<!--
مؤخراً ودّعنا سعيد صالح الذي أضحك العرب دون أن تُضحكه الحياة، وبعده مباشرة نودِّع كوميدياً آخر في مأثم ينبئ بموت الملهاة!. روبن ويليامز (1951 - 11 أغسطس/آب 2014) قلب الأب، أضحك القلوب قبل الأفواه، وما كان لوجهه قناع، ولم يحجب ملامح الهدوء والرضى، لكن ابتسامة المُطمئِن كانت مضللة.
برحيله هكذا؛ ترك حُزناً كان مختبئاً في أفلامه. قال كلمة في وجوده الشخصي بعد كلام كثير تركه في وجودنا.. وبرحيله هكذا؛ جعلنا نضع سطوراً يلهمنا إياها الموت نفسه: ففي قلب كل بهلوان حقيقي ثمة حزن خامد.
كان اسمه السيد ساي باريش في فيلم «ONE HOUR PHOTO» عام 2002 ، حيث يضيع ساي بين نيغاتيف صورٍ أدمن انتحاله من ذاكرة الآخرين، كانت هذه جريمته السريّة في الحفاظ على ابتسامات لم تعد موجودة بالنسبة له، فتحوّل إلى سارق صور عائلة من زبائن مختبره الفوتوغرافي، كان يفعل ذلك ليبتسم لصور العائلة السعيدة في خلوته كأنه الأب، إلى أن آلت الأمور إلى انكشافه الفُصامي في خضم وحدته. لكن الفيلم ينتهي بابتسامة ساي باريش، بل بابتسامة غير مُلتبسة للصورة نفسها، وهي نهاية تأويلية استمرّت فيها حياة البطل على كل حال.
وحياة حقيقية انتهت برمي ويليامز كل شيء خلفه، كل النهايات الممكنة لبطولاته تعطّلت عن التأويل. توقف ارتجاله ولم يكن أحد بالجوار يذكره بجملة مفصلية واستدراكية من السيناريو، مشهد واحد لم يكن بالوسع إضافته. انتهى نص ويليامز هنا دون أن تتوافر كلمة!.
كان أيضـاً المُعلِّم المُلـهم، أستــاذاً للـــغة الإنجليـزية اسـمـه جـــون كـيتيـنغ في «DEAD POETS SOCIETY» عام (1989)، يسافر بطلابه وسط الكلمات والأشعار ويعلمهم حياة طليعية تغتنم من طاقة الحياة نفسها، ويوصيهم بالتنقيب عنها في تجارب الأيام وفي أعماق الأدب.. كان درس جون كيتينغ؛ امتلاك الإرادة في القول وتغيير ما يُقالأفلام ويليامز العديدة التي توجته كوميدياً بارعاً في دغدغة الأفكار والإضحاك الثقافي وسط غابة هوليوود الكثيفة، وكذلك برع في تمثيل هواجس الحياة، يبدو أنها أفلام، وعلى عكس ما نعتقد في الغالب، لم تكن السؤال المهم في فلسفة السينما وهموم الحياة، ولعلها طريقة هادن بها أسئلة أقسى من الحياة نفسها، كان في طريقه، ومن فيلم إلى آخر، حتى تعب من ذلك، يفكر في جملة لم يرددها من قبل علانية، كان يكتمها ويظهر في العلن نقيضها، النقيض الذي تركه له ألبير كامو في هذه الحالة، فوضعنا الاثنان في مشكلة لم يجد لها العقل حلاً بعد، وآخرون كثر هكذا يذهبون، فيكون حزن الناس على الميت حزناً على أنفسهم، لأنهم يشعرون بخذلان الهارب منهم ومن الحياة. هكذا طبّق ويليامز مقولة ألبير كامو: «الانتحار هو المشكلة الفلسفية الوحيدة»، بعدما لم تلح له في الأفق منارة تضيء مساحات من اليابسة يكمل مهادنة مشاكلها بحسه الكوميدي المعتاد. في السينما وجد ويليامز حلولاً كثيرة لقضايا الحياة، أو تركها مشرعة على الفهم النسبي والحلم المستمر، في حياته لم يتقمص شخصياته المتباينة، ولم يكن متاحاً انتقاء خليط منها في قناع حربائي يجعل الحياة تستمر أو تنتهي من تلقاء نفسها.
هكذا رحل صاحب حنجرة «POPEYE» عام (1980) وبطل «GOOD MORNING VIETMAN» (غولدن غلوب - 1988) و«GOOD WILL HUNTING» (أوسكار - 1998) و«MRS. DOUBTFIRE» (غولدن غلوب - 1993)... وصاحب أصوات العديد من أفلام الإنمي الشهيرة منها: «ALADDIN AND THE KING OF THIEVES» عام (1996) الذي أخرجه ستيفن سبيلبرج.
سبيلبرج كان قد أخرج فيلمه «HOOK» عام (1991)، وأسند فيه دور بطله «بيتر بان» إلى ويليامز، وأخيراً صرح سبيلبرج بعد سماعه نبأ رحيل صديقه: «عبقرية روبن الكوميدية كانت بمثابة عاصفة صاعقة، وكان ضحكنا هو الرعد الذي كان يبقيه مستمراً.. لا استطيع تخيل أنه رحل». وفي تغريدة كتب الساخر جيمي كيمل: «روبن كان إنساناً لطيفاً بقدر ما كان كوميدياً. إذا كنت تشعر بالحزن من فضلك أبلغ شخصاً ما بذلك».
اختلط كل شيء وتوقف حس الفكاهة. كان ميكانيكي السيارات تشاك بولانيك (1962) محقاً في كلامه بعدما لاعبَ الحياة ثلاث مرات بتبديل مهنته إلى صحافي، ثم إلى متطوع في دار عجزة، وبعد موت أحد المرضى أصبح روائياً، فكتب «من ينوي الانتحار لن يبقى له حس فكاهي». هل كان على ويليامز في فترة ما، تغيير مهنته ومن ثَمّ تفادي الحافة؟ لم يحصل ذلك، وسنبقى نرى مهنه العديدة في حياته السينمائية الباقية.
المصدر / مجلة الدوحة ـ سبتمبر 2014
ساحة النقاش