غمرنا الدفء فى قلب الشتاء، وبددت شمس الفن الحقيقى غيوم الركود عن مسرحنا لتجلوه فى عيد رائع وتجددت معجزة اليونان الحقيقة التى جعلت من التراجيديا الحزينة رمزاً للتآخى فى القدر الإنسانى ورمزاً للاستمرار والبقاء برغم الفناء الماثل، وبرغم الشروط المتشابكة والمحيرة التى تحيط بالوجود الإنسانى. ولسوف يذكر عشاق المسرح هذا الشهر دائماً على أنه عيد ديونيسى صغير. مهرجان يونانى قصير من مهرجانات ديونيريوس رب المسرح الممزق والمبعوث من جديد: الفدية والغفران فى آن معاً. فمن طقوس الأعياد الديونيزيو القديمة ورثنا "أجاممنون" لأيسخيلوس، ومن الأرض التى أنجبت ايسخيلوس جاءنا ذلك العمل الطموح الذى يستلهم روح المأساة الحقة: "جسر آرتا" لكاتب اليونان المعاصر جورج ثيوتوكا.
ويكاد يجمع نقاد المسرح ومؤرخوه على أن أجاممون وثلاثية الاوريستيه التى تكون "أجاممنون" جزءها الأول، هى واحده من أعظم الأعمال فى تاريخ المسرح كله. فما الذى يجعل لمسرحية أجاممنون كل هذه الأهمية؟ إن أسهل الأمور على الإطلاق هو أن نطلق العنان لحرية التفسير والتبرير لنستخرج "المعانى" البعيدة والمبتكرة التى تجعل من أجاممنون مأساة معاصرة إلا أن العيب الحقيقى فى هذه الانطباعات السهلة هو أنها تقودنا دائماً بعيداً عن حقيقة العمل وعن روحه وهدفه، وأنها حين تفعل ذلك تحجب الإضافة الحقيقية التى يمكن أن يثرينا بها المسرح. فهى تجعلنا نعكس أفكارنا الخاصة على ما نراه ونكتفى بهذه الآراء، بينما يضيع صوت الفنان الحقيقى وسط زحمة النقد والتفسير.
فلنتمسك إذاً بالأسلوب القديم الذى أصبح يبدو بالياً أسلوب رؤية الأعمال من خلال النصوص وحدها بقدر ما نستطيع ليخفت صوت الناقد والمفسر ليرتفع صوت الفنان ولنحاول أن نفهم ما يريد الفنان أن يقوله بأن نعايش عمله بدلا من أن نسعى لتطبيق مقاييسنا النقدية الجاهزة على الاعمال التى نراها وبدلا من قياس الاعمال بميزان أرسطو لنرى هل تخف موازينها أو تثقل عن كتاب الشعر فأرسطو العظيم لم يقل فى أى مكان من كتاب الشعر أو غيره أنه اكتشف الحقيقة الكاملة فى الفن ولا أننا يجب أن نحاسب الفنان طبقاً لاكتشافاته.
وكل هذا الكلام هو رد على اتهامات سمعتها تتردد فى مسرح الجيب وجدت طريقها إلى النشر ومفادها أن أيسخيلوس ممل لأنه يسهب فى دور الكورس بينما يبطىء فى تقديم "الحدث" و "تطوير الشخصية" – هذه المصطلحات التى بلغت من القداسة حد أنها أصبحت بديهيات لا يناقشها أحد ، وحد أنها أصبحت تفسد على الكثيرين متعة التذوق المسرحى السليم.
وما أريد أن أقول هنا ليس دفاعاً بأن ايسخيلوس كان يهتم بالحدث والشخصية ، بل عكس ذلك تماماً وهو أنه لم يكن يبالى بشىء من ذلك على الإطلاق (طبقاً لأسلوب تخيلنا المعاصر عن هذه المصطلحات). فما كان يهم أيسخيلوس (وكل كاتب مسرحى حقيقى فى واقع الامر) هو أن ينقل عن طريق المسرح "موضوعيا درامياً" وهذا الموضوع الدرامى يتضمن فكره وفلسفته الخاصة بالصورة الفنية الملائمة لهذا الفكر والفلسفة – بحيث يصبح الفن والفكر شيئاً واحداً لا يقبل القسمة.
