. قبول اتساع وحدة الزمان، فلا تقف عند دورة شمسية، كما قال أرسطو، بل قد تمتد إلى ثلاث دورات أي ثلاثة أيام.

ج‌.   قبول أن يمتد نطاق وحدة المكان بحيث يشمل مدينة بأسرها أو قصراً بأكمله، حتى إذا تغير المكان "المنظر" لم يخرج عن حدود المدينة أو حدود القصر الذي تقع فيه الأحداث.

د. الإبقاء على عظمة الشخصيات، ولكن لا مانع من اتخاذ الوصيفات والأصدقاء في أدوار لا تعد تافهة.

هـ. الإبقاء على الأسلوب الأرستقراطي على أن يكون أسلوباً واضحاً سليماً وشاعراً.

و. الكلاسيكية الحديثة لا تعرف المجموعات ولا الأناشيد.

ز. إحلال الحب وأهواء النفس محل القضاء والقدر عند اليونانيين لتكون محوراً تدور حوله أحداث الرواية، ومن هنا أصبحت الكلاسيكية الحديثة ذات نزعة عالمية.

وقد كانت الكلاسيكية الحديثة شديدة الشبه بالكلاسيكية اليونانية من حيث إنها كانت تتجه إلى تسلية الخاصة، ومن حيث إنها كانت تتناول المشكلات النفسية والأزمات الروحية، وقد اختصت الملهاة الكلاسيكية الحديثة، في معظم أحوالها، بإضحاك المجتمع على سخافاته وأمراضه الأخلاقية والسلوكية، حتى أطلقوا على موليير "المشرّع وواضع قوانين السلوك للمجتمع".

وإذا صح أن الكلاسيكية الحديثة كانت تتجه إلى تسلية الخاصة، فقد نجحت في رفع طبقات الشعب إلى منزلة هذه الخاصة، بما كانت تقدمه إلى تلك الطبقات الشعبية في أزمات الروح والمشكلات النفسية في عالم المأساة، وما كانت تشرح به نفوس الناس وسلوكهم وأخلاق النماذج البشرية في عالم الملهاة. وأعظم من يمثل المأساة الكلاسيكية الفرنسية "بيير كورني" ونجمها اللامع "راسين".

3. المذهب الرومانسي

كما دالت دولة المسرح في اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية القديمة، ولم يكن اليونانيون أو الرومانيون يعرفون كلمة "كلاسيكي" أو المذهب "الكلاسيكي"، كذلك عاش شكسبير ومعاصروه من الشعراء المسرحيين الرومانسيين وهم لا يعرفون تلك الكلمة "رومانس" Romance أو المذهب الرومانسي، وإن كان مسرحهم قد عاش حياة رومانسية خالصة، تماماً كما كان المسرح اليوناني القديم والمسرح الروماني القديم في حالة حياة كلاسيكية خالصة. ذلك أن كلمة "رومانس" لم تظهر في إنجلترا إلا حوالي عام 1654م، وكان معنى "رومانس" حينئذ "القطعة الأدبية" أو "الأثر الأدبي" الذي يشبه الرومانس أو Romanz كما كان هجاء الكلمة في اللغة الفرنسية القديمة.

والرومانس كما كانوا يعرفونها في العصور الوسطي هي القصة الطويلة التي تصور المجتمع الارستقراطي، كما تصور المثل الفروسية العليا تصويراً يقوم على المغامرات والبطولة والغرام العذري الذي يشبه العبادة.

وقد وضع "هنريك هيني Heinrich Heine" الألماني "1797- 1856م" تحديداً قصيراً يسيراً لتوضيح الفرق بين المذهبين الكلاسيكي والرومانسي، وهو فرق كبير لا شك فيه.

قال هيني:

"إن الكلاسيكية هي مذهب القيود، المذهب الذي يحدد الأهداف ويقف عندها، فتري الأديب أو الفنان الكلاسيكي يلتزم القوانين الصارمة التي تدور في قيودها فكرته، فهي دائماً تبدو في إطار محدود مادي، أما الرومانسية فهي مذهب الانطلاق، مذهب العاطفة والحرية، المذهب الذي يطير بأجنحة قوية في عالم الروحانيات غير المحدود، وهو لهذا يوجب على الأديب أو الفنان أن يجعل الرمز أهم أدواته".

