بجسد نحيل ووجه طفولي وعقل متقد قفز الفتى " محمد جابر محمد عبد الله" معتليا منصة مسرح مدرسة بنبا قادن الإعدادية بشارع الخضيرى بحى السيدة زينب ، منفلتا من خجله وانطوائه على ذاته ، مستعرضا أمام فريق التمثيل موهبته وقدرته على تمثيل كافة الأدوار ، ومجسدا للشخصيات التى قدمها نجوم خمسينيات القرن الماضى : "أحمد مظهر" و"شكرى سرحان" و"عماد حمدى" ، جنبا إلى جنب "مارلون براندى" و"جريجورى بيك" وفتى قريب الشبه منه "جيمس دين" ، والذين كان يرى أفلامهم تعرض بدور سينما (الشرق) بميدان السيدة ، و(الأهلى) و(إيزيس) المقابلة لها بشارع قدرى والتى كانت تعرض الأفلام الأجنبية ، وتم هدم الأخيرتين حاليا ، وتبهره قدرات نجومه المصريين فى العروض المسرحية التى كانت تنقل من مسارحها لتقدم بالأحياء الشعبية ، ومنها حى السيدة بدار سينما (الأهلي) الصيفية ، أو يشاهد مسرحياتهم الجادة التى كان ينتجها وينقلها التليفزيون على شاشته الصغيرة ، حالما بأن يصبح نجما شهيرا ، تتداول المجلات صوره ، ويمتلك سيارة حمراء يطوف بها شوارع السيدة وبركة الفيل والحلمية الجديدة .
أمتلك حلم التمثيل فؤاد وعقل الفتى الصغير ، غير أن المرحلة الثانوية دفعت لهما حلما جديدا هو أن يكون لاعب كرة شهير ، فالتحق بأشبال نادى الزمالك ، وتصارع الحلمان حتى أستقر به الأمر بعد حصوله على الثانوية العامة بأن يكون ممثلا ، رغم أن مكتب التنسيق ذهب بأوراقه لكلية التجارة ، ورفضت أسرته - كعادة كل الأسر وقتذاك - التحاقه بقسم التمثيل بالمعهد العالى للفنون المسرحية ، ولكن بعد إلحاح وافقت على أن يتقدم لقسم الديكور ، لكنه - وكعادة كل الأبناء – خالف الرأى وقدم أوراقه لقسم التمثيل ، ووجد نفسه أخيرا يقف بإحدى قاعات المعهد الذى كان مقره وقتذاك بالزمالك ، وعليه أن يقدم مشهدا باللغة الفصحى وآخر بالعامية وثالث ارتجالى ، أمام لجنة مكونة من "حمدي غيث" و"عبد الرحيم الزرقاني" و"محمد توفيق" و"كمال يس" والناقد "دريني خشبة" ، ولم يفاجأ حينما وجد أسمه فى أول كشوف المقبولين ، فقرر أن يكون الأول دائما .
روميو الجديد
ظل شعار (الأول دائما) اجتهادا وتفوقا هو الهادى للفتى "محمد جابر" الذى صار أسمه الفنى "نور الشريف" ، بنصيحة من شقيقته "عواطف" بعد أن أثبت وجوده فى دور صغير بعرض (وابور الطحين) عام 1965 مع فرقة مسرح الحكيم للكاتب "نعمان عاشور" والمخرج "نجيب سرور" ، سبقها محاولة الصعود لفضاء المسرح وهو فى مقتبل اقتحامه للدراسة الأكاديمية بدور بجملتين بين المجاميع بمسرحية (الشوارع الخلفية) عام 1963 من إعداد "نعيمة وصفى" عن رواية "عبد الرحمن الشرقاوى" وإخراج "سعد أردش" لكنهما لفتا الأنظار إليه ، وجذبا إليه عين المخرج المثقف "كمال عيد" الذى رشحه وهو بعد مازال طالبا بالمعهد لبطولة مسرحية (روميو وجوليت) لشكسبير ، بعد اعتذار "كرم مطاوع" عن القيام بدور "روميو" ، كما اعتذرت كلا من "زيزى البداراوى" و"سعاد حسنى" عن القيام بدور "جولييت" ، فقرر المخرج المغامر أن يسند الأدوار لممثلين جدد على الحركة المسرحية هما "محمد جابر" الذى يقول عنه فى مذكراته (المسرح حياتى) أنه شاهده "يقدم مشهدا من مسرحية هملت" أثناء محاضرة له بمعسكر رياضي بالإسكندرية فى صيف 1965 ، وأن تقاسمه البطولة "سناء ماهر" ، وسط كوكبة من الممثلين الكبار "عزيزة حلمى" و"عبد الرحيم الزرقانى" و"نعيمة وصفى" ، وللأسف لم تر المسرحية النور لخلافات داخل فرقة المسرح العالمى التى كان يديرها "حمدى غيث" .
