ما يحدث الأن فى عالم المسرح أكبر من أن تستوعبه مقالة واحدة أو سلسلة من المقالات. إن ظروف المسرح فى بلادنا الآن تحتاج إلى أن يخلص الإنسان نفسه من ركام التفاصيل ليحاول الاهتداء إلى معالم الطريق الذى نسير فيه، وفى الحيز الصغير المتاح هذا الشهر فسوف تقدم "الكاتب" محاولة. هى دعوة للنقاش والاهتمام بمسار مسرحنا أكثر منها أحكاماً نهائية.
ولنبدأ من البداية – لماذا نحب المسرح؟ لماذا احتل المسرح فى حياتنا الثقافية خلال أعوام قليلة قدراً من الاهتمام لم يحظ به أى فن آخر؟ وليس هذا سؤالاً صعباً إذا ما نظرنا إلى واقع حياتنا الثقافية، إن الانتشار المحدود للكلمة المطبوعة – سواء كانت رواية أو قصة أو شعرا، والذى يرجع لعوامل متشابكة لا مجال للحديث هنا "مثل انعدام التربية الثقافية الحقيقية فى مراحل التعليم المختلفة، وانتشار نوع من الثقافة الدنيا فى الصحافة وأجهزة الإعلام كالقصة البوليسية بدلاً من القصة الحقيقية، والأغنية السطحية بدلاً من الشعر. إلخ".
هذا الوضع قد أدى إلى فرض نوع من العزلة على هذه الفنون الأدبية وعلى منتجيها. أصبح الروائى والقصاص يعرف أنه يخاطب جمهوراً مثقفاً محدوداً للغاية، وألا أمل له فى تجاوز هذا الوضع. اتجه الفنان كلية إلى هذا الجمهور المحدود فحققت هذه الفنون درجة كبيرة من التطور التكنيكى عند أفضل كتابها، ولكنها أصبحت أكثر بعداً ومنالاً من الجمهور العريض الذى لم يعد يفهم لغة أو تكنيك هؤلاء الفنانين. وبالعكس من ذلك فإن السينما قد نجحت فى أن تحقق الانتشار الجماهيرى الواسع النطاق، ولكنها حصنت نفسها منذ أمد بعيد ضد الفن، وكرست جهدها كله للربح فلم يعد من الممكن اعتبارها نوعاً من الثقافة بقدر ما هى عائق ضد الثقافة.
وفى مقابل هذا الوضع الموئس برز المسرح منذ سنوات – لا تزيد كثيراً عن العشر – ليحل هذا التناقض المتعسف بين الثقافة والجمهور، ويرجع الفضل فى هذا إلى حماس مجموعة من المثقفين الذين أحبوا المسرح، وكتبوا له فكان لهم شرف الريادة فى إعادة خلق المسرح المصرى. لقد أدركوا متطلبات وضرورات هذا الفن الذى يحتم مشاركة الجمهور فى العمل .. فخاطبوا الجمهور بالأسلوب الذى يقبله ونجحوا من خلاله أن ينقلوا مفاهيمهم وفكرهم. وعن طريق المسرح – وحده تقريباً – تم الالتقاء بين الفنان والجمهور، واستطاع الفنان أن يلعب دوره باعتباره ضمير أمته.
من هنا كان حماس المثقفين للمسرح، ومن هنا احتضنت كل الأقلام والاصوات الواعية هذا الفن، واحتل المسرح فى صحافتنا ومجالاتنا الثقافية مكاناً يبدو من الخارج أكبر من حجمه. فلا المسرح هو أرقى فنوننا الأدبية من الناحية التكنيكية "القصة والشعر يفوقان فى هذا المجال" – ولا هو أكثر الفنون انتشاراً، فالسينما لا تزال تسبقه بمراحل ورغم ذلك فقد أصبح "أهمط فنوننا لأنه أصبح أكثر الفنون أداء لرسالة. بل أن هذه الميزة قد انقلبت إلى نقيضها فى بعض الأحيان، فأصبحت كل مسرحية جديدة تناقش، وكأنها تعليق سياسى أو اجتماعى على تفاصيل صغيرة، لا عملاً فنياً يتجه مباشرة إلى القيم والأسس. وبرغم هذا العيب – الذى تعود مسئوليته لبعض النقاد لا للفنانين – فإن المسرح ظل يواصل تقدمه باعتباره أكثر الفنون الحقيقية جماهيرية وتأثيراً.