والمذهب الرومانسي هو مذهب العاطفة التي تحرك الأحياء جميعاً، وتتلاعب بهم وتوجههم وتستبد بهم أشد مما يستبد بهم القضاء والقدر كما في المسرحية الكلاسيكية. كما أن المذهب الرومانسي لا يتقيد بالوحدات الثلاث: وحدة الفعل، وحدة الزمان، وحدة المكان. فشكسبير يجمع إلى العقدة الأساسية في كل مسرحية من مسرحياته أكثر من عقدة ثانوية، وهو لا يقتصر على قصة أو حكاية واحدة تتسلط عليها جميع الأضواء.

والشعراء المسرحيون الرومانسيون يشبون العواطف في نفوس شخصياتهم ونفوس المتفرجين شباً عنيفاً، ويشيعون في المسرحية وفي المسرح جواً من الترقب والاستغراق، وهو الجو الذي تسبح فيه العواطف في الجنة والجحيم على السواء. والمذهب الرومانسي لا يعنى إلا بذات الفرد ودخيلة نفسه، ومن هنا كان جمال الأدب الرومانسي كله، الجمال الذاتي، جمال الروح الإنساني في فطرته التي فطره الله عليها.

والمنطق في المسرحية الرومانسية منطق فردي ضعيف، منطق هوائي، منطق تربى في ريح العاطفة المتقلبة التي لا استقرار لها.

ويعدّ مارلو "1564- 1593م" معاصر شكسبير، الذي ولد معه في عام واحد، أول ثائر على قواعد المذهب الكلاسيكي، وتلميذ مكيافيللي صاحب المبدأ السياسي "أن الغاية تبرر الوسيلة ووجوب أن يتذرع الحاكم بكل ما يجعله قوياً غلاباً وصاحب كل سلطة في بلاده". ولم يكن مارلو وحده الذي ضرب بقواعد المذهب الكلاسيكي عرض الحائط، بل شاركه في هذا معظم خريجي الجامعات البريطانية من اللامعين، وكان منهم من استعمل النثر لأول مرة في المسرحية، ثم بدأ عصر المآسي في تاريخ المسرح الإنجليزي، وهو العصر الذي تبلور فيه شكسبير، بطل الرومانسية العميقة. وقد بهر شكسبير العالم كله بطريقته العجيبة في تصوير دخائل النفس الإنسانية، وما تجيش به من عواطف وأهواء. ويعدّ وليم شكسبير ظاهرة فنية فذة في تاريخ المسرح، وقد كان ينظم مسرحياته في إنجلترا في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر الميلادي، وكأنه كان ينظمها للعالم جميعاً وللزمان كله، إلا أن الإنجليز جهلوه أكثر من قرن ونصف القرن حتى عرّفه إليهم الناقد الألماني " شليجل Schlegel 1767 - 1845 م، فأفاقوا إلى أنهم يملكون أديباً أثمن من إمبراطوريتهم.

4. المذهب الطبيعي

ضعف المذهب الرومانسي في فرنسا، وفي كثير من دول أوروبا وأمريكا، واشتاق الناس أن يحدثهم الأدباء عن حياتهم الواقعية، وبالفعل أخذ القصاصون أمثال: ستندال Stendhal ”1783-1842م" وبلزاك "1799-1850م"، ودي فو "1660-1731م"، وهنري فيلدنج Henry Fielding "1707-1757م" ، في إنجلترا، يكتبون القصص الواقعية الشائقة التي ينتزعونها من الحياة الواقعية.

والمذهب الطبيعي هو الشيء المنسوب للطبيعة، الطبيعة كما خلقها الله، الطبيعة التي لم تتأثر بالعوامل الخارجية الطارئة والتي يصنعها المجتمع في الغالب بما يتواضع عليه من تقاليد وآداب، وما يسنه من شرائع وقوانين، وما يقيمه من معاهد للعلم أو منشآت للفنون، وما يبتدعه من أصول الذوق العام، والأدب الطبيعي هو الذي يحدثنا عن هذه الحياة الطبيعية الفجة التي لم تتأثر بهذه العوامل المكتسبة.

