محمد سيد بركة

تعد ملحمة «الفردوس المفقود»، للشاعر الإنجليزي جون ميلتون، لا نظير لها في اللغة الإنجليزية. وتصنف درة فريدة في آداب العالم. إذ نشرت عام 1667، وتعالج موضوعا مشتركا بين الأديان السماوية، ألا وهو خلق سيدنا آدم وحواء، وعصيان إبليس ومن اتبعه من الشياطين، لله سبحانه وتعالى، ومن ثم طرده من الجنة.

ويصف فيها الشاعر ما يتخيله من حوارات عجيبة بين إبليس ورفاقه، وكيف دارت الحرب بينهم وبين الملائكة في السماء، حتى اندحر إبليس. وتتميز الملحمة بطولها وتنوع أساليبها ما بين السرد والخطب والحوار والوصف، كما تتميز بتعدد طرائق المعالجة، فتجمع ما بين خلق الكون في ستة أيام، وما حدث في السماء ما بين الملائكة والشياطين، وفقاً لما تصوره الشاعر واستلهمه من الكتب المقدسة.

القرن 17

كتب جون ميلتون الفردوس المفقود في نهاية سنوات الخمسينيات من القرن السابع عشر، وكان له من العمر حوالى خمسين سنة، وكانت عشر سنوات مضت عليه تقريبا، وهو يعيش أوضاعا مأسوية أفقدته على التوالي، بصره وزوجته المحبوبة وابنه الذكر الوحيد الذي كان أنجبه وسط ثلاث بنات.

قبل ذلك كان ميلتون يعيش حياة حافلة بالنجاح والازدهار. ومن المؤكد أن المآسي التي عاشها تباعا، جعلته يتوقف ذات لحظة ويتساءل كيف أصيب بهذا كله وهو المؤمن الورع؟ ولم يحر جوابا، لكنه إذ لاحظ لاحقاً قوته وقدرته على تحمل ما أصابه، أحس على رغم عماه، أن لديه من القوة ما يفسر قدرة الإنسان على بناء العالم والتاريخ على رغم ما أصابه وفقدانه الفردوس.

ويقيناً أن كتابته «الفردوس المفقود» بما فيها من قوة وجبروت، إنما كانت الرد على شكوكه لحظة في إنسانيته، والتعبير عن قدرة الإنسان الكبيرة. أو هذا ما فُسرت به الملحمة، على الأقل على ضوء ارتباطها بسيرة جون ميلتون.

يبلغ طول الملحمة 10565 سطرا وترجمها كاملة الدكتور محمد عناني ونشرها مشروع كلمة في أبوظبي. كما طبعتها الدار المــــصرية اللبنـــانية بإذن من مشروع كلمة. وصدرت منها طبعة فخـــمة بســـعر زهيد لم يتجاوز الدولارين في مشروع مكتبة الأسرة، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب .

الصراع بين الأبرار والأشرار

قسم ميلتون الملائكة إلى أبرار طائعين، وفسقة هم إبليس وأتباعه، بعد أن تمردوا على الخالق وبعد أن جرت هزيمتهم. وعقب أن خلق الله الجحيم والكون وألقى بهم فى البحيرة الملتهبة، لا حول لهم ولا قوة.

يفيق إبليس من إغمائه ويقوم بإفاقة أقرانه ويبث فيهم روح شجاعة جديدة لتحدٍ جديد. فتظهر شائعة كانت تتردد فى الجنة قبل سقوط الملائكة الفسقة، ومؤداها أن الله عز وجل يوشك أن يخلق نوعا جديدا من الكائنات ويقرر الشياطين أن أفضل سبيل لمواصلة الحرب ضد العلي القدير، محاولة إفساد هذا الكائن الجديد، فيلتقي إبليس بأبنائه (الخطيئة والموت) عند بوابة الجحيم.