عطل هذا التقدم لفترة – وأوشك أن يعطله تماماً – استغلال نجاح المسرح للأغراض التجارية والنفعية. فعقب نشوء المسرح كظاهرة ثقافية وليس قبل ذلك – بدأت فرق المسرح التجارى والترفيهى تنتشر وتتكاثر. واستطاعت هذه الفرق التى ترتكز على تراث عريض من النظر إلى الفنون كتسال – استطاعت أن تجتذب جمهوراً كبيراً بالـــ " ثلاث ساعات من الضحك المتواصل" و الـــــ "النجم المحبوب والنجمة المحبوبة" .. إلخ. ولكن المسرح الحقيقى تمكن من الصمود – بالكاد – فى هذه المنافسة غير المتكافئة – ظلت أصوات النقاد والمثقفين الواعين تحمى المسرح الجاد فى مقابل ترويج كتاب الطقاطيق الصحفية للمسرح التجارى والترفيهى. وبدا أن المسرح الحقيقى يكسب أرضاً جديدة باستمرار. فقد نجح الرأى العام المثقف مثلاً فى وقف الهزل الذى كانت تتفق عليه المؤسسة تحت اسم "المسرح الكوميدى" ونجح فى طرد عناصر التهريج من هذا المسرح، وبدأ المسرح الكوميدى "محاولة متعثرة، ولكنها ملحوظة" للسير فى ركاب المسرح الحقيقى. وبدا لكل إنسان أن المسرح يؤكد وجوده كظاهرة ثقافية جماهيرية وصحية.
ولكن شيئاً غريباً بدا يحدث منذ الموسم الماضى، واستمر فى هذا الموسم. عاد المسرح الجاد يتقلص ثانية لينتشر ويستشرى المسرح التجارى بمفاهيمه الفنية والفكرية والمتخلفة، ولست أشير هنا إلى ضم بعض فرق المؤسسة أو إلغائها – فهذا أمر يمكن فهمه على ضوء الظروف الاقتصادية التى تحتمها المرحلة الراهنة. ولكننى أشير إلى فقدان الجماهير للاهتمام بالمسرح الجاد وانصرافها إلى المسارح الترفيهية التجارية، وهو أمر طالما أشارت إليه – الكاتب – فى الموسم الماضى. وقد تكون هناك مبررات عديدة لهذا الوضع. ولكن من أبرزها فى تقديرى هو أن الجمهور لم يعد يجد فى المسرح الجاد اهتماماً فعلياً بقضاياه الخطرة الراهنة. ومع تضاؤل اهتمام الجماهير بالمسرح الحقيقى. تضاءل أيضاً اهتمام النقاد والكتاب الواعين فى الصحافة وغيرها من المجالات. فبينما استشرى كتاب كتاب الطقاطيق الصحفية فى دعايتهم للمسرح التجارى وتتبعهم لأخبار نجومه وحواديته أصبحت الكتابات النقدية عن المسرح الجاد تفتقر إلى الحماس والعمق.
ونتيجة ذلك كله هو ما نجده فى هذا الموسم من ظواهر غريبة متعددة. لقد افتتح المسرح الكوميدى موسمه مثلاً بمسرحية من أجمل ما قدم المسرح المصرى على الإطلاق. هى مسرحية على جناح التبريزى وتابعه قفة لألفريد فرج، وجاء عرض هذه المسرحية فى وقت امتلأت فيه المسارح التجارية بغث مسرحى تعززه دعابات ملتهبة. ولم يقم النقد الجاد مطلقاً بدوره فى لفت الأنظار إلى هذا العمل أو إلى قيمته الإيجابية باستثناء تمتمات نقدية عن براعة ألفريد فرج فى مسرحة موضوعات ألف ليلة وليلة. هذا بالرغم من أن المسرحية إن كانت تنتسب إلى ألف ليلة بجوها وبعض وقائعها فإنها تمت بصلة أقوى إلى موضوعات ملحة من خلف قناعها الفنتازى – من بينها على وجه التأكيد موضوع الاشتراكية كقيمة إنسانية مطلقة. وما أحوجنا إلى تأكيد هذه القيمة الآن. ولكن مسرحية على جناح التبريزى بكل نجاحها الفنى وثرائها الفكرى ظهرت واختفت من على المسرح دون أن تلقى ولو جانبا ضئيلاً من الاهتمام الذى حظيت به مسرحية مثل – لنقل مثلاً "سيدتى الجميلة" التى أشاد بها كل من يحمل قلماً فى أى مكان وبدلاً من الحديث عن القيمة الفنية والفكرية للمسرحية التى أخرجها عبد الرحيم الزرقانى إخراجاً أميناً ووفياً لفكرها – انصب حديث النقاد على فقر الإمكانيات الفنية فى إخراج المسرحية "فى الديكور والرقصات وغير ذلك" وعندى أن هذا التقشف فى العرض المسرحى هو ميزة تضاف إلى إخراج المسرحية فى هذه الظروف التى ينبغى أن تتقشف فيها المؤسسة لتعيش.
