هناك خيط غير مرئي يربط الإنسان بشخصية معينة ويظل هذا الخيط يقوى دون أن يشعر بتلك القوة سوى عندما يكتشف أن تلك الشخصية شديدة الثراء مليئة بجوانب كثيرة ، بحيث تظل متجددة مثمرة مثل شجرة دائمة الخضرة.
هكذا رأيت شخصية سميحة أيوب .... كانت بدايتي معها مسرحيتها ( اجاممنون ) في مسرح الجيب وكانت معي صديقتي الراحلة عايدة الشريف وكانت لدى عادة طفولية شديدة وهى رؤية من يشدني من الممثلين خارج خشبة المسرح وسحبت دهشتي وذهبت لخارج المسرح لباب الممثلين لأحاول رؤية سميحة أيوب ، وكانت مفاجأة زادت من دهشتي وجسدت إعجابي بها.
من أجلها كانت لحظة ألم خاص جدا ـ فقد قال لي أحد زملائها لقد خرجت مسرعة لأن والدها توفى اليوم ....ياالله!....كيف استطاعت أن تستجمع شتاتها وتقدم دورها؟ ياالله!....من أين تأتى بهذه المقدرة ؟
وظللت لأيام أفكر فى هذه الشخصية الشديدة الثراء القوية في التزامها بعملها في اقسى لحظات حياتها...وتواصل فكرى ووصل ... إنه العطاء.....القدرة على العطاء حتى لو كان على حساب الجهد الشخصي ومقاومة الأزمة وظللت أتابعها وفى داخلي مشهد القدرة اللانهائية في مسرح الجيب، لم اترك عملا لها لم أره وكنت في كل مرة ، ومع تعدد الأدوار وتغيير الوجدان ...أجد العطاء والمقدرة على تفحص الشخصية لدرجة عدم الانفصال.
وقد أصبح صوتها مسيطرا على كل نوع من العطاء بحيث تجعل المستمع يعطيها ليس أذنه فقط ببل كل حواسه ومشاعره وكيف لا وصوتها يحمل كل نماذج النساء من تبتل ودعاء وتوبة في ( رابعة العدوية ).
وفى بداياتها حيث أخفت اسمها خوفا من الأسرة تحت اسم سميحة سامي في أوبريت ( عذراء الربيع ) جمعت في صوتها رحيق ألاف الزهور وتغريد مئات العصافير وقمة الأنوثة وليونة طاغية وسيطرة على الحارة في ( سماره ) كلمة سماره تنطقها وتضع فيها نص المسلسل كاملا !! وهذا عطاء وشغف بالعطاء.
وحياة سميحة منذ الطفولة وهى البنت الوسطى بين بنتين لم تهمد فيها الرغبة في تكوين المرأة منذ الصغر ، كانت الأنثى فيها مغموسة بكبرياء وثقة لانهائية ، وضحت حينما سجلت مواقفها تجاه المجتمع ثائرة منذ إصرارها وهى مراهقة على زواجها الأول قاطعة مشوارها الفني الذي دخلته صدفة مع صديقة واختارها الفن....وخاضت المعركة ضد تيار المجتمع ، وتزوجت زوجها الأول ضد تيار الأسرة ...فكل مرة تتثبت الشخصية وصاحبتها تعمل في النضج المبكر....وكان العطاء بالمشوار العنيد.
سيدة الكلمة
حينما سجلت سميحة أيوب ذكرياتها في سفر من ستمائة صفحة من القطع المتوسط، ابتدعت طريقة الصدق المفرط فى الكتابة ، تحس فيها نبض الإنسان في كل سطر ، ليس الكتاب مرصدا للفن وخريطته في مصر فقط ، ولكن نبض الإنسان المصري وخريطته الجينية قبل اكتشاف الجينات ....شخوص محورية في حياتها فهم العظماء ، قيم فكرية بما أعطوا وقيم ثقافية بما رسموا في مصر ومنهم المهمشون ، ولكن الكاتبة وأقوال الكاتبة عن اقتناع ، لأن سميحة أيوب سيدة المسرح ...وجدتها في كتاباتها سيدة الكلمة ، بل الحرف ، كل حرف حملته رسالة ونبضا وصل إلينا واستقر في الوجدان ، وأوصلها إلينا ، واستقرت في موقعها كما هي في القلب .
لا استطيع أن اغفل إهداءها لي بكلمات لا يتطبعها إلا نسيج من الفن والحب كتبت لي:
إلى حميمة العمر وحبيبته نعم الغالية...أهدى لك منى سميحة أيوب في 18/02/2004.
