فرقة رمسيس ..ومسيرة فنان مغامر

 

ما المسرح ألا دنيا كبيرة

 

 

 

       د. حسن عطية

 

منولوجست ساخر فى البداية ثم ممثل تراجيدى وكوميدى ومخرج مسرحى وسينمائى ومؤلف ومعد ومنتج وصاحب دار عرض ، سبعة صنائع لديه دون أن يضيع منه البخت ، وأن حالفه الحظ احيانا ، وخالفه أحيانا أخري ، أنه صاحب المقولة الشهيرة ، المقتبسة عن شكسبير ، "ما الدنيا ألا مسرح كبير" ، يمثل فيها كل إنسان دوره المطلوب منه ، وفق خطوات محسوبة له وعليه ، غير أننا ما تأملنا حياة هذا المسرحى الكبير "يوسف (بك) وهبى" (1898-1982) ، فسوف نجد أن قولته هذه يمكن عكسها دوم تجاوز لتكون "ما المسرح ألا دنيا كبيرة" ، تزخر بصراع الإرادات ، وتمتلئ بالطموحات ، وتتنوع فيها المصائر بين الكوميديا والتراجيديا ، وحياة "وهبى" نفسه مليئة بكل هذه الصراعات والطموحات وتغير المصائر .

 

كان الوطن تدخل مع بداية عام 1923 يدخل مرحلة جديدة من الاستقلال الصورى عن الاحتلال الإنجليزى ، ويحصل على دستورا وبنية سياسية جديدة ، ويبحث عن هويته المصرية المتجذرة فى أرض الفراعنة ، والداعمة لدعوة "مصر للمصريين" السياسية ، واتجاهات التمصير الفعلية للحياة الاقتصادية فى البلاد ، ولذلك لم يكن غريبا أذن أن تظهر فى هذا العام فرقة "يوسف وهبى" ، ولم يكن بالمستغرب أن يمنحها صاحبها اسم (رمسيس) ، وهو ذات الاسم الذى انتحله لنفسه حينما عاش فترة من الزمن فى إيطاليا أواخر العقد الثانى من القرن العشرين ، حينما سافر إليها وهو فى العشرين من عمره ، ليدرس هندسة الكهرباء ، وليلتحق ب"كونسيرفاتواريو دراماتيكو ميلا نيزى"  بميلانو بإيطاليا ، تدعيما لهوايته المسرحية ، التى مارسها مع (جمعية أنصار التمثيل)  قبيل سفره ، ثم عمل بالمسرح والسينما الإيطالية ، واتخذ لنفسه هناك اسم الملك المنتصر "رمسيس" أملا فى انتصارات شبيهة بانتصاراته ولو فى حقل المسرح .

 

الدار والفرقة

 

عقب عودة "يوسف وهبى" من رحلته الإيطالية ، بسبب وفاة أبيه ، وجد مسرح "كشكش بك" الريحانى يسيطر مع غنائيات "الست منيرة" على عقل ووجدان الجماهير ، وبحث عن "جورج  ابيض" فوجده  قد غادر البلاد الى بيروت  كمدا ، والتقى "عزيز عيد" وهو يطوف الشوارع حزينا على ما آل إليه فن المسرح الجاد فى مصر ، فقد كان الرجل يؤمن بوظيفة المسرح الاجتماعية والجمالية ، فعاد "يوسف وهبى" مرة أخرى الى إيطاليا ،  حاملا معه  "عزيز عيد" ، وفى أحد مقاهى ميلانو ،  قابلا الشاعر الكبير "احمد شوقى" ، الذى ناقش معهما حال المسرح والثقافة فى مصر ، وأقنع "وهبى" بضرورة العودة الى القاهرة وإنشاء فرقة مسرحية جادة تجمع كل نجوم الدراما الجادين والذين لا يعملون ، وتعمل على نشر الفن التمثيلى والمسرح الراقى بين الناس.

 

 

وبالفعل عاد "وهبى" الى القاهرة يحدوه الأمل فى تأسيس فرقة مسرحية تخاطب الجماهير بلغة تعرفها ، وتطرح عليها موضوعات من واقع حياتها ، وتلتقى مع حسها الخاص وآليات تعاملها مع فنون الفرجة الجماهيرية وفن المسرح الجديد بنمطه الغربي ، وقد تطلب ذلك بالضرورة السعى فى طريقين رئيسيين : أولهما البحث عن أعضاء للفرقة من بين ممثلى البلاد ، وثانيهما البحث عن مقر للفرقة ودار لعروضها المسرحية ، وكان على "يوسف وهبى" التوجه بالحتم الى صديقه "عزيز عيد" خبير الحياة المسرحية فى البلاد ، فأرسل إليه بباريس للعودة والعمل معه مديرا فنيا ومخرجا رئيسيا بالفرقة ، واختار الممثل ومعد المناظر المسرحية "ادمون تويما" مستشارا فنيا ، وتعاقد مع الفنانين الذى اقترح أسمائهم "عزيز عيد" مثل  "روز اليوسف" و"زينب صدقى" و"فاطمة رشدى" و"فردوس حسن" و"حسين رياض" و"احمد علام" ، ثم "مختار عثمان" و"حسن فائق" و"استفان روستى"  و"فتوح نشاطى" و"عزيزة أمير" و"حسن البارودى" و"روحية خالد" و"أمينة رزق" وغيرهم0   