تحذير

ويعود ميلتون فى الكتاب الرابع لجنة الفردوس بقاطنيها من بشر وحيوان ويصف دهشة إبليس لرؤية آدم وحواء وكمال صورتهما، والنعيم الذى يقيمان فيه وعقده العزم على إخراجهما منه. ويعلم أن آدم وحواء حرما ثمار شجرة واحدة فى الجنة. فيدخل الجنة متخفيًا ويوحي لحواء أثناء نومها بحلم شرير، ويكشف الملائكة الحراس ما صنعه إبليس فيطردونه من الجنة. وبهذا تفشل أول محاولة لإغواء حواء.

ويزور الملاك روفائيل آدم، محذرا إياه من معصية الخالق ومشددا على ذلك وكأنه التنبيه الأخير، ويقص عليه سبب سقوط ابليس واتباعه ونهايتهم المحتومة، ثم يستغل ميلتون الكتاب الخامس والسادس فى سرد أحداث من التاريخ القديم ، وهكذا فإن آدم يحدد المسار الجديد للملحمة فى الكتاب السابع بأن يتساءل: كيف خُلق الكون الذى يعيش فيه؟ ويقص روفائيل قصة الخلق وكيف تم فى ستة أيام...

أكاذيب

ويستأنف الحدث الرئيس فى الكتاب التاسع ويبلغ ذروته في هذا الكتاب وفي الكتاب العاشر. فتتغير ألحان الملحمة حيث يتخفى إبليس ثانية. ً ولكن هذه المرة فى صورة ثعبان، ويعاود الهجوم ويسعده الحظ بأن يجد حواء وحدها ويتوسل بالأكاذيب والتملق والإطراء حتى يقنعها بأن تذوق الثمرة المحرمة..

وعندما يأتي آدم يشاركها الطعام فيسقطان معا. أما الثمرة فإن مذاقها يسكر أول الأمر ثم يجعل الإنسان يصحو نادما يتجاذبه الشقاء والألم، وعلى إثر ذلك، يتشاجر آدم وحواء ويتبادلان التهم ويبدو فى الظاهر أن إبليس قد انتصر. ولكن الحدث لم يكتمل بعد.

مستقبل البشرية

يصدر الحكم على خطيئة آدم وحواء بتكبد المشاق التى تنتهى بالموت على الآرض، ولكنه أيضا يشفق عليهما ويجعلهما يخصفان على نفسيهما من ورق الجنة وهنا تبدأ آثار سقوط الإنسان إذ يتغير الجو وتتقاتل الحيوانات وتتعاون الخطيئة والموت فى بناء جسر عبر السماء، ييسر لهما الانتقال بين فوهة الجحيم وباب الجنة. ويعتصر الأسى آدم وهو يرى ما يحدث..

وهنا ترى حواء أن الخلاف مع آدم لا يطاق. وتود أن تتحمل وحدها مسؤولية ما حدث ويصدها آدم فى البداية ولكنه يستنزل رحمة الله من دون أن يدري. فيعترف بخطئه هو الآخر ويتصالحان وينتهي الكتاب العاشر بأن يطلبا العفو من الله عز وجل..

وبمجرد أن يبدي آدم وحواء ندمهما، يتحدد مسار الأحداث التالية، ولذلك يخصص ميلتون الكتابين الأخيرين لمستقبل البشرية. فالله سبحانه وتعالى، يقبل توبة آدم وحواء ويرسل إليهما ميكائيل، ذلك الملاك الأكبر، ليقدم إليهما رؤياه عن مسار تاريخ العالم. فيشاهدان عدة لوحات تصور الأحداث الرئيسة المذكورة فى سفر التكوين حتى عهد الطوفان. وهنا ينتهي الكتاب الحادى عشر.