ولا شك أن الأخوين دي جونكور: إدمون "1822-1896م"، وجول "1830-1870م"، هما مبتكرا المذهب الطبيعي في الأدب الفرنسي، وقد كان نشاط هذين الأخوين لا يقف عند حد، وكانت لهما ميزات أدبية وفنية متنوعة، ويحسب لهما أنهما أدخلا مبادئ الفن الياباني في فرنسا. وقد كتب الأخوين دي جونكور في كل شيء، في الأدب الصرف وفي الرسائل والمقالات والقصص، وبالطبع في المسرحيات، وكانت شخصياتهما المسرحية دراسات صرفة من الحياة العامة كانا يأخذانها عمن يتصل بهم من الناس أخذا طبيعياً، لا يزيدان فيه ولا ينقصان. وقد كان غرض الكتاب الطبيعيين أن يوفروا للأجيال التالية أكبر قدر من المستندات الحية التي يعرفون بها أهل الجيل الحاضر معرفة كأنهم يرونهم بها رأي العين.

ويعتبر "إميل زولا Emile Zola" الذي ولد في باريس عام 1840م"، من أعلام المذهب الطبيعي، كذلك المسرحي جي دي موباسان "1850-1893م".

والمذهب الطبيعي أدى بجميع أربابه إلى الدمار الخلقي والصحي، ولعل ذلك ناشئ من التزام الصدق في تسجيل مجريات الحياة، بل المبالغة في التزام ذلك، دون أن يعمل الأدباء حساباً للعواطف المكبوتة.

ويلخص النقاد معالم المذهب الطبيعي في التالي:

"وهذا المذهب الذي تتغلب فيه الحقيقة على كل من العقل والتفكير، والكاتب الطبيعي يقتصر على تصوير الحقيقة المجردة، وكشف بواطنها كشفاً لا يحفل بالخجل أو الحياء أو التقاليد، وهو لا يسمح لتفكيره مطلقا بالتدخل في شأن هذا التصوير".

وللكاتب الطبيعي طريقته في كتابة مسرحياته، فهو يقلل ما أمكن من عناصر موضوعه، ويجعل عقدته، إن كانت له عقدة، بسيطة غاية البساطة، كما يقلل من الحركة، وهو يقتصد في حيل المذهب الرومانسي وزخارفه، كهذه الأحاديث الجانبية التي يتمتم بها بعض الممثلين فيما بينهم حتى يسمع الجمهور حوار غيرهم من الممثلين، وهو يقتصد كذلك في القطع الطويلة التي يلقيها ممثل واحد، والخطب المملة أو المؤثرة أو المفتعلة، وهو يستعمل بدلاً من ذلك كله الحوار الطبيعي الذي يتبادله المتحدثون.

أما من حيث الموضوع، فيفضل الكاتب الطبيعي أن يختار موضوع مسرحيته من أحداث العصر الذي يعيش فيه والبيئة التي يحيا فيها، بل من أكثر الموضوعات جدة وأقربها إلى أمزجة جمهوره من النظارة. ثم إن الكاتب الطبيعي يختار هذه الموضوعات من حياة الرعاع، بل أسفل طبقة من طبقاتها، وهو يتعمد ذلك إما لطرافة ما يعرضه على المسرح من وسائل عيشهم، وإما مجاراة لريح الديمقراطية الزائفة التي تستهوي هذه الطبقات بالعطف المصطنع عليها وتكلف الرحمة بها.

على أن الطبيعيين يعنون أشد العناية بأن يكون أبطال مسرحياتهم أبطالاً ضعافاً سلبيين، يسهل قيادهم والتأثير عليهم، كما يعنون بعالم الجريمة والأمراض، بوصفها نتيجة للظروف الاجتماعية والمرضية وظروف البيئة والوراثة، تلك الظروف التي هي في نظر الطبيعيين بمثابة تقابل القضاء والقدر عند الكلاسيكيين القدماء. ومن ثم كان معظم الكتاب الطبيعيين أقرب إلى التشاؤم والنظرة السوداء إلى الحياة ومستقبل الإنسانية منهم إلى التفاؤل والابتسام للمستقبل.

5. المذهب الواقعي

الشيء الواقعي هو الذي تحول إليه الشيء الطبيعي بعد أن تأثر بعوامل خارجية طارئة، والعوامل التي صنعها المجتمع بما تواضع عليه من تقاليد وآداب.