وليس هذا اكتشافاً خطيراً من عندى بطبيعة الحال، فكل إنسان يتكلم عن وحدة "المضمون والقالب" كما يقال اليوم . ولكننا ننسى ذلك دائماً عند التطبيق، ونهرع إلى المصطلحات لتحاكم بها الفن.
فإذا نظرنا للنسيج الدرامى لمسرحية أجاممنون على أنه يتضمن فى ذاته رؤية الفنان الخاصة فإننا سنجد أنفسنا أمام عالم بالغ الثراء والروعة عالم لا تصبح فيه أناشيد الكورس مجرد تمهيد أو تعقيب بل تصبح هى "الفعل" و "الدراما" فى أنقى صورها. لو أسلمنا أنفسنا للعمل دون تحفظ لنفذ إلينا بسحره الذى لا يبلى.
وهذا هو ما كان يفعله المتفرج الأثينى الحصيف فى القرن الخامس قبل الميلاد حين يشاهد المسرحية. لقد كان هذا المتفرج يعلم سلفاً أجاممنون وآل اتريوس، ولكنه كان ينتظر من المؤلف أن يضىء له الاسطورة بفنه الخاص: أن يحول الأسطورة إلى تراجيديا.
أما الأسطورة فهى قصة الهول الذى نزل بآل اتريوس منذ حلت اللعنة بالأسرة الشيقة، وقد بدأت الجريمة التى تعنينا هنا بإثم مركب : أغوى ثايستيس زوجة آخيه اتريوس فانتقم الأخ انتقاماً مروعاً. تظاهر بالصفح عن أخيه ثم دعاه إلى وليمة مخيفة جعل ثايستيس يأكل فيها لحم أبنائه جميعاً (عدا واحد منهم هو الثالث عشر) – وحين علم ثايستيس الحقيقة لفظ من جوفه لحم أبنائه وصب اللعنة على نسل أتريوس كله. وبدأت اللعنة تسرى فى الموسومين. فها هو أجاممون بن اتريوس وقد صار ملكاً على بلاد آرجوس يقود جيش اليونان لحصار طروادة بعد أن أغوى باريس الطروادى زوجة أخيه مينلاوس وفر بها إلى طروادة، وهبت اليونان لتثأر للمهانة التى لحقتها. لكن اسطول الثأر يقف هامداً وسط البحر لا تحركه الريح الى هدفه. وتاتى نبوءة الالهة مطالبة بثمن فظيع حتى تدفع للأسطول بالريح الرخاء. لن يكون هذاالثمن سوى افيجبنا ابنه أجاممنون نفسه. ولا يضن أجاممنون بالقربان المطلوب. يبعث فى طلب ابنته ويخدعها هى وأمها كليمنسترا إذ يزعم أن يطلب افيجنيا ليزوجها من البطل آخيل. وحين تساق إليه أفيجينيا يدفعها إلى المذبح قرباناً للحرب والنصر. ويمضى الاسطول فى طريقه، وتمضى اللعنة فى طريقها.
عشر سنوات قضاها جيش اليونان بقيادة أجاممنون فى حصار طروادة، وعشر سنوات قضتها الأم المكلومة كليمنسترا لينهى إليها أنباء الحرب. والحارس يضرع الى الآلهة أن تنهى عذاب وقفته الطويله، وأن تأتى الرسالة المرجوة بسقوط طروادة، ثم يومض ضوء مشعل فى الافق فيبتهج الحارس: ها هى علامة سقوط طروادة وبشير عودة الجيش .. لكن نغمة الحارس الفرحة سرعان ما يشوبها الحزن، فثمة أشياء تحدث فى قصر أجاممنون لا يريد الحارس أن يبوح بها ولكنها تثقله بالهم.
