جيزيل 
 سعود الأسدي
الرقص فن مارسه الإنسان منذ أقدم عصور التاريخ ففي الآثار البابلية , لوحات لمشاهد راقصة , وكذلك الآثار المصرية الفرعونية , ولعل أقدم رقص للإنسان هو تلك الحركات التي كان يقوم بها عندما كان يُوقع بفريسته , أو ينجح في إشعال قبس ليوري به النار في الغار الذي كان يأوي إليه..حتى إذا انتقل إلى الرعي , ثم إلى الزراعة والاستقرار تطور الرقص إلى ظاهرة جماعية في السلم وفي الحرب .
وما رقص الإنسان في المعابد والهياكل القديمة إلا شكل من أشكال " الباليه " التعبيري الأول الذي مارسه الإنسان مع السحر والكهانة ليرضي به القوى الخفية الكامنة في الطبيعة , والآلهة التي كان يؤمن بها .. كما أن بهجة الحياة أوحت للإنسان بل دفعته لأن يرقص , فقد رقص لنزول المطر بعد احتباسه , كما رقص لجني الثمر احتفالاً بالخصب والعطاء , على أن من أبرز ما عرف عن رقص الإنسان هو ما كان في المناسبات السارة من زواج وميلاد , ومواسم وأعياد وانتصار في الحرب. 
والرقص في أساسه خفق جسدي لما تشعر به الروح ، أو قصيدة ينشدها الجسد . وهو كأي فن من الفنون الستة الأخرى : الرسم والنحت والموسيقى والشعر والغناء والتمثيل لدى الأمم والشعوب , يتارجح بين السذاجة البدائية وحالة التوسّط والتطور الشديد .
** الباليه لمتعة المشاهد **
إن معظم الرقص يراد به إمتاع صاحبه , حتى ذلك الذي يؤديه صاحبه بأغبى وأسمج الحركات ، إلا أن رقص الباليه غاية غاياته هي إمتاع المشاهد , وإذا كان الرقص عامة , قديماً قدم الإنسان , فإنّني أزعم أن رقص الباليه كفن احترافي له مدارس ومعاهد تعليم حديث العهد , وتاريخه يشكل فصلا من تاريخ الرقص , وهو مرتبط بظهور المسرح .(عند اليونان والرومان) ولكنه لم يصبح فناً قائماً بذاته , وذا أسس ونظريات واجتهادات إلا منذ تاسيس أول أكاديمية للرقص في باريس سنة 1661 م ، وهي الأكاديمية الوطنية بمرسوم ملكي من الملك لويس الرابع عشر الذي كان يتقن الرقص بأنواعه , ويشجع حاشيته عليه مع العلم أن بذرة رقص الباليه إيطالية الأصل ، وقد استنبتتها في فرنسا الملكة كاترين دي ميديتشي لتلهى أبناءها بالباليه عن السياسة التي كانت شغلها الشاغل.
ولعل أول عمل مسرحي للباليه هو الباليه (كوميك دي رين) وقد عُرض سنة 1581. 
وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ظهرت على خشبة المسرح في أوروبا أعمال درامية فخمة من الباليه , حتى غدا هذا الفن في القرن العشرين ليس فناً موسمياً بل فناً من الفنون اليومية التي تحتفي بها حواضر الدول الأوروبية , والولايات المتحدة وكندا , وهو إلى جانب الأوبرا , وعروض الحفلات الموسيقية , يشكل إحدى واجهات الثقافة الغربية .