لم يكن من المنتظر أن تنحسر تلك الموجة الرومانسية الهائلة التي اجتاحت الأدب الفرنسي على يدي فكتور هوجو، وبتلك السرعة لتحل محلها موجة عاتية من المذهب الواقعي، على أيدي ستندال، وبلزاك، وفلوبير وغيرهم.

ويعدّ الكاتب "هنري بايل" الذي عرف في عالم الكتابة باسم "ستندال" أول زعماء المذهب الواقعي في فرنسا، وهو الذي حفلت حياته بضروب من الشجاعة والمجد، حيث شهد الكثير من معارك نابليون، كما حضر نكبة الجيش الفرنسي في موسكو. وكانت قصة ستندال الخالدة "الأحمر والأسود" أول محاولة جدية في إحلال المذهب الواقعي محل المذهب الرومانسي في فرنسا، وقد وصف فيها الحياة المعاصرة وصفاً واقعياً بعيداً عن أية مسحة رومانسية، بل سلك طريقاً مضاداً للرومانسيين فبشّر في قصته هذه بمذهب القوة.

ثم ظهر إلى جانب ستندال، من كتاب القصة الواقعية الفرنسية، "بلزاك" الذي وصفه الناقد سانت بيف فقال: "إنه أعظم رجل أنجبته فرنسا". وقد تأثر بلزاك في أول نشأته بالمذهب الرومانسي، لكنه أفاق ولم يترك صنفاً من الناس إلا وصفه، ولا جماعة من الجماعات إلا أعطى منها صورة لا تبرح مخيلة قارئها، لا يبالي إذا كان يصف ملكاً أو ملكة أو قائداً أو أديباً أو شاعراً أن يقفز فيصف طباخاً أو جندياً أو جزاراً أو فلاحاً عادياً، ويصفهم بالصدق نفسه الجريء الذي لا يبالي وبالحرارة نفسها، ثم هو يثب من الوصف العام إلى الوصف الخاص الدقيق الذي يتغلغل في أعماق المشاعر ودنيا الأسرار، ملوناً صوره الواقعية هذه بلمحات حلوة جذابة من المذهب الرومانسي، لكنه لا يسمح لهذه اللمحات بالطغيان على الأصل، وهذا كله موشى بالنظرات الفلسفية، والدراسات والتحليلات الرقيقة، مما جعله زعيم المذهب الواقعي ومرسي دعائمه.

أما "جوستاف فلوبير " فحسبه أنه منشئ أروع قصة في الأدب الواقعي كله وهي قصة "مدام بوفاري"، والقصة صورة بارعة للحياة الريفية الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وصف فيها فلوبير الطبقة البرجوازية التي نشأ هو منها. ويعد "إبسن" إمام المدرسة الواقعية في المسرح الحديث، لأنه كان أقوي كتاب هذه المدرسة في أوروبا كلها.

والكاتب الواقعي في المسرح لا ينقل الحياة الواقعية نقلاً حرفياً أو نقلاً فوتوغرافياً كما يفعل الكاتب الطبيعي، بل هو يلخصها ويعطي جوهرها، والمسرحية الواقعية لا يشترط أن تكون مسرحية تعليمية، أي موضوعة لغرض تعليمي أو للتبشير بفكرة معينة، وإن كان من المستحسن أن تكون كذلك، حتى لا تكون مجرد ترف ذهني أو متعة للتسلية في الفراغ، كما هو الشأن في أكثر المسرحيات الرمزية والسريالية.

لكن المكروه، بل غير الجدير بالمسرحية الواقعية أن تكون بوقاً من أبواق الدعاية لنظام معين، لأنها بذلك تجافي الفن وتدجل على الذهن وتمسخ حرية الفكر، وأجمل المسرحيات الواقعية ما كانت صادرة عن فكرة إنسانية تعود بالخير على عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم وتزيدهم إنسانية، وترهف فيهم مشاعرهم الفنية، وتضاعف فيهم الإحساس بالجمال والحق والخير. وكلما كانت المسرحية الواقعية تطبيقاً أو عرضاً لمشكلة من مشكلات الحياة العملية، أو نقداً لوضع من الأوضاع العامة العالمية كانت مسرحية ناجحة. وفي هذا كان إبسن يتفوق على مقلديه من الواقعيين المحدثين الذين يتناولون في رواياتهم الأفكار التجريدية التي تغرق في فلسفتها المشكلة الحية.

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,820,725