وهذا الجو من الحزن الثقيل يخيم على المدينة بأسرها كما نرى على الفور. فالحارس يخرج ليبلغ أنباءه إلى الملكة بينما تدخل الجوفة من شيوخ آرجوس، الذين أبقتهم شيخوختهم بعيداً عن الحرب.
إنهم أيضاً ينتظرون عودة الغائبين . وفى خلال نشيدهم الطويل عن الحرب يصورونها لنا على أنها نقمة لم تنزل بطروادة وحدها، بل نزلت بآرجوس أيضاً – بشعبها وقصرها – إنهم يذكرون ايفيجنيا لا على أنها قربان ضرورى للنصر، ولكن على أنها ضحية بريئة من أجل مجد شخصى .. فأجاممنون:
بات لا يبصر غير المجد نوراً
وشرى المجد بعذراء بريئة
مجد هيلاس أنبنى أفكا وزورا
إن الكورس لا "يروى" لنا ما حل بايفيجنيا ولكنه يحدثنا عن الظلم الذى حل بالفتاة البريئة – وهو يقدم لنا صورة التضحية بها على نحو آخاذ لنتعاطف معها فى مصيرها الأليم، ولنرى أبعاد الإثم الذى ارتكبه أجاممنون – وحين ينتهى نشيد الكورس تدخل كليمنسترا لتنهى إلى الجوفة نبأ النصر، ويبدى الشيوخ تشككهم فى النبأ، ولكن الملكة تحدثهم عن الخطة التى دبرتها لتعرف بها الأخبار، خطة المشاعل على طول الطريق من طروادة إلى آرجوس.
ويبدى الشيوخ إعجابهم: إن كليمنسترا امرأة واسعة الحيلة . وسوف يكون لهذا أهميته.
على أن نبأ النصر لا يبعث الفرحة فى قلوب الشيوخ بقدر ما يذكرهم بأحزانهم: بالجنود والابطال، الذين سقطوا صرعى طوال سنوات الحرب وعادت رفاتهم للمدينة ليبعث اللوعة فى كل قلب. إن حرب أجاممنون قد نشرت الخراب فى آرجوس.
فأما الذين بقوا أحياء من الجند فقد كان عذابهم أكبر. فها هو رسول من الجيش أوفده الملك ليؤكد ما عرفناه من قبل: انتصر الجيش والملك فى طريقة إلى مدينته. إن الرسول أيضاً لا يتحدث عن أمجاد النصر بقدر ما يتحدث عن عذاب الجنود وآلامهم فى سنوات الحصار الطويلة. وهو أيضاً لا يصور انا بهجة المنتصرين بقدر ما يصور لنا الدمار الذى يحل بطروادة على أيد أجاممنون:
هو الذى دمر كل هيكل
وحطم الأقداس فى طروادة
وهو الذى خرب كل نبت
وحصد الرءوس كالسنابل
فنحن نرى إذاً أن الملك المنتصر لم تأخذه الشفقة بأعدائه ولم يرع حرمة الآلهة المقدسة فى معابدهم
وحين يخرج الحارس ينشد الكورس مرثية لطروادة يؤكد فيها أن ما حل بالمدينة إنما كان عقاباً من الآلهة باريس وهيلينا:
إنما بؤس الحياة
هو من غرس الخطاة
زارع الشعر الأثيم
يحصد الشر العظيم
هكذا كل الثمار
محتواة فى البذار
وإذ ينهى الكورس نشيده عن الإثم والعقاب يدخل أجاممنون.
لقد أصبح التلميح الآن واضحاً. إننا نرى الآن أجاممنون فى ضوء جديد لا علاقة له بالأسطورة نحن لا نرى أجاممنون القائد المنتصر، ولا أجاممنون الذى سلطت عليه اللعنة العمياء، ولكننا نرى قاتل افيجينيا، وقاتل جنده ومعذبهم، الذى دك صرح الآلهة واستباح طروادة : نحن نرى أجاممنون الآثم.