هذا عن المسرح الجاد وما يعانيه، ولكن ماذا يحدث فى المسرح التجارى والفرق الخاصة لنأخذ مثالاً من فرقة المسرح الحر التى يذكر لها الجميع دورها الرائد فى المسرح المصرى – فهى الفرقة التى قدمت للجمهور نعمان عاشور، وأسهمت فى بدء عهد جديد للمسرح المصرى، وهى باستثناء فرقة الريحانى المتحفية – أعرق الفرق الخاصة التى تعمل فى السوق. لقد رحب الجميع بعودة المسرح الحر بعد غيبته الطويلة وراحوا يمنون أنفسهم بأن يجدد المسرح الحر نفسه، ويجدد نجاحه بأن يقدم بأن يقدم شيئاً يلائم ظروف المجتمع وظروف المسرح المتطورة ... ولكن ما نجح فيه المسرح الحر مع الاسف هو انتزاع الحسرة والأسى ممن رحبوا بعودته. لقد عادت الفرقة كما يبدو لتجدد أكثر المفاهيم المسرحية والفنية ابتذالا، ولم تستطع مسرحية "برعى بعد التحسينات" لفاروق حلمى مجرد منافسة المسارح التجارية الأخرى لغثاثتها وركاكتها من حيث الفكر والبناء والتمثيل والديكور على حد سواء. ويكفى أن تعلم أن الستار يرفع ويسدل فى أحد المشاهد المسرحية لتشاهد ممثلة "لا راقصة" تؤدى فاصلاً من الرقص البلدى على المسرح، وأن الأستاذ عبد المنعم مدبولى قد أضاف بعض لمساته الإخراجية "الرقيقة" للإضحاك من بينها مثلاً ممثل يمشى على المسرح مقيعاً كالقرد ويبصق من فمه كل ما يشرب بصورة مغثية. لقد كان "المسرح الحر" فى أذهاننا ذكرى طيبة لجماعة من الفنانين، الذين كرسوا أنفسهم للمسرح وأحدثوا فيه أثراُ، ولكن العرض الذى استهل به نشاطه بعد عودته يجعل الإنسان يراجع هذا الحكم نفسه.
هذا هو حال الفرق الخاصة فى أعرق وأشهر فرقها الآن، مسرح لا يشغل نفسه بشىء خارج نطاق الريحن ويهدد بالقضاء على كل كسب حققته الثقافة للمسرح أو حققه المسرح للثقافة. ولا يكمن التهديد فى وجود مثل هذه الفرق فى حد ذاتها كما ذكرت، وإنما يتمثل الخطر فى انتشارها واسع النطاق الذى يصحبه تقلص ملحوظ فى نشاط المسرح الجاد والاهتمام به. ونتيجة للشعور بهذا الخطر ورغبة فى تأكيد وجود المسرح الجاد قامت جماعات من محبى المسرح بمحاولات وجهود ذاتية لحل الأزمة. ومن هنا نشأت فكرة "مسرح المائة كرسى" ومشروع نادى المسرح التابع لنقابة الصحفيين، ومشاريع فرق "الطليعة" فى داخل فرق المؤسسة.
المصدر / كتاب - بهاء طاهر ناقداً مسرحياً
إعداد وتقديم / شعبان يوسف
ساحة النقاش