تخرج "محمد جابر" بقسم التمثيل والإخراج فى المعهد العالى للفنون المسرحية ، بدفعة ضمت المخرجين والممثلين المتميزين فيما بعد : "محمود الألفى" و"محمد عبد المعطى" و"سامية أمين" و"شاكر عبد اللطيف"و"مرفت سعيد" و"عبد العزيز مخيون" والإعلامية اللامعة "نجوى أبو النجا" وغيرهم من نجوم المسرح والسينما والتليفزيون والإذاعة ، وأعلنت نتيجته بعد أسابيع قليلة من نكسة يونيو 1967 ، فاختلطت المشاعر داخله بين فرحه بتفوقه وحصوله على المركز الأول الذى يؤهله للتعيين معيدا بالمعهد ، وحزنه على الهزيمة التى لحقت بالتجربة الناصرية التى ناصرها وتحمس لانفتاحها الثقافى على العالم ، وسعيها لتحقيق العدل الاجتماعى بين الناس ، وتأسيسها لبنية أساسية للفنون الرفيعة ، تمثلت فى المعاهد الفنية الكبرى بالهرم ، والتى أنتقل "نور" وزملائه فى العام الرابع من دراستهم إلى مبنى المعهد الجديد الحالى .
مسئولية الفنان
غير أنه سرعان ما حسم أمره ، فأزاح الحزن من أمام عينيه ، وكانت الفلسفة الوجودية الرائجة فى منتصف ستينيات القرن الماضى قد تسللت لعقله ، وعرف من خلالها قضايا الحرية ومسئولية الإنسان عن فعله ، وتحمله هذه المسئولية بإرادة قوية وفعل يتجاوز به أى إحباط ، فعمل على أن يكون جادا فى عمله ، عميقا فى أفكاره ، جسورا فى تقديم نفسه والمحيطين به للساحة الفنية ، وسعى بكل جهده لامتلاك ثقافة موسوعية عميقة ، فصار واحدا من أنضج فنانينا وأعمقهم ثقافة ، وأكثرهم جدلا حول الشخصيات التى يجسدها ، والعمل الفنى ككل الذى يمثل فيه ، واعيا بالدور الفاعل الذى يلعبه الفن وسط مجتمعه ، ورغم انشغاله بالتمثيل فى السينما والتليفزيون اللذين خطفاه من معشوقه الأول ، إلا أنه حرص على العمل بالمسرح ممثلا ومخرجا بل ومشاركا فى الإنتاج أحيانا ، وداعما للمواهب والطاقات الشابة ، فالمسرح هو فضاء الفعل المتجدد يوميا ، وهو ساحة اللقاء مع جمهور متغير كل ليلة ، وهو المشاكس للسلطات بأصوات حية ووجود مؤثر ، فعمل "نور" على الارتفاع بقامته وقامة المسرح معا ، فحصد العديد من الجوائز والتقديرات ، ليس أهمها حصوله على درجتى دكتوراه فخرية فى الآداب ، الأولى من جامعة (ميدل برى) الأمريكية عام 2005 ، والثانية من جامعة (ويلز) البريطانية العام الماضى مع "يحيى الفخرانى" و"محمد منير" و"عمر خيرت" ، وجاء فى حيثيات منحه الدكتوراه الأولى أنه "أرتفع بمستوى الأداء التمثيلى إلى نوع من الأدب" ، وتم الاحتفال به داخل المسرح أثناء عرض مسرحية (الأميرة والصعلوك) ، دون تسليط الأضواء على هذا الحدث المتميز ، وأن كان أهمها عنده هو تقدير الجمهور لموهبته وجديته وثقافته وحرصه على ربط الفن بالمجتمع المتحرك داخله .
