م

مع بث مسلسل (سجن النسا) خلال شهر رمضان تجدد الانتباه لموهبة السيناريست الشابة "مريم نعوم" ، بعد أن لفتت الانتباه بقوة العام الماضى بكتابتها لسيناريو مسلسلى (موجة حارة) عن رواية (منخفض الهند الموسمى) ل "أسامة أنور عكاشة" و(بنت اسمها ذات) عن رواية (ذات) ل "صنع الله إبراهيم" ، ومع هذا المسلسل الأخير أكدت "نعوم" موهبتها جنبا إلى جنب امتلاكها حرفة كتابة السيناريو ، وتبلور رؤية للحياة ، لا يستقيم الإبداع بدونها .

بدأت "نعوم" مشوارها الدرامى بالمشاركة فى ورشة كتابة أشرفت عليها الكاتبة "عزة شلبى" وأنتجت مسلسل (كلام نسوان) 2009 للمخرج "عمر عبد العزيز" ، ثم كتبت بمفردها أول أفلامها وهو (واحد/ صفر) وعرض فى نفس عام بث المسلسل من إخراج "كاملة أبو ذكرى" ، وشاركت فى كتابة  مسلسل (بالشمع الأحمر) 2010 للمخرج "سمير سيف" ، كما كتبت سيناريو  (موجة حارة) وكتب الحوار له "وائل حمدى" و"نادين شمس" و"إسلام أدهم" و"هالة الزغندى" ، وقد ظهر اسم "الزغندى" على تترات مسلسل (سجن النسا) كمشاركة فى كتابته ، وأن كنت أميل لأن تكون مسئوليتها كتابة الحوار أساسا ، فالتجارب المشار إليها تؤكد على أن قدرة "نعوم" تكمن فى صياغة البناء الهندسى الكلى لسيناريو المسلسل بصورة شبه محكمة .

اهتمت "نعوم" فى (كلام نسوان) بتقديم هموم شريحة من النساء باحثات عن الحرية الاجتماعية المطلقة دون قيود ، حيث يدور حول أربعة نساء عربيات : لبنانية وخليجية ومصريتان ، كل واحدة منهن لها مشكلة مع تقاليد مجتمعها العائلى ، مما يدفعهن للفرار من دوائرهن الصغيرة ، للالتقاء فى مجمع سكنى مغلق على ناسه فى المدن الجديدة ، يعشن داخله حياة مرفهة جدا . وأن أنشغل المسلسل أكثر بتمزق نسوته ، أكثر ما أهتم برصد الدور المجتمعى فى هذا التمزق ، فبدت نسوته مارقات يدينهن المشاهد بسهولة ، بدلا من أن يكن ضحايا يتعاطف معهن ، ويقف إلى جوارهن فى مواجهة التيارات المناوئة للحرية .

التقطت "نعوم" رواية "أسامة أنور عكاشة" (موجة حارة) شديدة الجراءة ، لتحولها  إلى مسلسل درامى ينطلق من حادثة عثور الشرطة على شابة مقتولة والبحث عن قاتلها ، واستغلال هذا البناء البوليسي للكشف عن فساد شريحة توجد داخل مجتمع مزقته العقود الأربع الأخيرة ، وذلك بارتدادات زمنية تصل لأوائل سبعينيات القرن الماضى ، مع تغيرات تدفع بزمن الحادثة لعام 2010 ، لتمثل هذه الشريحة فساد عصر بنظامه سيسقط بعد أشهر قليلة من نهاية حادثة المسلسل بثورة شعبية ، يعيش المتلقى تطوراتها وتغيراتها ، فيتلقى وقائع المسلسل باعتبارها (حدثت قبل الثورة) ، آملا فى أن يأتى بعدها ما ينهى عليها .

ذات الهمة

لم تنفرد "نعوم" بكتابة كل حلقات مسلسل (ذات) ، فقد قامت وحدها بكتابة سيناريو وحوار الحلقات الثماني عشرة الأولى ، وأخرجتها قامت "كاملة أبو ذكرى" ، ثم شاركت "نجلاء الحدينى" بداية من الحلقة التاسعة عشر فى كتابة السيناريو والحوار ، وقام "خيرى بشارة" بداية من الحلقة 19 بإخراج المسلسل حتى نهايته ، فيما عدا الحلقة 23 التى عادت لكتابتها وأخرجتها "أبو ذكرى" ، واللتان أحكمتا رؤيتهما على المسلسل بأكمله ، مهتمات بالتفاصيل الدقيقة لعينة من أبناء الطبقة المتوسطة وتقلبات الحياة التى عاشتها خلال ستون عاما ، مجرد عينة لا تمثل كل شرائح هذه الطبقة وتوجهاتها المختلفة ، فالدراما لا تملك  القدرة على تقديم كل الواقع أو التعبير عن طبقة متكاملة ، والعمل الفنى فى النهاية هو تعبير عن رؤية صناعه لهذا المجتمع أو هذه الطبقة .

