بشار إبراهيم
مرة أخرى تحقّق السينما الفلسطينية في العام 2012، ما لم تستطعه أيٌّ من شقيقاتها في السينما العربية. كانت المفاجأة الكبرى أنه حتى الدورة السادسة من مهرجان أبو ظبي السينمائي، لم يستطع أيّ فيلم عربي نيل جائزة «اللؤلؤة السوداء» في المسابقة الدولية، وبقيت هذه الجائزة تذهب شرقاً وغرباً، حتى جاء فيلم «عالم ليس لنا» للمخرج الفلسطيني مهدي فليفل ليكون أول فيلم عربي ينال هذه الجائزة. تماماً في الوقت الذي تمكن فيلم «لما شفتك» للمخرجة آن ماري جاسر من نيل جائزة أفضل فيلم روائي طويل في مسابقة «آفاق جديدة»، لتكون السينما الفلسطينية الرابح الأكبر في هذا المهرجان.
ولم تتخلّف السينما الفلسطينية عن فعل ما يشبه ذلك في «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، إذ نالت المخرجة باري القلقيلي جائزة «المهر العربي للأفلام الوثائقية» عن فيلمها «السلحفاة التي فقدت درعها»، تاركة جائزة لجنة التحكيم الخاصة لزميلها المخرج الفلسطيني خالد جرّار عن فيلمه «متسللون»، في تأكيد آخر على قدرة السينما الفلسطينية على المنافسة والصعود إلى منصّات التتويج.
ولم تغب السينما الفلسطينية عن منصات التتويج في مهرجانات القاهرة، وقرطاج، ووهران.
قد يكون من المناسب الدخول إلى حصاد السينما الفلسطينية في العام 2012، من بوابة الجوائز الكبرى التي نالتها الأفلام الفلسطينية. هنا ثمة إنجازات كبيرة تحقّقت، ممهورة بأسماء شابة، تقدّم نفسها بشجاعة، من دون أيّ تردّد أو قلق، أو التمهّل على بوابات الأسماء الكبيرة التي سبق للسينما الفلسطينية أن قدّمتها خلال ثلاثة عقود مضت.
فلسطيني في هوليوود
وقد يكون من المناسب البدء بدخول المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد ما يمكن أن نسمّيه «نادي مخرجي هوليوود»، بعد أن أطلق، في أيار (مايو) 2012، فيلمه الهوليوودي المُنتظر «المبعوث» (The Courier)، بطولة: ميكي روركي، جيفري دين مورغان، وذلك بعد سنوات من الوعود المتتالية التي انصبّت حوله، منذ أن قدّم أول أفلامه الروائية الطويلة «الجنة الآن»، والذي أمكنه الحصول على جوائز كبيرة عدّة لعل أهمها «غولدن غلوب»، وترشيحه بقوة لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
ولكن في كل حال، يمكن القول إن الحصاد السينمائي الفلسطيني في العام 2012، كان وفيراً، ليس فقط على صعيد الجوائز التي نالتها الأفلام الفلسطينية، روائية كانت أم وثائقية، بل كذلك على مستوى الكمّ الإنتاجي، والتنوع في المواضيع والأشكال، وأيضاً على صعيد المساهمة الفاعلة لكثير من السينمائيين الفلسطينيين الذين حضروا في محافل سينمائية عالمية متميزة، كأن تكون الممثلة هيام عباس عضو لجنة تحكيم في «مهرجان كان السينمائي»، وأن تتولّى المخرجة مي المصري، رئاسة لجنة تحكيم مسابقة «المهر الآسيوي الأفريقي للأفلام الوثائقية» في «مهرجان دبي السينمائي الدولي».
ليس من المغالاة في شيء القول إن فيلم «عالم ليس لنا»، إخراج مهدي فليفل، سيكون أحد أهم إنجازات السينما الفلسطينية في العام 2012، لأنه يشكل محاولة متميزة على صعيد تقديم الموضوع الفلسطيني وثائقياً، اتكاء على شخصيات فلسطينية من لحم ودم، لها قدرتها على التعبير عن قاع الواقع الفلسطيني في مخيم «عين الحلوة»، إلى درجة نال بسببها «أبو إياد» محبة كل من قُيّض له مشاهدة الفيلم. يغوص الفيلم في الحال الفلسطينية، ويمارس أنواعاً مدهشة من الجرأة في قول كثير من المسكوت عنه، بأسلوب فني رائق، وبمحبة تليق بهذا الفتى المخرج ابن المخيم نفسه، والذي لا يخفي محبته للمخيم وناسه.