مع أستاذه دائما
قام "نور الشريف" ببطولة مجموعة كبيرة من العروض المسرحية ، اختارها بعناية وبمسئولية ، وتكشف القراءة لتتبعها الزمنى عن تطوره الفكرى والجمالى ، ومدى علاقته الوثيقة بمجتمعه ، حيث تنوع حضوره بين عروض مقدمة للأطفال مثل (الأمير الطائر) للكاتب الهندي المشهور "ملك راج" وإخراج العائد من لندن المخرج "أحمد زكي" 1968 ، وهو أول عمل يقدم لفرقة مسرح الطفل المنشئ حديثا وقتذاك وقدمت على مسرح القاهرة للعرائس ، واستخدم فيها تكنيك المسرح الأسود لأول مرة ، وكانت أول بطولة مسرحية له ، تبهر الطفل ن أن تبتعد به عن حياته . كما قدم عروضا تعيد قراءة الأساطير والحكايات التاريخية والفنتازية عبر كتاب ألف ليلة وليلة وتقدمها بمنظور معاصر ، مثل (شمشون ودليلة) 1971 للكاتب الفلسطينى "معين بسيسو" وإخراج أستاذه فى المعهد "نبيل الألفي" والذى سيتكرر عروضه معه ، والعرض الفنتازى (بعد أن يموت الملك) 1974 آخر كتابات الشاعر "صلاح عبد الصبور" المسرحية من إخراج "نبيل الألفى" أيضا ، و(ست الملك) لفرقة المسرح القومى 1978 ، من تأليف د. "سمير سرحان" وإخراج "عبد الغفار عودة" ، وبطولته مع "سميحة أيوب" و"عبد الرحمن أبو زهرة" ، و(الفارس والأسيرة) 1979 للدكتور "فوزى فهمى" وإخراج زميل دفعته د. "عوض محمد عوض" ، ولعبت "فردوس عبد الحميد" دور البطولة أمامه ، و(لعبة السلطان) 1982 للدكتور "فوزى فهمى" أيضا ، وإخراج "نبيل الألفي" كذلك ، وبطولته مع "عايدة عبد العزيز" و"عبد الرحمن أبو زهرة" وزميل دفعته "محمد وفيق" ، ولفرقة أكاديمية الفنون قام ببطولة مسرحية (كاليجولا) 1991 لألبير كامى وإخراج "سعد أردش" ومثلت مصر فى مهرجان موتريل بأسبانيا ، وكان لى شرف استضافتها فى هذا المهرجان باعتباري مديرا مشاركا له وقتها ، وكذلك قدم أعمالا معاصرة مثل (لن تسقط القدس) 2002 للكاتب الصحفى "شريف الشوباشى" وإخراج "فهمى الخولى" لفرقة المسرح القومى وقدمت على مسرح الجمهورية ، والبطولة مع "عفاف راضى" و"لقاء سويدان" ، وطاف بها "نور" العديد من الأقطار العربية بنجاح ساحق ، و(يا غولة عينك حمرا) 2004 للكاتب "كرم النجار" وإخراج "حسن عبد السلام" لمسرح التليفزيون ، وقدم على مسرح النيل بمدينة الإنتاج الإعلامى ، ثم عرض (يا مسافر وحدك) تأليف وإخراج د. هانى مطاوع" عن نص (أفرى مان) أو (كل إنسان) الشهير فى مسرح العصور الوسطى الأوربية ، وشاركته البطولة "منى زكى" و"ندى بسيونى" و"مخلص البحيرى" ، وكلها أعمال تمس نبض الواقع وتعلى من درجة الوعى به
مع المسرح الخاص
كما قام بإخراج ثلاث مسرحيات فضلا عن بطولتها وهى (سهرة مع الضحك) عام 1982 ، عبارة عن ثلاث مسرحيات قصيرة للكاتب "على سالم" وشاركه إنتاجها لفرقتهما الخاصة باسم (مسرح الممثل) ، أخرج "نور" منها مسرحيتى (المتفائل) و(المؤلف فى شهر العسل) وأخرج "على سالم" المسرحية الثالثة (الكاتب والشحات) ، وعرض (الأميرة والصعلوك) للكاتب "ألفريد فرج" لفرقة المسرح القومي عام 2005 وبطولته مع "منال سلامة" ، و(محاكمة الكاهن كا) لشباب مسرح الهناجر عام 1993 عن قصة للروائى "بهاء طاهر" ، مسرحة د. "محسن مصيلحى" و"عبد الرحيم كمال" ، وناقش فيه قضية صراع كهنة الدين على السلطة ، وفى الأفق عرض جديد مؤجل منذ زمن عن رواية (اللجنة) لصنع الله إبراهيم ، تم الإعلان عنه أكثر من مرة دون أن نراه .
هو فنان مثقف يدرك مسئوليته تجاه وطنه ، ويبحث عن ذاته فى مجتمعه ، ويكتشف مجتمعه على صفحة ذاته ، ويغامر بحثا عن المجهول ليحوله لمعلوم يضعه بين أيدى جمهوره ، فيثير الدهشة مع كل عمل يقدمه ، ويثير الجدل حول كل رسالة يرسلها لمجتمعه فى أدق لحظاته الزمنية.
بقلم/ د. حسن عطية المركز الاعلامى اكاديمية الفنون
ساحة النقاش