 

أما الدار المسرحية فحينما عاد الى القاهرة لم يجد سوى مسرحى : (الازبكية) وكانت تشغله فرقة عكاشة وتقدم أعمالا لتوفيق الحكيم وعباس علام ويونس القاضى وتحتضن إلحان الشيخ زكريا احمد وداود حسنى ، أما المسرح الآخر؛ مسرح (دار التمثيل العربى) فقد كانت تقدم عليه فرقة "منيرة المهدية" الغنائية أعمالها ،  لذا قام "يوسف وهبى" باستئجار دار سينما (راديوم) من مالكها ومالك العمارة المجاورة لها وقام بتحويل دار السينما الى مسرح  ثم  ألحق به فيما بعد حجرتين كبيرتين من العمارة بواسطة كوبرى لتكونا صالة للتدخين 0

 

التقاليد المسرحية

 

فى تمام  الساعة الثامنة والدقيقة 45 من مساء يوم الاثنين العاشر من مارس عام 1923  افتتحت الفرقة الوليدة عرضها الأول بالدقات الثلاث وبمسرحية (المجنون) التى اقتبسها "يوسف وهبى" عن نص أوربى غير معروف ، واشترى من ميلانو وروما الملابس والأثاث والإكسسوار وكشافات وعاكسات الإضاءة ، وقد شارك اوركسترا المايسترو "شترن" بالموسيقية التعبيرية والتصويرية العرض المسرحى والذى ضبط لأول مرة فى مصر على نوتة سواء بالكلمات أو السكتات ، وانتهج نهج مصاحبة الموسيقى للفيلم السينمائى فى مرحلته الصامتة وقتذاك لمنح الصورة المعروضة أجوائها التعبيرية ، وبهذا العرض وبدقاته الثلاث وضع "يوسف وهبى" أسس مسرح "رمسيس" وتقاليد المشاهدة المسرحية 0

 

   رأى "يوسف وهبى" أن المسرح محراب مقدس لابد من توقيره ، فقنن له بمعاونة "عزيز عيد"  قواعد  احترام مواعيد فتح الستار والعناية بإطار العرض المسرحى وإضاءته ومناظره وحسن اختيار الديكورات والإكسسوارات له التى كان يعمل مع طاقم إنتاجه على اختيارها بدقة من كتالوجات المسرحيات الغربية والسعى لإحضارها من أوربا ، مع استخدام فرقة موسيقية لعزف القطع الموسيقية المناسبة لكل عرض قبل رفع الستار عنه ، تهيئة للمشاهد للولوج نفسيا الى عالم المسرحية ، فضلا عن اهتمام صارم بالبروفات وإعداد العمل فنيا ، مع إيمان كامل بالنص الدرامى وتقديس لحوار الكاتب ، وتنفيذ دقيق لتعاليم المخرج0

 

     هذا الى جانب الولوع بالدعاية للفرقة وعروضها ، سواء بالصحف والمجلات ، وملصقات الشوارع ، الى جانب عرض صور الممثلين بالفانوس السحرى فى مدخل صالة المسرح ،  كما اهتم بالمسرح ذاته كمكان لابد وأن يكون نظيفا وأنيقا احتراما له ولمرتاديه ، فضلا عن ضرورة المحافظة عليه كمسرح يتألق بالفن الراقى ، لا منتزه تدخله المأكولات والمشروبات والمسليات ، أو مقهى أو حانة يتبادل فيه المشاهد النكات مع ممثلى العرض ، كما طبق لأول مرة نظام الابونيهات السنوية لمشاهدة عروض الفرقة المسرحية فاقبل عليها الجمهور الى درجة إن مقاصير الفوتيلات كانت يطلق عليها اسم أصحابها ، وأعدت بالمسرح قاعتين كبيرتين إحدهما للنساء والأخرى للرجال وغطيت الصالة بالابسطة السميكة ، وحلت الفوتيهات المريحة محل المقاعد ، ووضعت الثريات المشتراة من مزادات قصور روما بسقف المسرح ومقاصيره ، وغطت الجدران بقماش الجبلان الأصيل والمرايا ذات البراويز المذهبة الأثرية المستجلبة من قصر البرنس "ديجاردا" شخصيا .