ويدخل أجاممنون المسرح فى عجتله الحربية تتبعة أسيرته كاسندرا الأميرة الطروادية السبية.
لقد كانت كاساندرا كاهنة آبولو المكرسة للإله والمحرمة على البشر، ولكن الجيش اختص قائده بهذه السبية الرفيعة المقام. إثم جديد فى حق السماء.
وتستقبل كليمنسترا زوجها استقبالا حافلا يليق بالبطل العائد بعد غيبه عشر سنوات. تمد له بساطاً أرجوانياً قانياً ليخطو عليه إلى القصر. ويتهيب أجاممنون من هذا البساط. فذلك أيضاً لون من التكريم يخص الآلهة ولكنه محرم على البشر. ولكن كليتمسنرا تنجح فى إغوائه فيترجل عن عجلته ليخطو على البساط القرمزى المحرم.
ويدخل أجاممنون القصر بعد أن ارتكب هذا الاثم الاخير بينما تطل كاسندرا وحيدة مع شيوخ آرجوس. وتغنى كاساندرا غناءها المروع تنعى نفسها آسرها معاً وسط ذهول الشيوخ، فالملك قد عاد لتوه منتصراً ودخل قصره شامخاً فى جلال عظيم، فهل يسقط لتوه؟
هذا ما تتنبأ به الكاهنة الأسيرة. إن كاساندرا لا تضيف شيئاً جديداً إلى ما نعلمه فهى تحدثنا عن الجريمة الأولى جريمة وليمة أبناء ثايستيس التى نعرفها، وهى تحدثنا أيضاً عن خيانة كليتمنستر لزوجها وقد لمح الحارس إلى ذلك من بادىء الأمر وأضافت الجوقة الشىء الكثير إلى شكوكنا فى مسلك الملكة على أن ما تفعله كاساندرا هو أنها تبلور بحضورها وبإنشادها الجارف المتوتر مأساة أجاممنون الحقة، لعنة ثايستيس، جريمة قتل الاطفال القديمة وجريمة قتل ايفيجينيا جريمة انتهاك طروادة ودمارها، دك المعابد وسبى الكاهنات وقتل الابرياء الماضى والحاضر يصبحان شيئاً واحداً – جريمة واحدة متصلة – وحين يصبح هذا الادراك واضحاً كالوهج لا يمكن احتماله تدخل كاساندرا الى القصر، ثم تدوى من الداخل صرختان.
وتخرج كليمنسترا يلطخها الدم:
"هذه يدى يد العدالة ... سقته كأس الدم فى بسالة"
نعم لقد قتلته وقتلت كاساندرا "السبية البغى .. شريكة على فراشه" . لقد انتقمت لنفسها .. انتقمت لايفيجينيا التى قتلها أجاممنون لشهوة المجد. بل لقد انتقمت لثايستيس أيضاً فها هو شريكها فى الجرم يخرج من القصر. إنه أيجستوس الابن الثالث عشر الذى نجا من مذبحة أتريوس لأبناء ثايستيس. لقد أصبح عشيق الملكة فى غياب زوجها وها هو يعلن ايضاً انه انتقم لأبيه وأخوته.
ها هى ذى يدى أداة العدل
قد بلغته رغم بعد الشقة
ولا تقتنع جوقة الشيوخ بذلك كله. لا تقتنع بأن الجريمة الجديدة قد غسلت الجريمة القديمة، وحققت العدل: فالعاشقان ليسا بريئين وليسا مجرد منتقمين. لقد كانت شهوة الإثم وراء الجريمة، ولقد قتلا كاساندرا البريئة. وتطلق الجوقة صيحتها فى وجه ايجيستوس: فهى تصلى ليعود اوريست ولد اجاممنون المنفى عن وطنه حتى ينتقم لأبيه المقتول. فهل تبدأ الدورة من جديد؟..
لقد صلت كليمنسترا لتكون جريمتها هى الأخيرة، ولكن أيسخيلوس يوحى إلينا بأن زماناً طويلاً سوف يمر قبل أن تنتهى الجريمة والشر من بيت آل اتريوس، وسوف يكون هذا موضوع ما يبقى من الثلاثية الأوريستيه، أما الآن فنحن قد رأينا مأساة أجاممنون كاملة.
