علاء الجابري

تبدو العلاقة بين التكنولوجيا الجديدة، بإمكاناتها الجبارة، وقدراتها المغرقة في قهر المستحيلات القديمة، وبين الفنون والآداب علاقة ملغزة بامتياز. اللغز ذاته، بصعوبات مختلفة، يبدو حاضراً في العلاقة بين التكنولوجيا وفن السينما.

تقدم التكنولوجيا للسينما إمكاناتٍ هائلة على مستوى التطوير والإبهار، حتى إن أعمالاً كاملة تقوم على تقنيات تكنولوجية. على الجانب الآخر قد تنتهك التكنولوجيا خصوصية الفن السينمائي، وتختصر مساحة الفنية فيه. إنَّ ترويض الإمكانات المتاحة وتجاوز المنطق الطبيعي في بعض الأحيان، والتواصل الذي يتحدى الزمن، والانتشار الذي يتحدى طبيعة الأمور يبدو واضحاً في مقومات التكنولوجيا، بينما تقوم الفنون على التأمل ومراعاة الخصوصية. لمسة واحدة تتيح لك امتلاك ما يحتاج مجهوداً ومالاً كبيرين، وهذا يحدث في السينما، ولكنه جزء من انتهاك التكنولوجيا لحقوق الإبداع.

على أرصفة الشوارع المقابلة للسينمات في مصر تجد الفيلم المعروض - والذي يفترض أنه جديد - معروضاً للبيع على أسطوانة. إنه اختراق. والمسألة أبعد من أن تكون تيسيراً على المشاهد أو المتابع، بل إنها في جوهرها امتهان لخصوصية الفن السينمائي.

وازداد في الفترة الأخيرة - وبخاصة بعد زخم الفضائيات - عرضُ الأفلام على الشاشة الصغيرة حتى وجدنا قنوات تخلص لعرضها، فتعرض يومياً عدداً من الأفلام، بين القديم والحديث ، تبحث عن متابعين من ربات البيوت وأشباه العاطلين أو أصحاب محلات تلقى كساداً معظم أيام الأسبوع بما يمهد للمعطيات الأساسية، لما ينجم عن التداخل المفضى إلى الاختلاط بين الفن السينمائي والتجارة التي تراهن عليها الفضائيات. واختراق الفضائيات للأفلام الجديدة جعل انتظارها فى المنزل مجمداً للفن السينمائي نفسه بدلاً من أن يكون مؤدياً لمزيد من التنافس بينها. والتباين كبير بين رؤية الفيلم في دار العرض والشاشة الصغيرة. الحجم الصغير للشاشة عامل محبط لمتابعة الفيلم السينمائي، يقلل التفاعل مع الفيلم؛ لأنها تتطلب قدراً من التركيز لفهم مسار الحدث، أو إحداث الرعب في نوعية من الأفلام تبغي ذلك للمشاهد القابع خلف كومة من السندوتشات والمسليات، يزعجه طفل، أو جرس باب أو هاتف .. هذه الطقوس المنزلية العادية، تحاول دور العرض منعها عن الداخلين. انعدام الضوء في دار العرض يجعل الشاشة الكبيرة أكثر حضوراً، ويتعذر محاكاة ذلك في المنزل .

ربما يقدر البعض على توفير طقس مماثل للجو السينمائي، ولكنه يستحيل محاكاة الطقس النموذجي للعرض، لضعف إمكانات التليفزيون - مهما ارتفعت - مقارنة بالصوت السينمائي والسماعات المنتشرة في أرجاء الصالة. ويصعب نقل المنظور السينمائي إلى الشاشة الصغيرة، فيضيع كثير من جهد المصور السينمائي عبثاً بعد نقل عمله إلى الشاشة الصغيرة، السينما فن الصورة، حتى سميت قديماً بـ «الصور المتحركة». ولعل الكثيرين ممن فاتهم عرض فيلم في دور السينما وحاولوا الاستعاضة عن ذلك بالمنزل مثلاً كانوا يتأففون من هذه المسألة المفقودة التي قد تزيدها الحسابات التجارية حضوراَ؛ حين يحرصون على عرض إعلان-أثناء أحداث الفيلم- على الشاشة «الصغيرة» أصلاً ، مما قد يضيع معه زاوية مهمة أو ترجمة أو تعبير جسدي؛ فالسينما جماع فنون عدة تتآزر لصالح فكرة واحدة. الحديث عن الأغراض التجارية من عرض الفيلم السينمائي على الشاشة الصغيرة يجرنا إلى اختراق الإعلانات وموجز الأنباء، حتى إن مساحة الإعلانات تفوق الفيلم ذاته ويبدو تقطيع أوصال الفيلم تافهاً بالقياس إلى إعلان يدر الربح أو حتى الدعاية للقناة ذاتها كما تفعل بعض القنوات لتتحدى الملل، وقد تخترق الإعلانات تسلسل الفيلم أكثر من مرة فتكون العودة إلى الاندماج في الأحداث صعبة للغاية ،«بعد الفاصل»، وتزداد الصعوبة مع طول الفترة، وبعض القنوات تقسم المسألة بالتساوي بين الإعلانات والفيلم الذى يفترض عرضه فتضيف هذه المنغصات حاجزاً جديداً، ويظل امتلاك التليفزيون باستمرار حاجزاً حاضراً، فهذا الجهاز مألوف، والمألوف مزهود فيه، فيكون حضوره الدائم سداً يجعل التواصل مع الفيلم صعباً، هذا فضلاً عن أن «نزول» الفيلم إلى الشاشة يكون نذيراً بإمكانية رؤيته قريباً جداً، على قناة أخرى، فيكون كالكلأ المباح الذي إن فاتك اليوم فستجده تحت قدميك غداً، وربما في موعد أكثر مناسبة.