 

لجنة خاصة للترجمة

 

  رأى "يوسف وهبى"  أن الحياة فى مصر هى مأساة دامية لابد من مواجهتها بالعنف ، وان المسرح هو صورة متعاظمة للحياة التى ما هى سوى "مسرح كبير" ، مما يتطلب من المسرح أن سيكون صانع للآلهة المبشرة بالرسالات الأخلاقية ، وميدان للفخامة والجزالة التى تهز الحياة اليومية هزا وتطربه بإيقاعاتها الموسيقية الداخلية ، وهو ساحة لإصلاح العالم الإنسانى الأكبر بالعنف الفنى دفعا لجمهوره المتلقى للتطهر بالنار ، على غرار مسرح القسوة للفقرنسى "انطونا أرتو" ، لذلك أسس "وهبى" تصوره المسرحى من مادة المسرح (الطبيعى) وعالم الإكسندر دوما الابن وادمون روستا ، وصاغه وفق بنية (الميلودراما) وعروض (البوليفار) الفرنسى ، فكانت الأطعمة والمشروبات التى تقدم فى العرض المسرحى حقيقية ، والصوانى من فضة لتحقيق طبيعة الحدث وإشعار الممثل بمادية الأشياء التى يستخدمها ، مع التأكيد على وجود الحائط الرابع ، وإلغاء الجمهور أو توهم عدم وجوده من أساسه 0 

 

        أهتم مسرح "رمسيس" بالنص المسرحى ، وشكل له لجنة ترجمة خاصة ، تنقل له الأعمال الدرامية الأوربية الى العربية ، ويعيد هو كتابتها وإعدادها للعرض وفقا لمنظوره لجمهوره ووظيفة المسرح فى مجتمعه ، وأهتم كمدرسة فنية فى مجال التمثيل بالممثل وقدرته الادائية فى الفضاء المسرحى ، فانصب اهتمامه على السكتات والتعبير العميق بنظرات الأعين ولفتات الجسد وإيماءات الأيدى ،  ولحظات الصمت والمحافظة على البناء النفسى للشخصية الدرامية طوال العرض ، مع المحافظة على الأجواء التى تظهر فيها ، مستفيدا فى ذلك بما شاهده وخبره من عروض مسرحية فى أوروبا ، آخذا عن المسرح الإيطالى حرارته مع تحاشى كثرة إشاراته 0 وعن المسرح الفرنسى جمال الإلقاء  مع تحاشى التنغيم ، وعن الإنجليزى قلة الإشارة ودراسة الشخصية مع استغلال تعبير الوجه أكثر من الايدى0

 

راحت الفرقة تقدم عرضا جديدا كل أسبوع ، وأن جاء معظمه مترجم عن نصوص أوربية ، فرنسية وإيطالية ، ذات أجواء تاريخية وعصرية  ، خاصة عن أعمال لموليير و ادمون روستا وبرنشتين وساباتينى وباركر ، الى جانب شكسبير وابسن وغيرهما ، ألا أن الفرقة بدأت  تهتم أيضا بالمؤلف المصرى والعربى مثل : انطون يزبك صاحب درة الفرقة الجماهيرية (الذبائح) ، وأمين صدقى  ومسرحيته المؤلفة تحت إشراف "عزيز عيد" (القرية الحمراء) ، وداود عونى مؤلف (الجحيم) ، ومحمود كامل كاتب نصى (الوحوش) و(المنتقم) 0

 

إعادة تأسيس دائمة

 

       استمرت فرقة "رمسيس" فى مسيرتها الفنية لمدة 21 عاما (23-1944) ، قدمت خلالها ثلاث عشرة موسما مسرحيا كاملا ،  تعتريها بين الحين والآخر العقبات ، وتعانى من عثرات الحياة ، طوال عقدى العشرينيات والثلاثينيات  والنصف الأول من الأربعينيات ، الى أن انحلت تماما على إثر إعلان إفلاس صاحبها ، فانضم أعضاؤها الى "الفرقة المصرية للتمثيل" ، فى مايو 1944 ، وان حاول "يوسف وهبى" إعادة تكوينها اكثر من مرة ، فى أعوام 47 و 57 و 60 و69 و70 ، مقدما فى كل إعادة تكوين موسما قصيرا من ربرتوار الفرقة ، فضلا عن توليفة عرض من مشاهد ميلودرامية مختارة من أهم عروض الفرقة وأكثرها جماهيرية ، ومقدمة باسم (الاستعراض العظيم) ، وقدم لأول مرة عام 1957 0