ومن الواضح أننا لو طبقنا القواعد الأرسطية، أو القواعد الأرسطية المتطورة على هذه المسرحية لما كانت مسرحية على الإطلاق. فليس هنا من الأحداث إلا أقلها كما رأينا. وليست هنا شخصية متعددة الجوانب يمكن أن ندرسها من كافة أبعادها. بل أننا لا نرى أجاممنون بطل المأساة إلا فى مشهد واحد يخضع فيه لإغراء كليمنسترا ويخطو على بساط الأرجوان إلى حتفه. وليس هنا أيضاً ذلك البطل التراجيدى الكامل الذى يشوبه نقص أو عيب ما. فأجاممنون (فى المسرحية) آثم أكثر منه ضحية. أما الكورس الذى يريده أرسطو أن يكون شريكاً فى التمثيل "كما هو الحال عند سوفوكليس وليس عند يوربيديس" – فهو يوشك عند أيسخيلوس أن يكون هو الممثل أجاممنون فيقول فى مجلة صباح الخير:
"الحق" أن "آبونا" أيسخيلوس لم يقدم لنا من شخصية آجاممنون غير خامة عظيمة على لسان الكورس، الذى يحتل ثلاثة أرباع المسرحية وربما أكثر .. روى لنا حكايته .. أما أجاممنون شخصياً فلم يستحضره لنا إلا فى موقف سريع عابر .. أما أجاممنون فى صراعه مع نفسه ومع القدر فلا شىء منه غير الرواية – حتى مصرعه الذى يحدث داخل القصر لا نسمع منه غير صرخة موجعة أليمة يعود بعدها عجائز الكورس إلى التعليق!! ...
مرة أخرى "حدوتة" هى أجاممنون تلقى بشكل أناشيد وتراتيل".
ويستحق الأستاذ عبد الله الطوخى كل الشكر؛ لأنه عبر بصراحه وبأسلوب مباشر عن شعوره نحو مسرحية أجاممنون ونحو أيسخيلوس، فى الوقت الذى عبر فيه كثير من الكتاب عن شكواهم بصورة مبهمة ومدغمة خشية أن يتهموا بالجهل وعدم تذوق الفن الرفيع. ولكن لنا بعد ذلك أن نختلف مع الاستاذ الطوخى فى الراى وان نحاول توضيح اوجه الاختلاف.
فنحن نختلف اولا فى المدخل. فمأساة أجاممنون وليست شخصية أجاممنون هى محور المسرحية. ومأساة أجاممنون عند ايسخيلوس هى مأساة إثم الضحية إن جاز هذا التعبير. فليس أجاممنون كما رأينا مجرد إنسان موسوم تحل عليه اللعنة آلياً من السماء، ولكنه يصنع بنفسه الجريمة أو الجرائم التى يستحق من أجلها اللعنة. وليست كليمنسترا مجرد أم مكلومة تنتقم لابنتها ولكنها امرأة آثمة – فى الوقت الذى تنفذ فيه جانباً من العدالة بقتل القاتل ترتكب الظلم والإثم الذى تستحق من أجله العقاب. فاللعنة الحقيقية التى حلت بآل اتريوس هى أن يصنع كل فرد لعنته الخاصة حراً وبمحض إرادته إذ يخطو بأقدامه إلى الشر والهلاك، ولكن هلاكه فى الوقت نفسه هو جريمة جديدة تنتظر التكفير . ولا تنبع المأساة هنا من صراع داخلى فى نفس البطل، ولا من عيب واحد فى شخصيته، ولكنها تنبع من صراع بينه وبين القوانين الكونيه – قوانين العدالة، والتقوى واحترام الآلهة والحبة بين البشر.