من ناحيتها، ترصد المخرجة باري القلقيلي فيلمها «السلحفاة التي فقدت درعها»، للتعرّف إلى والدها، هذا الفلسطيني الذي هاجر إلى ألمانيا، ولم يكفّ على رغم زواجه من امرأة ألمانية عن العودة بين الفينة والأخرى إلى فلسطين، مؤمناً بالكفاح والنضال، لينوس بين مكانين وزمنين، ولكن في سبيل انتماء واحد لفلسطين لا غير. هذه الفتاة المولودة لأبيها من أمّ ألمانية تعقد ببراعة جلسات طويلة مع والدها، متجاهلة أمها الألمانية إلى حدّ كبير، راغبة في فض سرّ هذا الانتماء الفلسطيني الذي لا يستكين.
وفي أول إطلاله له يتمكّن المخرج خالد جرّار من تقديم وثائقيه «المتسللون». خالد جرار القادم من عالم الفن التشكيلي، والفيديو آرت، يرصد فيلمه لمتابعة المحاولات المستمرة التي يقوم بها الفلسطينيون للتسلل عبر الجدار العازل، سواء من أجل العلاج أو الصلاة في الأقصى، أو من أجل شؤون اجتماعية أو اقتصادية... متابعة عبر كاميرا حيوية، ومونتاج متدفق، ومادة غنية التقطها المخرج عبر سنوات من التصوير، والتواجد في عين الأمكنة التي يتسلل منها الفلسطينيون إلى وطنهم.
فائض من متسللين
متسللون من نوع آخر، ترصدهم المخرجة ناهد عواد في فيلمها الوثائقي «غزة تنادي». إنها تسلّط الضوء على مشكلة حياتية يومية، يعيشها الغزيون الموجودون في الضفة الغربية، فلا وجودهم هنا قانوني، ولا عودتهم إلى هناك ممكنة، وستمر سنوات لا يستطيع الأب مشاهدة أبنائه، ولا الابن التواصل مع والديه. نأيٌ واضح عن الشعارات الصاخبة، والقضايا الكبيرة، ودنوّ بارع من تفاصيل تلامس الأبعاد الإنسانية لشخصيات مرهونة لانتظارات طويلة، وإجراءات قانوينة معقدة، يبدو أنها لا تريد أن تنتهي، وتترك الفلسطيني عالقاً في المكان.
وكعادته دائماً، يعود المخرج رشيد مشهراوي إلى مدينة القدس العتيقة في جديده «أرض الحكايات». قرابة ساعة من الوقت يمضيها المخرج متجولاً في أنحاء القدس الشرقية، يزور بيوتاتها، ويحاور المقدسيين الرازحين تحت وطأة ممارسات استيطانية لئيمة، تنوي قضم المدينة بيتاً بعد بيت، وتسعى إلى إفراغ القدس من أهلها. وبين هذا وذاك يؤثث مشهراوي فيلمه بحضور مصوّر أرمني احترفت عائلته تصوير القدس جيلاً بعد جيل منذ مطالع القرن العشرين، ومع حركة لا تهدأ لبائع متجول يلملم حكايات القدس بعربته ذات العجلات الثلاث.
وريثما نشاهد فيلمه الوثائقي الجديد؛ «صيد الشبح»، الذي حققه هذا العام، سيحضر رائد أنضوني منتجاً لوثائقي جماعي بعنوان «موسم حصاد»، ساهم في إخراجه كل من أريج سحيري، سامح زعبي، ميس دروزه، ونسيم أمعوش. يتكئ الفيلم على مقولة الشاعر محمود درويش «الهوية هي ما نورّث لا ما نرث؛ ما نخترع لا ما نتذكّر».
بعد فيلمها الروائي الطويل الأول «ملح هذا البحر»، الذي حقّق نجاحات نقدية وجماهيرية ومهرجاناتية، تعود المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر بفيلمها الروائي الطويل الثاني «لما شفتك». لا تفارق المخرجة جاسر همّها واهتمامها بتناول جوانب من القضية الفلسطينية، في عودة مقصودة منها إلى الأسئلة البدهية، والمنابع الأولى، وببساطة من دون أي تعقيدات.