 

   وطوال تاريخها الطويل هذا قدمت ما يقرب من ثلاثمائة مسرحية ، غير محصاة بشكل دقيق حتى الآن ، ترتكز فى مجملها على الإعداد والاقتباس ، فقد قدمت الفرقة فى موسمها الأول الى جانب مسرحية الافتتاح (المجنون) مسرحية (غادة الكاميليا) لالكسندردوما الابن  والتى قامت ببطولتها مع  "يوسف وهبى" الممثلة المعروفة "روزا اليوسف" ، ونقلت مناظرها من تصميمات أوبرا لا ترافياتا ، كما كانت الفرقة الموسيقية تعزف فى بداية العرض افتتاحية الأوبرا الشهيرة ، هذا الى جانب مسرحيات : :(لوكاندة الأنس) لجورج فيدو ، (الأنانى) لإبراهيم المصرى ، (الشرف) للألمانى "سودرمان" ، (الدم) ليوسف وهبى ، (المستر فو) لرافائيل سباتينى ، وفى الموسم الثانى قدمت الفرقة القنبلة الكبيرة "راسبوتين" عن نص ليوسف وهبى ، والذى اصبح من كلاسيكيات الفرقة ، كما قدمت الفرقة مسرحية "ديفيد كوبرفيلد" لتشارلز ديكنز باسم (الذهب) ، ومسرحية لهنرى برنشتين سميت (الجبار) ، وراحت بعد ذلك تجرب حظها مع مسرح (الجرانجنيول) أو مسرح الرعب ، فقدمت مسرحيات من فصل واحد مثل : (طاحونة مقاريا) و(صرخة الألم) و (إكسير الحب) ثم (انتقام المهراجا) عن التباين فى الجنس واللون  بين مهراجا هندى وزوجته الإنجليزية 0

 

 فى الموسم الثالث 24/1925 ، وبعد أن انضم "جورج ابيض" الى الفرقة ومعه زوجته "دولت ابيض" أواخر 1923 ، إلا انهما سرعان ما انفصلا عن الفرقة بعد عام واحد فقط ، وقدمت فرقة "رمسيس" من ربرتوار "جورج أبيض" مسرحيتيه "لويس الحادى عشر" و"عطيل" ، الى جانب " الأب ليبونار" و"الجريمة والعقاب" و"كليوباترة" و"سيرانو دى برجراك" ، ولكن بأسلوب "يوسف وهبى" ، أى دون جلال التراجيديا وإنما بواقعية الميلودراما 0 ثم انضم "جورج ابيض" وزوجته مرة أخرى الى فرقة "رمسيس" أواخر عام 1927 ،  لكنهما انفصلا عنها بعد فترة قصيرة ، كما اختلف "يوسف وهبى" مع "عزيز عيد" فى إخراج مسرحية (كرسى الاعتراف) ، فترك الأخير الفرقة ، عقب شجار مفتعل بين الممثلة "زينب صدقى" وزوجة "عزيز عيد" الممثلة "فاطمة رشدى" ، وتولى "وهبى" الإخراج ، وكون "عيد" فرقة خاصة به مع زوجته المستقيلة ، وبدأت المشاكل تزحف على فرقة "رمسيس" ، وكادت تعلن إفلاسها ، لولا وقوف السيدة الثرية "عائشة (هانم) فهمى" الى جوارها ، فتم إنقاذها ، وتزوجت "يوسف وهبى" فيما بعد ، وبفضلها استطاع "وهبى" أن يبنى "مدينة رمسيس" (ومكانها الان مسرح البالون) عام  1933 وكانت تضم أستوديو للسينما ومحطة إذاعة وملاهى متنوعة ، وأول دار عرض مسرحى فى الهواء الطلق ، كانت فرقة "رمسيس" تقدم عروضها صيفا على منصتها ، بينما تقدم عروضها فى الموسم الشتوى على مسرحها الرئيسى بعماد الدين 0

 

هى بالفعل مسيرة غنية بالإنجازات ، غنية بالصعاب ، غنية بالأفكار المتناقضة ، حملت على ظهرها بصمات زمن ومجتمع وفنان فرد ، وصاغت فى تاريخ المسرح العربى فى مصر مرحلة تأسيسية لا يمكن إنكار دورها التأثيرى على مجمل الإبداع المسرحى بأكمله ، نراها فى زمنها مؤثرة ، ونراها من زماننا تاريخا علينا أن نستكمل خطواته للأمام .

 

 

 

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,892,548