وفى نطاق هذا التصور للمأساة فإن "الدراما" لا تصبح صراعاً بين شخصيات أو إرادات إنسانية، بل تصبح صداماً بين الإنسان وبين القوانين الكونية، ذلك الصدام الذى ينتهى بحتمية سقوط الإنسان الآثم. ويصبح التطور فى الدراما هو تطور هذا التحدى من جانب الإنسان والاقتراب التدريجى للحظة السقوط . بمعنى أن ذلك يصبح هو الشىء الذى نتوقعه ونتابعه فى مقابل تتبعنا لنممو الصراع بين الشخصيات فى الدراما التقليدية.
ويقتضى هذا المنهج أن تصبح أفعال البطل التراجيدى التى تتضمن ذلك التحدى هو محور الانتباه الأول، وأن تقيم دلالتها الأخلاقية أولا بأول. وهذه هى وظيفة الكورس، التى لا تستطيع أى شخصية أن تحل محله فيها.
فليس الكورس إذاً مجرد "راوية" لحدوتة كما يقول الأستاذ الطوخى، ولكنه ضرورة فنية .. وكل نشيد يقوله، بل وكل بيت هو خطوة إلى الأمام فى نمو الدراما، وفى بناء حركة التوتر المتزايد التى يتطلبها هذا اللون من التراجيديا. والكورس لا يحقق هذه الغاية بفضل طاقة الشعر اللانهائية وحدها، بل بفضل التطوير التدريجى لاكثر من موضوع فى الوقت نفسه إلى أن يتضح دفعة واحدة الترابط بين هذه الموضوعات جميعاً فى ذروة المأساة.
وفى مأساة أجاممنون كما راينا تتجمع هذه الخيوط كلها فى يد كاساندرا فى آخر الأمر. وأن النجاح الباهر الذى حققه هذا المشهد على المسرح عندنا (فى الوقت الذى يتجمد فيه "الحدث" بمفهومه المقدس) لهو شهادة كافية على بلاغة هذا النمط من التأليف التراجيدى وعمق تأثيره. على أننا كما ذكرت فى البدء ندخل إلى المسرح وقد تحصنا سلفاً بالمصطلحات والآراء المسبقة حتى أن الأمر أصبح يقتضى ضربة على رءوسنا قبل أن نفيق على صوت الفن الحقيقى. وقد جاءت الضربة فى هذه المرة من أداء عبقرى لممثلة شابة هى محسنة توفيق "كاساندرا".
ويقودنا هذا إلى الحديث عن العرض المسرحى. فإذا كانت (الكاتب) قد وجهت فى الشهر الماضى عتاباً للأستاذ كرم مطاوع لتفسيره المتطرف لمسرحية شهرزاد، فإنها تواجه له الآن التحية دون تحفظ لإخراجه لمسرحية أجاممنون. فلقد استطاع الأستاذ كرم أن يبرز التراجيديا الحقة حين جعل الكورس هو المحور والاصل الذى يدور حوله العمل، وحين استطاع أن يحل مشكلة حركة هذا المجموع الكبير فى إطار المسرح الدائرى الصغير دون أن يفقد الحركة جمال التشكيل المعبر، وحين أحاط المسرح باللوحات الحائطية التى تصور مشهد تضحية ايفيجينيا ثم سلط عليه الأضواء فى اللحظات المناسبة ليوضح ذلك الارتباط والتلازم بين الماضى والحاضر،وحين جعل من الملابس شيئاً بديلاً للقناع اليونانى القديم (الأحمر لكليمنسترا، والأسود لأجاممنون والابيض لكاساندرا ، والبنى الوقور للكورس" وحين أظهر من الاقتصاد الفنى ما جعله يستغنى عن البساط الارجوانى الشهير بالإضاءة الحمراء وثوب كليمنسترا.