أليست سيدة الكلمة ؟ أليست بهذا التدفق والتلقائية شديدة العطاء؟
لم أجد أجمل من كتابها لأكتب عنها منه ، إنها تقول فى مقدمة الكتاب " أنا ألان فى الشتاء..." صنفتها زمنيا...لا يا سيدتي أرفض التصنيف ، فمثلك لا يكون لها شتاء ، إنني مازلت أتدثر وجدانيا فى عطائك في ( ست الملك ) وفى ( الانسان الطيب ) وفى ( الوزير العاشق ) وفى ( سكة السلامة ) وفى ( كوبري الناموس ) ...وكثير عطائك الذي يدفئ الحياة ويثرى الوجدان ...ارفض التصنيف الكلاسيكي الذي لا يناسب الشخصية التي تقطر تحضرا وعطاء في كل خطوة ! لقد نقلت لنا في ( الوزير العاشق ) كل الأندلس وكل الحب والسياسة.
فإذا كانت هذه الكلمات والسطور والتوقف والنبض هي الشتاء ، فماذا يكون الربيع يا حبيبتي ؟!إنك الربيع الدائم في عنفوانه ....إن الشتاء يذوب ويتبخر بين سطور ذكرياتك ، وحتى وأنت في أشد حالات المواجهة مع الصعاب.
ولأنك لا تنفصلين عنا جميعا ، أصحابك وجمهورك ، فقد أعطيتنا الحق فى مشاركتك حياتك بكل هزيمة مرفوضة وانتصار محسوب في كتابك ، وجدت أن أدب السيرة الذاتية له منهج خاص ، وله خطوط عريضة متفق عليها ، وخطوط حمر لا يعبرها الكتاب عن سيرتهم الذاتية ....ولكنك لتدفقك عبرت كل الخطوط الحمر ، حتى بينى وبين نفسك ، وذلك تأكيدا لإيمانك بالحق فى الحرية ، والذي عبرت عنه في اختيارك لكل أدوارك ، لقد أرسيت قواعد ودستورا غير مكتوب بينك وبين الناس ، وهو أن الحرية ملك لمن يستطيعها واختارت نفسها المنهج الاسترسالى او التدفقى فى كتابة ذكرياتها ، فكان الكتاب هو نبضك ونسيجك المتفرد.
سميحة أيوب المؤسسة
دائما وانا معها ؟ أحس أنني مع شخوص مصر كلها ، ليس لما أدته من ادوار اختارها لها كتابها او مخرجوها ، او الأدوار التى اختارتها بنفسها ، ولكن فى الجلسات الخاصة أحس اننى أمام كل شخوص مصر ، ليس نساءها الفلاحات والهوانم وبنات البلد فقط ، ولكن رجالها أيضا بالتزاماتها وموافقها من كل هموم الوطن ...أحس دائما ان سميحة أيوب مؤسسة كاملة تعمل بنظام محسوب ، لا تضيع فيها اللحظة ، فنانة كواليسها هي المسرح الذي يشاهدها عليه الناس ، ليس لديها ما تخفيه.
مؤسستها أكدت ودعمت فكرة الديمقراطية من خلال فن المسرح ، وانه قائم على الاختلاف واستطاعت ان تتواصل مع جيلها لرفعة الفن وإزالة الحرج والوجود فى منطقة مغلقة.
وسميحة أيوب لأنها مؤسسة مدروسة وناجحة ، استطاعت أن تكسب معارضيها بذكاء ، وذلك لسلوكها الدائم في شراكة من حولها وإعطائها الحق للمتلقي بحرية الحركة معها دون حرج.
والذي يستمع اليها تحكى عن حياتها واسرتها يجد صورة رائعة للاسرة المصرية من خلال العلاقات بين الوالد والوالدة والاخوة ثم حماية خالها لها فى اثناء اصرارها على دراسة الفنون المسرحية وقمة التحضر لهذا الخال ، وهى منذ طفولتها ومراهقتها فى داخل بناء الاسرة ، ثائرة فاعلة فى دينمايكية عقلية واعية...ثورة تواكب التطور وتوصل بالتغيير ، وكأنها على سلك مشدود لانها استطاعت ان تحافظ على التقاليد رغم اعتراضها الدائم بالمتناقضات التى تعيشها فى مجتمع ذكورى ، ورغم ذلك استطاعت ان تحافظ على نسيج المراة المصرية المحافظة من غير تزمت.