تولد (ذات) فى المسلسل ليلة ثورة يوليو 52 ، معبرة عن نفسها بمونولوجات ستصير لغتها المتعاملة بها مع مجتمعها ، مع قبول مستمر لكل ما يفرض عليها ، اختار لها والدها النصف الأول من اسم الشخصية العربية (ذات الهمة) ، تيمنا وفرحة بقيام الثورة  التى ترك لها (الهمة) ، وبالسير المتوازى بين الذات / الأنثى والهمة / الثورة تتجلى مسيرة ذات شريحة مجتمعية ، ولا تمثل الوطن الذى يتصور البعض أنها ذاته ، فهو أشمل منها ، فولادتها يوم الثورة لا يعنى أنها ابنتها البارة ، فهى لن تدرك الواقع المحيط بها إلا فى نهاية الستينيات ، وستخضع مع ما تلي من عقود لأفكار متخلفة هيمنت على المجتمع ، دون أن تمتلك وعيا صحيحا يجعلها تتمرد على تلك الأفكار المكبلة لعقلها والمقيدة لجسدها .

سجن النسا

واجهت "ناعوم" فى صياغتها ل (سجن النسا) مشكلة لم تتعرض لها من قبل ، حيث تعتمد على مادة مسرحية محدودة الشخصيات والمواقف الدرامية وليست روائية متعددة الشخصيات والحكايات ، مما تطلب منها خلق شخصيات وحكايات خاصة بها تمتد لثلاثين حلقة ، حيث تقوم المسرحية على حدث محدد ، يتفجر بدخول صحفية ثورية سجن النسا ، أطاح بها المسلسل تماما ، وما يترتب على هذا الحضور من الخارج إلى الداخل من عرض لنماذج من نسوة ظَلمن المجتمع وظُلمن منه ، ولذا تدور جل وقائع المسرحية داخل السجن الذى يتحول لفضاء مغلق على من فيه ، يضغط عليهن ، ويفجر ما بأعماقهن من مآس اجتماعية ، فيتحولن لبطولة جماعية تنشد بصوت كورالي أنشودة فقدان الحرية ، بينما فضلت كاتبة السيناريو أن يدور مسلسلها فى مجمله على شخصية رئيسية ، هى شخصية "غالية" الفتاة البريئة التى دفعتها ظروف حياتها للعمل سجانة ، وحولتها طيبتها ووعيها الزائف لسجينة متهمة بالقتل ، واضعة صوتها الفردى فى المقدمة ، وداعمة هذا الصوت (السولو) بأصوات فى الخلفية لشخصيتين هما العاهرة "دلال" والخادمة الريفية حارقة مخدومتها "رضا" تستكمل معها أغنيتها الحزينة .

لم يبتعد هذا التحويل لبنية مسرحية "العسال" فحسب ، بل أضاف الواقع المجتمعى الراهن ، والرغبة فى نقل صورة مشابهة للحقيقة عن سجن النساء اليوم ، أضافا بعدا آخر أبعد المسلسل عن المسرحية ، حيث سعت كاتبة السيناريو مع المخرجة للتردد على سجن النساء الفعلى بالقناطر الخيرية ، والتعرف على أحوال النساء هناك ، ومحاولة تقديم نماذج قريبة منهن ، وهو ما أدى إلى تغير كلى فى بناء الشخصيات الدرامية ، وفى حملها لأسماء مغايرة تماما لما حملته شخصيات المسرحية ، وأنشغل المسلسل بمتابعة تفاصيل عالم السجن الداخلى ، وحياة بطلته الرئيسية بصورة أساسية ، وشخصيتيه الفرعيتين ، بتماس غير معمق بين البطلة والعاهرة ، ودون أى تماس مع الخادمة الريفية ، والتى من الممكن حذف دورها كاملا دون أن يهتز بناء المسلسل دراميا ، وأن قلت عدد حلقاته فقط .

تعد "مريم نعوم" واحدة من النجوم الزاهرة الواعدة فى سماء الكتابة الدرامية اليوم ، تهتم بتفاصيل الحياة الدقيقة ، وتغوص فى أعماق فتيات عادة من جيلها ، وتميل لمعالجة الأعمال الأدبية الرصينة ، وتسرى الميلودراما فى كتاباتها ، حيث يذبح الأبرياء فى المجتمع بإيدى باطشة  ، وتشكل مع زملائها الشباب تيارا جديدا وجريئا فى مجرى الدراما التليفزيونية ، نرى أنه يلعب حاليا دوره فى تجديد دماء الدراما المصرية ودفعها لمزيد من التغيير الجمالى والاقتراب أكثر من قضايا المجتمع برؤية واعية .

 

 

المصدر: المركز الإعلامي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1200 مشاهدة

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,204,494