ولقد كان المرء يود لو أن المخرج التزم بما جاء فى النص فجعل الكورس بأجمعه من شيوخ آرجوس (بدلا من الإيحاء بقناعين عن أعمارهم" لأهمية ذلك بالنسبة للمسرحية، فكورس الشيوخ يصور بوجوده المحض جو الخراب، الذى يدين أجاممنون فى آرجوس. على أن نجاح المخرج فى السيطرة على أداء الكورس وتوزيع الاصوات وتنسيقها لخدمة الموضوع – كل ذلك يغفر هذه النقطة الصغيرة. كذلك فإن أسلوب الكورس فى الاداء الرصين والبعيد عن البكائية والعاطفية هو أمر يجب أن ينسب الفضل فيه للمخرج (مع التقدير الكامل لدور الممثلين).
وأهم من ذلك كله فيجب أن نذكر له تمكنه من التغلب على جمود الترجمة وتطويعها للأداء المسرحى السلس، فالواقع أن أفضل الاجزاء فى ترجمة الدكتور لويس عوض لمسرحية أجاممنون هو حديث الحارس فى بداية المسرحية والذى ترجمه نثراً. وليس الكلام هنا عن دقة الترجمة، فذلك أمر ينبغى أن يكون الرجوع فيه إلى الأصل اليونانى بالذات، ولكن ما يعنينا هو مدى قابلية الترجمة للأداء المسرحى، ومدى محافظتها على روح الشعر، ومدى محافظتها على جلال التراجيديا، ولننظر إلى هذا المثال من حديث كليمنسترا الذى تختتم به المسرحية:
لا تلق بالا واهمل الاوغادا
نبح الكلاب ارق الاسيادا
أنت شريكى فلتطب فؤادا
سنحكم البلاد والعبادا
فالوقفة الممدودة فى نهاية كل فقرة تفرض إيقاعاً بطيئاً يتنافى مع الجو العاصف الذى تختتم به المسرحية، ونخلق بالنسبة للممثلة صعوبة بالغة فى المحافظة على تسلسل المعنى، وهذا المثال يتكرر فى المسرحية بأسرها، ولعل لهذا الإيقاع الذى يفرضه الترجمة هو المسئول (وحده ياترى)؟ عن طول مدة العرض مما أرغم المخرج على الاختصار من هذا النص المحكم . كذلك فإن الترجمة تفتقر فى معظمها إلى الإلهام والخيال الشعرى، وتتحول إلى نظم رتيب ويبدو أن زماناً طويلاً سوف ينقضى قبل أن تظفر المكتبة العربية والمسرح العربى بشىء يقرب فى جلاله وروعته من ترجمات الدكتور طه حسين النثرية للدراما اليونانية.
على أنه من حسن الحظ أن أتـيح لمسرحية أجاممنون مستوى رفيع من الأداء ينسيك هذه العيوب فى معظم الوقت. فاستطاعت سميحة أيوب بسيطرتها المحكمة على الأداء وموهبتها الكبيرة أن تجسد شخصية الملكة الطاغية المنتقمة : بنبرة الصوت المرتفعة وجلال الحركة والإيماءة. كذلك تمكن عبد الله غيث فى دوره القصير (ايجيستوس) من أن يصور شخصية العشيق الضعيف، الذى يغطى ضعفه بالجعجعة والعنف. أما نجيب سرور فى دور أجاممنون فقد كنت أتمنى أن يتخلى قليلاً عن وقار الملك ليظهر فى شىء من الإسراف الفنى مدى العنف والكبرياء الكامنين فى الشخصية. ولقد أشرت من قبل إلى ذلك التألق الباهر الذى حققته محسنة توفيق فى دور كاساندرا، على أن ما حققته محسنة فى هذا الدور يقتضى وقفة قصيرة. إن ذلك التنقل ما بين الصراخ الأليم الصادق إذ تنعى نفسها إلى ذلك الغناء الحزين، الذى ترثى فيه وطنها إلى لوثة العرافة المحمومة التى تبلور الماضى والحاضر والمستقبل فى لحظة واحدة – كل هذه التنقلات الصعبة تستطيع الممثلة المحترفة أن تحققها بدرجات متفاوتة من الكفاءة. ولكن محسنة لم تفعل ذلك. لم يكن ما أثار جمهور المسرح، ودفعه إلى التصفيق المحموم، هو براعة الصنعة المسرحية بل ذلك التقمص الوجدانى الصادق للشخصية بحيث لم تكن هناك مراحل أو انتقالات، بل لحظة من الحضور الحى للموهبة أوشك أن ينتفى فيها الزمن.