هذه المرة تعود المخرجة آن ماري جاسر إلى العام 1967، في مخيم للاجئين الفلسطينيين، وأسئلة فتى لا تريد إلا إجابة واحدة؛ طالما فلسطين لنا، فلماذا لا نعود إليها؟... ما الذي يبقينا هنا في مخيم لاجئين؟... وإذ نتابع رحلة هذا الولد، من المخيم إلى قاعدة الفدائيين، وصولاً إلى حدود فلسطين ورؤيته للبلاد التي طُرد منها، وغاب والده في ثناياها، تعيدنا آن ماري جاسر إلى نقطة البداية التي انحرفنا عنها جميعنا.
وفي محاولة أولى لها، وبعد أن حقّقت فيلماً روائياً قصيراً من قبل، تقدّم الممثلة هيام عباس نفسها مخرجة لفيلم روائي طويل جاء بعنوان «إرث». فيلم تدور أحداثه في قرية فلسطينية قريبة من الحدود اللبنانية، في الأيام التالية لبدء الحرب على لبنان في العام 2006. على إيقاع الحرب تلك، سوف نشهد التحولات التي تعيشها عائلة عربية ذهبت بأفرادها سبل شتى، ما بين الابن الطبيب العاجز عن الإنجاب، والآخر الطامح للنجاح بالانتخابات البلدية حتى لو كان من باب التعاون والتنسيق مع الإسرائيلي، وثالث يتمنى النجاح في مشاريعه التجارية، اقتداءً بأبيه، فيقع في خيبة تلو أخرى، والابنة العاشقة لفتى إنكليزي لتتهددها الفضيحة الاجتماعية.
ومن جديد هذه السنة، تبدو «مؤسسة شاشات» الأكثر اجتهاداً في مجال صناعة الأفلام الروائية القصيرة، حتى وهي تخصّص لنفسها حيّز العمل في مجال «سينما المرأة».
ويمكننا القول إن مجموعة الأفلام التي حققتها هذا العام تبشر بالخير، وتضع خطوة نحو الأمام، وذلك بالانتباه إلى المستوى الأفضل الذي توافر للأفلام عموماً عمّا كان في العام الماضي.
بمشاهدة 10 أفلام أنتجتها «شاشات» عام 2012، بإشراف المخرجة علياء أرصغلي، وتدريب المخرج عبدالسلام شحادة، وهي أفلام: «لو أخدوه» إخراج ليالي كيلاني، «دبلة الخطوبة» إخراج تغريد العزة، «فستان أبيض» إخراج أميمة حموري، «هيك القانون» إخراج فادية صلاح الدين، «أقدام صغيرة» إخراج إيناس عايش، «أبيض وأسود» إخراج رنا مطر، «خارج الإطار» إخراج رهام الغزالي، «ضجة» إخراج آلاء الدسوقي، «انفصال» إخراج أريج أبوعيد، «قطعت» إخراج آثار الجديلي، يمكننا القول إن المسيرة تتقدّم في شكل يجعل من الممكن الرهان على هذه الأسماء الجديدة، التي نثق بأننا سنرى أعمالها في قابل الأعوام أكثر ثقة، ومهنية.
وفي وقت لم نتمكّن من مشاهدة الفيلم الجديد للفنان محمد البكري، فمن الضروري التنويه بالفيلم الروائي القصير الذي حقّقه المخرج إيهاب جادالله بعنوان «نسخة متروكة»، والذي شارك في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة في «مهرجان أبو ظبي السينمائي».
في اختصار، يمكن القول ان السينما الفلسطينية حققت هذا العام الكثير من الأفلام والجوائز، فيما لم يحقّق هاني أبو أسعد ما كان منتظراً منه في انضمامه إلى هوليوود. صحيح أن فيلم «المبعوث» أراد الذهاب أبعد من أن يكون فيلم تشويق وإثارة ومطاردة، فقط، ومال نحو التحليل النفسي للعلاقة بين الجريمة والألم، في مشاهد وحوارات يمكن أن تبقى في الذاكرة، ولكن الفيلم عموماً بقي وفق غالبية التقديرات فيلماً متوسط القيمة، على رغم حرفية المخرج، وجهده الواضح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر / جريدة الحياة 28 ديسمبر 2012 .
ساحة النقاش