مسرحة النصوص الأدبية
عواد علي
غالباً ما يُستخدم في اللغة العربية مصطلح «الإعداد» مقابلاً للمصطلح الإنجليزي (ADAPTATION)، في حين أن الترجمة الدقيقة لـه هي «التكييف»، وهو شكل من أشكال الكتابة لا يقتصر على فن معين، أو أدب معين، بل يطال كل الفنون والآداب، وقد شاع في العصر الحديث مع تداخل الفنون، وزوال الحدود بين الأجناس الأدبية والفنية، ومع تطور الإمكانات الفنية التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة. أما تاريخ ظهور التكييف فإنه قديم قدم الإبداع، كما يتمثّل في تكييف كتّاب المسرح الإغريقي ملاحم هوميروس إلى مسرحيات، رغم أن التعبير لم يظهر إلاّ مؤخراً.
يأخذ التكييف في حقل المسرح شكلين: الأول تقديم عمل سردي أو شعري بتقنية درامية، وهذا ما يحصل عند تكييف الرواية، أو القصة القصيرة، أو القصيدة للمسرح، مثل تكييف روايات وقصص نجيب محفوظ (زقاق المدق، قصر الشوق، اللص والكلاب، خان الخليلي، همس الجنون، الخوف، ميرامار، يوم قتل الزعيم، وحارة العشاق) إلى مسرحيات بعناوين مختلفة، وتكييف كل من المخرج الفرنسي جاك كوبو، والمخرج العراقي حميد محمد جواد رواية ديستويفسكي الشهيرة «الأخوة كارامازوف»، وتكييف المخرج الفرنسي أنطوان فيتيز رواية «أجراس بال» لأراغون إلى مسرحية بعنوان «كاترين»، وتكييف قاسم محمد رواية «النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان، وتكييف المخرج التونسي محمد إدريس رواية «حدّث أبو هريرة قال» لمحمود المسعدي بعنوان «حدّث»، وتكييف الكاتب المصري حاتم حافظ رواية «ليلة القدر» للطاهر بن جلون إلى مسرحية بعنوان «الجبل»، وتكييف الكاتب المسرحي الأميركي مايكل جيني سوليفان رواية جورج أورويل الشهيرة «1984». وهذه التجربة الأخيرة من أحدث تجارب تكييف الرواية الغربية للمسرح، ولا تزال تعرض على أحد مسارح لوس أنجلوس بإخراج تيم روبنز، وتقدم مفتاحاً نقدياً للأنظمة المعلوماتية، وآليات التحكم بمصير الإنسان عبر المراقبة الالكترونية وغسل الدماغ. وقد حوّل سوليفان الفضاء الروائي من دولة ذات نظام استبدادي مرعب يحكمها حاكم فردي يتربع على قمة الحزب الذي يتكون من طبقتين هما: طبقة الحزب الداخلي، أو التنظيم الأعلى للحزب، وطبقة الحزب الخارجي، أو الجموع المنخرطة فيه، إلى دولة ذات نظام ديموقراطي (الولايات المتحدة الأميركية تحديداً) تشوه الحقائق، وتراقب حياة مواطنيها من خلال أجهزتها الإعلامية الحديثة، بغية كتابة التاريخ بشكل يتلاءم مع سياساتها، وتستخدم أساليب بوليسية وقمعية في تعاملها مع السجناء (إشارةً إلى تعذيب سجناء أبي غريب في العراق، وغوانتانامو).
أما الشكل الثاني من التكييف فهو تكييف نص مسرحي بحيث يتناسب ورؤية المخرج، أو الجمهور الذي يقدَّم له، مثل تكييف مسرحية مكتوبة للكبار من أجل تقديمها للأطفال، أو تكييف الكلاسيكيات لتقديمها في عروض حديثة، وأمام جمهور معاصر. وفي هذه الحال يمكن أن يذهب التكييف إلى حد تقديم قراءة جديدة، أو تأويل للنص الأصلي يحمل إسقاطات مباشرة على الحاضر. ومن نماذج هذا التكييف، تمثيلاً لا حصراً، ما فعله بريشت في تكييفه مسرحية «أنتيجونا» لسوفوكليس، إذ استبدل قوانين كريون في النص الأصلي بجهاز الاستخبارات النازي. والمخرج سامي عبد الحميد في تكييفه مسرحية «هاملت» بعنوان «هاملت عربياً» لتدور أحداثها في بيئة عربية بدوية، والمخرج اللبناني ريمون جبارة في تكييفه مسرحية «احتفال بمقتل زنجي» لآرابال بعنوان «القندلفت يصعد إلى السماء»، لإسقاط أحداثها على الحرب الأهلية اللبنانية، وتكييف سامح مهران مسرحية «الملك لير» بعنوان «لير.. بروفة جنرال»، في محاولة منه لنقض شكسبير من خلال فكرة الوحدة؛ عاكساً الصورة من خلال جعل أحداث العرض (الذي يقوم على الفرجة الشعبية) تجري في واقع مفتت يقوم بفضحه، من أجل دعوة غير معلنة إلى الوحدة، وذلك بالسخرية من الواقع العربي القائم، وتعرية الفساد والديكتاتورية التي يمارسها بعض الأنظمة العربية. وأخيراً، المخرج الكويتي سليمان البسام في تكييفه مسرحيتين لشكسبير هما: «هاملت» بعنوان «مؤتمر هاملت»، مضفياً على أحداثها وشخصياتها هويةً عربيةً، وذلك بربطها بقضايا الساعة في الواقع العربي والدولي بما تحمله من سلبيات وآلام ومحن، و«ريتشارد الثالث» بعنوان «ريتشارد الثالث.. مأساة عربية» جاعلاً أحداثها تدور في أجواء حكم إقطاعي بدولة غنية بالنفط تقع في مكان ما من الشرق الأوسط، أجواء يسودها الصراع الأسري، وقضايا النزاعات من أجل القيادة والدين والتدخلات الخارجية.