اقتصادياً، يبدو الأمر معوقاً لمسار الحركة السينمائية؛ فـــ«صناعة» السينما تحتاج رأس المال، وتقوم عليه، وتدمير رأس المال هذا يعطل طاقات إنتاجية، بما قد يحصر المنتجين في فئة معينة تعرف كيف تحصل على الربح بالخلطة التجارية المعروفة.

تختلف لغة السينما تماماً عن غيرها من الفنون، وإذا كنا قد آثرنا التركيز على اختلاف الصوت والصورة في دار العرض عنهما في التليفزيون العادي، فإن وعي الرقابة السينمائية يكون أكثر أريحية عن أختها التليفزيونية - بحكم كونه اجتماعياً بصورة أكثر انتشاراً - ومن ثم يكون العمل السينمائي عرضة لمقص الرقيب التليفزيوني، فيتعاملون معه بوصفه مادة تليفزيونية مما يخل بقواعد الفيلم السينمائي، فيتم اختزاله لمجرد أنه طويل زمنياً، بما لا يتلاءم مع «الخطة» المخصصة للسهرة، فتخرج الأفلام بصورة مشوهة لاعتبارات تخص استغلال وقت السهرة للفيلم وغيره .

نعلم أن دور السينما مخترقة. ومظاهر الاختراق متعددة، ولعلنا لا زلنا نذكر خرق أسماعنا بالمناداة على الشاي والقهوة والمثلجات في سينمات مصر، وآخر «صيحات» الاختراق ربما كانت كاميرا المحمول التي تنقل الفيلم إلى شاشة الكمبيوتر في اليوم الأول لعرضه، بصورة يصعب معها المراقبة ، والتعامل مع الفيلم بوصفه «حدوتة» سبب أساسي لهذا التعامل المنحرف.إن الفارق أساسه حضاري بامتياز، فنحن لا نجيد احترام مجهودات الآخرين، ورحم الله شوقي الذي عدّ تقدير الغرب للمواهب سبباً أساسياً لتقدمهم دوننا. إن السرقة التي يحسها ناقل الفيلم من خلال كاميرا التليفون المحمول تمنعه من النقل الكامل له فيكتفي بما خف حمله وغلا ثمنه كما يقولون ، فضلاً عن أن إمكانيات هاتفه مهما عظمت لا تؤهله لنقل رؤية واضحة للفيلم.

المتابعة النقدية للأعمال السينمائية تنصرف إلى الفترة الأولى من عمر الفيلم ، فتكثر الأعمال النقدية خلال الشهر الأول فيما تتراجع بعد هذه الفترة ، ومساندة النقد للمتلقي العادي وتوعيته وإرشاده إلى مواطن القوة والجمال أو الضعف والترهل في بنية الفيلم مهمة جداً، ولعل متفرجاً واعياً قد يصبح ناقداً من درجة بسيطة بعد تمرسه بالمشاهدة (هل ابتعدنا عن فكرة لذة النص لدى بارت ؟) وذلك الجهد النقدي الحميد ينعدم حال عرض الفيلم في التليفزيون، حتى في أنواع من البرامج كانت تحاول ذلك (نادي السينما مثلاً) فكثيراً ما نجد الضيوف بعيدين عن الحقل السينمائي مقتربين بالفيلم من القص التاريخي أحياناً والتحليل النفسي غالباً .

لا ريب أن للتكنولوجيا الكثير من الأفضال على السينما، غير أن تعاملها مع الفن السينمائي يظهر أن ثمة استعلاء منها على قيم الفن وخصوصياته ومواضعاته، وعدم احترام خصوصية المجال. ويدق ناقوس الخطر أنه سيأتي يوم نرى فيه المعلبات أعيد تعليبها مرة أخرى كما يفعلون الآن مع العلب السينمائية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر / مجلة الدوحة  سبتمبر 2012 .

ساحة النقاش

egyptartsacademy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,272,960