الام وسيدة المطبخ
واذا رأيت سميحة ايوب أما نسيت تماما تلك التى يأخذك صوتها واداؤها وامتلاكها لزمام الشخصيات التى تقوم بها ، اذا رايتها احسست انها فلاحة لابد ان تلحق بموعد ارضاع طفل ، او موظفة تستتيقظ صباحا ليصحو صغارها للمدرسة ، اما الزوجة فلا اعتقد ان هناك زوجا سعد بزواجه مثل الكاتب الكبير سعد الدين وهبة الذى شده اليها تمثيلها وشخصيتها وملأت موهبته رغبة فى الكتابة المسرحية ، كانت بطلة لأعظم أعماله ، ولكنها كانت زوجة ترتب صالونه ليس اثاث الصالون ولكن صالون الادب والحوارات وشحذ الهممة السياسية لرجل ضفر الثقافة بالسياسة ، وزاملها فى عطاء لمصر لم يسبق عطاء زوجين مثلهما ابدا.
رأيت سميحة ايوب مديرة المسرح القومى التى تدفع بالاجيال ، ممثلين ومخرجين ومؤلفين تدير العمل الفنى بكل حنكة ومقدرة ...تخرج من المسرح القومى الى بيتها فورا.
ليه يا سميحة استنى شوية
خلاص خلصت شغلى اروح اعمل غدا سعد وهبة.
وحاول سعد وهبة فى أول زواجهما أن ياتى لها بطباخ ، ولكن هو نفسه الذي استغنى عن خدماته فلا طعام الذ من طعام يديها.
ان سميحة أعطاها الله الصحة والعافية وصفاء النفس لا تستطيع الا الإجادة ....فهي كما هي سيدة المسرح هي سيدة المطبخ وهى شديدة المصرية فى مطبخها ايضا حيث لا تشعر وان ترى مائدتها ألا انك فى مصر ، سواء فى دوار أعظم عمدة او مائدة اى باشا فى القاهرة القديمة ، ان صناعتها العطاء حتى أصبح العطاء امرأة .
سميحة أيوب ومواقف سياسية
لقد استطاعت سميحة أيوب بلا تعمد ولا مباهاة ، المشاركة في حركة التغيير الاجتماعي في مصر ليس من اختيارها لأدوارها فقط ولكن لإدارتها للازمات وموقفها بجانب الفن والفنانين ، وقد واجهت انتصار الجيش فى أكتوبر فحولت خشبة المسرح إلى نبض يواكب ويؤازر ما يحدث فى الجبهة ، وأدخلت الفنان محمد نوح دائرة الضوء بمسرحية غنائية ( مدد...مدد شدي حيلك يا بلد ) وجعلت مصر تغنيها معه ، ثم قدمت مسرحيتي ( العمر لحظة ) و ( رأس العش )...لم تترك الوجدان المصري فارغا مستقبلا فقط لنشرات الأخبار ، ولكنها كأى سياسي محنك جهزته للتفاعل مع الحدث العظيم ولم تكن سميحة بعيدة عن فكرة الروبة ، فكانت لديها حركة جغرافية للفن المسرحي فى الوطن العربي ووقفت على خشبات مسارح الأردن والعراق وتونس والمغرب ولبنان والجزائر وسوريا والكويت واليمن ....ثم أوصلتنا مسرحيا إلى أوروبا والى أم المسرح فرنسا ، حيث قدمت مع الفنانة امينة رزق رائعة جان راسين " فيدرا " ....وسميحة لم تكن فى باريس سميحة أيوب ، كانت مصر.
سميحة أيوب لا تؤمن بوسيط واحد في العطاء بل تؤكد بعملها موسوعية العطاء للفنان بين المسرح والإذاعة والتليفزيون بحيث يتأكد لديها وصول عطائها إلى كل الناس.
ان الفنانة الكبيرة سميحة أيوب الواعية لإنسانيتها والمتدفقة في رقتها ، والباصمة على جدار الوطن بكل مواقفها ، سواء بعطائها على خشبة المسرح او باختياراتها لنصوص تدعم الإصلاح والديمقراطية أو بمشاركتها فى الحياة الاجتماعية السياسية ....انها مستحيلة التلخيص ... أنها امرأة صاحبة رأى عام مصري عربي مؤكد ، وقد استطاعت أن تحافظ على التقاليد على رغم إيمانها بأهمية الوقوف ضد تيار المجتمع الذكورى لتثبت حقوق المرأة كرفيقة كفاح ، ولها الحق الكامل فى التكامل.
الغالية سميحة
صداقتك في القلب وعطاؤك الثقافي والفني فى العقل والوجدان ، وأنت واصلة إلى تحقيق مقولتي ( سميحة أيوب العطاء امرأة ) ، فالحياة _ أعزك الله – تنمو وتزدهر بالعطاء ، وتحبو وتضمحل – قواك الله – حينما يعز عطاء البشر.
المصدر/ أيام الشارقة المسرحية2011
الدورة/ الخامسة- تكريم الفنانة القديرة سميحة أيوب
بقلم/ نعم الباز
ساحة النقاش