وكان للروس والإنجليز بعد الفرنسيين علامات مميزة فيما يتعلق بمعاهد الباليه والفرق المحترفة الممتازة التي تمتع رواد المسرح بأجمل ما أنتجته الموسيقى من Suites متتابعات , وسيمفونيات راقصة , في حلل زاهية من قصص وحكايات وأساطير , تحظى بالتصميم المنضبط بالحبكات الدرامية , التي يُعبّر عنها بحركات الجسد ..لأن رقص الباليه هو عمل مسرحي , ولا يختلف عن الأوبرا إلا بالنطق والتعبير الشفهي , لان النصّ في الأوبرا غالباً ما يكون حوارًا من شعر يُغنّى جماعياً أو ينشد إنشاداً فردياً منغّماً (ريستاتيف) أو يُغنًّى فرديا (آريا ) أو ثنائياً (دوويت) بينما في الباليه يكون الحوار مُضْمرًا , من فرقة يتزعّمها راقص أول أو راقصة أولى Ballerina ، أو صامتا ( بانتوميم ) ويعبر عنه بلغة الجسد الراقص والإشارات وتعابير الوجه وما شابه ، مصداقاً لما قاله مالارميه :" إن الرقص كتابة جسدية يجب علينا أن نعرفها بواسطة الهام الشعور , أو حدس الذكاء , وأن نقرأ معناها " .
وهذه القراءة هي المطلوبة لمعرفة القصة من خلال المشاهد والحركات الإيمائية الراقصة المبنية على أدوار لكل ممثل أو على الأصح لكل راقص يلبس دوره حسب القصّة , كما أراده له المصمم ,أو المخرج .
** الروس الآن من الطلائعيين **
لا ينكر أحد ما للروس من جهود إبداعية في فن الباليه , وأن عدد راقصي الباليه من الروس الذين حازوا مراكز نجومية وشهرة عالمية كبير, وكذلك أساتذة تصاميم الرقصات والمخرجين , ولا ينسى أن الموسيقى الروسية خدمت هذا الفن ـ كما خدمها- خدمة جبارة , حتى إن فرق الباليه الروسية المحترفة والمحترمة لم تترك عملاً من أعمال الباليه الروسية والأوروبية البديعة إلا وعرضته في حواضر الشرق والغرب .
** باليه جيزيل ** 
أذكر أنني سنة 1993 كنت قد شاهدت باليه " جيزيل" في مدينة " بطرسبرغ " ( لينيغراد ) وقد استمتعت به , ودهشت له , بل شُدهت إلى حد طفرة الدمعة من العين لجماله وكماله . وجيزيل فتاة فلاحة حسناء عذبة الروح , وقصتها قصة حبّ رومانسية مع فتى أمير يدعى " ألبرت" وكان قد خرج مع رفاقه للصيد , فما أن التقى بجيزيل في كوخها الريفيّ حتى حدث لهما ما معناه في هذه الأبيات :
" نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعـد فلقـاء "
ففراق يكون منه عذاب وعذاب يكون منه شقاء 
وشقاء ينهي الحياة فويل لشقاء يكون فيه انتهاء 
إن موت جيزيل الدرامي , ثم موت الأمير , هو قصة حكاية مبنية على أسطورة رواها الشاعر الالماني هاينه سنة 1833 , قال :
" إن هناك حكاية عن رقصة ليلية معروفة في البلاد السلافية باسم ( Wiliis) ترقصها أرواح صبايا عذارى كُنّ مخطوبات , ولكن لسوء حظهن , وافتهن المنية ليلة زفافهن , إلا أن أرواحهن الشابة , والمتعطشة للحبّ والحياة , لا تنام مطمئنة في أجداثها , فهن بالرغم من أن قلوبهن كفت عن أن تنبض , إلا أنّ في أقدامهن الميتة شوقاً مُلِحّاً , ورغبة عارمة للرقص الذي حرمهن القدر منه , فلم يكتفين منه في حياتهن , ولذا فإنهن ينهضن في مماتهن من عالم الظلام البارد , ويمضين في الليالي المقمرة إلى " وادي الصمت " , ويرصدن الطريق الليلية حتى إذا مرّ بهن فتى عابر سبيل , خرجن إليه من كل ناحية في أجمل صور , حتى إذا ذعر للمفاجاة , تحلّقن حوله في رقصات ذات إغراء وإثارة واجتذاب , وأجبرنه على الرقص بملء طاقته , طيلة الليل , حتى يرهق ويخر مغشيا عليه وتزهق روحه , وهكذا ينتقل إلى عالمهن في موكب تتزعمه ملكتهن المتوجة ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الإعلامي 

المصدر: المركز الإعلامي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 2490 مشاهدة

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,202,979