إن النصوص المسرحية المكيّفة والمقتبسة، في المسرح العربي، منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى الآن، تشكّل نسبةً كبيرةً من تجارب هذا المسرح تكاد تفوق نسبة النصوص المؤلفة تأليفاً خالصاً. بل إن أول نص مسرحي يؤرخ به لبداية المسرح العربي، هو «أبو الحسن المغفل» لمارون النقّاش مكيّف عن إحدى حكايات ألف ليلة وليلة. وبعد النقّاش اقتبس أبو خليل القباني عام 1884 مسرحيته «لباب الغرام، أو الملك ميتريدات» عن مسرحية «ميتريدات» لراسين. ثم حذا حذوهما عشرات الكتاب المسرحيين العرب، فكيّفوا أو اقتبسوا مسرحيات كثيرة عن نصوص حكائية أو روائية أو ملحمية أو مسرحية أو سير شعبية من التراث العربي أو الغربي.
تتداخل مع عملية التكييف والاقتباس صيغة أخرى في المسرح العربي هي صيغة (التمصير، أو التعريق، أو اللبننة، أو الأردنة ... إلخ) التي يجري من خلالها تحويل نص أجنبي إلى نص ذي طابع محلي في أحداثه وشخصياته وأجوائه، وفضائه الدرامي، ولغاته (وهي عادة إحدى اللهجات العربية التي ينتمي إليها الكاتب أو فريق العرض)، بحيث يخيل إلى المتلقي أن هذا النص الذي يعتمده العرض المسرحي نصُ محلي بحت كتبه مؤلف عربي (مصري، أو عراقي، أو أردني) ولكن، في حقيقة الأمر، ليست كل التجارب من هذا القبيل ناجحة، أو تمتلك مقومات التمصير أو التعريق أو الأردنة، ذلك أن بعضاً منها يبدو أشبه بمن يرتدي ثوباً محلياً شفافاً فوق ثوب ذي هوية غريبة واضحة الملامح، أي بمعنى أن روح النص الأصلي لم تغب عن النص الجديد المقتبس، بل ما زالت ترفرف في فضائه، وتفرض وجودها على عناصره الدرامية. ومن التجارب الجيدة، على سبيل المثال لا الحصر، «دائرة الفحم البغدادية» التي عرقها الكاتب المسرحي العراقي عادل كاظم عن نص بريشت «دائرة الطباشير القوقازية»، وتجربة «البيك والسايق» التي عرقها الشاعر العراقي صادق الصائغ عن نص بريشت، أيضاً «السيد بونتيلا وتابعه ماتي». وقد أخرج كلا العرضين المخرج الراحل إبراهيم جلال في سبعينيات القرن الماضي، علماً أن النص الأول أقتبسه الكاتب المسرحي السوري فرحان بلبل بعنوان «القرى تصعد إلى القمر». وكذلك تجربة «صانع الأحلام» التي لبننها وأخرجها ريمون جبارة عن مسرحية غنائية أميركية بعنوان «رجل المانشا»، و«طرطور» التي لبننها يعقوب الشدراوي عن «فرافير» يوسف أدريس، و«داير داير» التي مصّرها خالد ونجيب جويلي عن المسرحية الشهيرة «أوبو ملكاً» لألفريد جاري. ولعل هذه الأخيرة، التي أخرجها حسن الجريتلي، من أنجح التجارب في هذا المجال، فهي عرضُ شعبي متميز ذو نكهة مصرية أخاذة، قدمته فرقة الورشة المسرحية المصرية في أيام عمّان المسرحية عام 1996، وقد جرت صياغته بروح مصرية خالصة، إذ أصبحت أحداثه تجري في أثناء حكم المماليك لمصر، وفي تفاعل مع روح بابات خيال الظل وجمالياته بحثاً عن جذور الأداء الشعبي، وتواصلاً مع إبداع المخايلين الشعبيين في البيئة المصرية، وهو (توجه يلتقي تماماً بروح جاري الشعبية، المتمردة، الساخرة، الموغلة في الخيال والغرابة). وبلغت دقة تمصير النص الأصلي وعمقه حداً يستحيل معهما أن يتصور المتلقي، الذي لم يقرأ «أوبو ملكاً»، أنه نصُ ممصر عن نص أجنبي. وبهذه الصياغة المصرية الشعبية الذكية لنص جاري قدم خالد ونجيب جويلي درساً بليغاً في كيفية الإفادة من التراث المسرحي الغربي، مع الاحتفاظ بمناخه الأصلي القائم على السخرية اللاذعة، والهزل، والكاريكاتيرية، والإيغال في الغرابة، أو اللامعقول، والمبالغة، والتهكم المفرط، وبساطة التشخيص، واستطاعا الارتفاع بدلالة النص من إطارها المحلي إلى آفاق أوسع تشمل التاريخ السياسي والاجتماعي- ماضياً وحاضراً- لعالمنا العربي الذي تهيمن عليه مشكلة استبداد الأنظمة الجائرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر / مجلة الدوحة / سبتمبر 2012 .
ساحة النقاش