إننى لا أستطيع أن أفسر. لقد كانت محسنة توفيق هى الذروة فى متعة مسرحية حقيقية، وهذا كل ما فى الأمر.
كلمة عن الجسر
لا يتسع المجال هنا لأكثر من توجيه التحية للمسرح العالمى ولكل من أسهموا فى تقديم مسرحية جسر آرثا. فلقد استطاع المخرج الأستاذ سمير العصفورى أن ينتقل للمسرح تلك المأساة المعاصرة عن التضحية والفداء بدرجة عالية من الكفاءة. فرأينا فى إطار شاعرى مأساة رئيس البنائين الذى دفع زوجته ثمناً ليشيد الجسر، وقرباناً للبناء الذى يحتاجه المجتمع – ثم وجد نفسه وحيداً فى عزلة الأبطال المنفيين، منبوذاً من الناس الذين كانت تضحيته من أجلهم واستجابة لندائهم، وتمكن المخرج من أن يجسد هذه الدراما التى يمتزج فيها الحوار بالغناء، والفانتازيا بالواقع الصلد دون أن يفقد عمله وحدة الطابع أو وضوح الرؤية. وتبدت فى المسرحية أيضاً مزايا ذلك المخرج الشاب من احتفاء بالجانب التشكيلى للعرض، وعناية بتكامل عناصر العمل المسرحى من الديكور والإضاءة والموسيقى لتعبر عن مفهوم موحد هو إثم البطل وعزلته. على أن المرء كان يتمنى لو أن المخرج تدارك فى عرضه غلطة بارزة هى إهمال أية إشارة واضحة إلى اكتمال بناء الجسر أو إلى مرور الزمن. وقد أتاح لنا هذا العرض أن نرى حمدى غيث ممثلاً، فأوشك أن يذكرنا بجلال أبطال التراجيديا القدامى (فى دور رئيس البنائين) لولا ميله إلى البكائية السهلة القريبة من الميلو دراما فى بعض الأحيان. على أنه فيما عدا التمثيل الجيد لحمدى غيث، والتمثيل المبشر بالخير من نادية رشاد (زوجة البناء) التى تظهر تقدماً ملحوظاً ومنتظماً – فقد كان الأداء الفردى من جانب ممثلى المسرح العالمى متوسطاً ودون المتوسط فى بعض الاحيان ... كذلك فإن وجود حسن البارودى فى دور "المغنى" أو الراوى قد أكسب هذا الدور الصغير الأهمية المطلوبة له- ولكن المرء كان يتخيل أسلوباً آخر فى تناول هذه الشخصية غير أسلوب الأداء الشعرى هو أسلوب الغناء الصريح. وقد لجأ المخرج إلى الغناء فى أداء كورس العمال، وكان الأوفق أن يوحد هذا المنهج بالنسبة لغناء المغنى بالذات.
على أن العمل يحتفظ رغم ذلك بكل عناصر العمل الناجح فالترجمة الشاعرية الرقيقة التى قام بها الدكتور نعيم عطية عن اللغة اليونانية الحديثة – قد صادفت تجسيداً واعياً على المسرح – فحققت نجاحاً حقيقياً على المسرح، ولا يملك المرء إلا أن يهنىء المسرح العالمي وأن يهنئ مؤسسة المسرح أيضاً على هذا الشهر الناجح. ونتمنى لو أضافت المؤسسة إلى مآثرها مكرمة جديدة فآوت الفرق المسرحية الشريدة (العالمى والحديث بالذات) – فى دور مسرحية تكفيها ولو حتى نهاية الموسم.
المصدر / كتاب - بهاء طاهر ناقداً مسرحياً
إعداد وتقديم / شعبان يوسف
ساحة النقاش