الكتاب 12

أما الكتاب الثاني عشر والأخير، فإن ميكائيل يلخص فيه تاريخ البشرية بلغته الخاصة، ابتداء من الطوفان وحتى يوم القيامة.. وعن نزول المسيح وتجسده ورحيله من أجل خلاص البشر. فيسعد آدم بهذه الوعود ويطمئن قلبه، ويدرك طبيعة الأمور ويتقبلها فهو قد تعلم طاعة الله سبحانه وتعالى. وأصبح يدرك أن التواضع والخشوع أقوى فى نهاية المطاف من كبرياء إبليس.

ويتسلح آدم وحواء بهذا الإدراك ويستعدان للحياة به على ظهر الأرض عندما تأتي الملائكة فى نهاية الملحمة لطردهما من الفردوس. و انتهت الملحمة بقوله : لقد كان هذا العالم كله امامهم حيث اختاروا مكان اقامتهم وطريق رشدهم. وتعاونا بخطى بطيئة لكنها سديدة، ومن جنة عدن اخذوا طريقهم الماسي.

العبقري الضرير

يعد جون ميلتون من أعظم الشعراء الملحميين في الأدب الإنجليزي، وعاش في القرن السابع عشر، عصر العلم والتطورات السياسية الهائلة التي أثرت فيه، وكتب الكثير من الأشعار الطويلة والقصيرة.

وميلتون الذي لُقب لاحقا بالشاعر الضرير، ولد فى التاسع من ديسمبر سنة 1608 فى لندن. انقطع للدراسة بعض الوقت حينما عاش مع والده فى قرية صغيرة بالريف الانجليزي، ووضع لنفسه خطة عمل ودرس تتضمن تاريخ العالم منذ البداية، اعتمادا على ما كتبه الثقات فى هذا الموضوع.

1638

كتب ميلتون قصيدة الليجرو وقصيدة المفكر ومسرحية كوموس وقصيدة رثاء لصديقه إدوارد كنج وهي قصيدة ليسيداس، وبعدها وافق والده على إرساله فى رحلة إلى إيطاليا مارا بفرنسا وكان ذلك عام 1638م. وفي فرنسا قابل هوغو جرونتيوس أحد كبار رجال القانون. وتناقش معه في أصول تطوير القانون الدولي، لكن الأمور لم تكن تسير على ما يرام فى فرنسا. فتركها إلى إيطاليا.

وهناك زار أهم مدن عصر النهضة ومنها فلورنسا، حيث قابل غاليليو الذي كان قد فقد بصره وتحددت إقامته، كما التقى برجال الجامعة وأهل العلم والأدب . ثم اتجه إلى نابولي ومنها إلى روما، فلورنسا ، البندقية ، فيرونا ثم فى النهاية وصل إلى ميلانو والتي سمع فيها عن نشوب الحرب بين انجلترا واسكتلندا لمحاولة الملك شارل الأول فرض النظام الأسقفي الأنجليكانى على الكنيسة الاسكتلندية.

1641

كان أول كتب ميلتون بعنوان سبب حكم الكنيسة، وهكذا ساهم ملتون فى هذه المعركة الفكرية التى تحولت فيما بعد إلى معارك حربية طاحنة، تشكلت فيها جيوش للبرلمان وجيوش ملكية ودارت رحاها على مدى سنوات طويلة . ثم تزوج ملتون من فتاة تدعى ماري باول، والتي كانت أسرتها تناصر الملكية. لذا لم تدم حياتهما فى البداية معا إلا شهرا واحدا، أخذ بعدها الدفاع عن مبدأ الطلاق..

وهو ما فتح عليه أبوابا من الجحيم لم تسد إلا لعلاقته الجيدة بالبرلمان. وكان ملتون يشعر بسعادة غامرة لأمله فى حياة ملؤها الحرية والخير والعدل نتيجة للحرب التى قامت بين الملك والبرلمان، وأعرب عن أمله هذا فى كتاب له أصدره عام 1641م بعنوان «الإصلاح الديني ونظام الكنيسة» في بريطانيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المركز الإعلامي 

المصدر: المركز الإعلامي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 679 مشاهدة
نشرت فى 17 فبراير 2015 بواسطة egyptartsacademy

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,870,502