عندما يعود المسرح إلى شارعه ، يعود الشارع إليه ، وهو أمر بديهي ، فالعلاقة بينهما تبادلية وتفاعلية ، فقد تفجر حضور المسرح عبر التاريخ في الشارع ، حتى اغتالته المعابد زمنا ، على أرض الفراعين وفى أوربا العصور المظلمة والعالم العربي لقرون طويلة ، وما أن عاد للشارع بفرقه الجوالة وعروضه الصاخبة في عصور النهضة الحقيقية ، مستخدما فنون الرقص والغناء وألعاب الأكروبات وسلاطة لسان المهرجين الساخرين من أوضاع مجتمعاتهم ، حتى عادت السلطات لحبسه داخل دور العرض المغلقة ، وقلمت الأجهزة الرقابية أظافره ، ووجهت النخب الثقافية تياراته الثورية نحو صفوة متعالية على جماهيرها ، فصار تجريديا وتجريبيا وملغزا، فهجر صالاته حتى جمهوره المنتخب هذا ، بعد أن عجزت فضاءاته عن تقديم ما يمتع وجدان مجتمعها ويمس قلبه ويثرى معرفته بالعالم 0
مع هذه العودة من المسرح للشارع ، يعود الشارع إليه بهمومه وقضاياه وبساطة لغته ، عبر ممثليه ونشطائه وحكاياته اليومية الممسرحة ، التي قد لا تعيش غير يومها ، لكنها تلامس العصب العاري ، ملبية احتياجا من الشارع لتحويل مناقشات المقهى والبيت والنادي وبرامج التوك شو إلى حوارات عامة في صورة فنية في الشارع ، وصادمة في ذات الوقت أفق توقعاته لتحريضه على الحركة لتغيير نهايات الحكايات المقدمة لأفعال فعلية على أرض الواقع ، دون أن تنسى ، أو يجب ألا تنسى ، أن المسرح قد تطور عبر تاريخه الطويل ، وصار فنا له معاييره وقواعده ، فلم يعد مجرد فرجة على تشخيص متقن وهازل ، بل أضحى فنا يجمع فى عروضه فنونا سابقة عليه وأخرى لاحقة له ، وأمسى بناء جماليا يعرف قيمة الحدث والتطور والشخصية والخاتمة المنطقية الحاسمة ، مما يجعل لمسرح الشارع حضورا موازيا لمسارح دور العرض ، وليس بديلا عنها ، ينتزع منها سخونة المواجهة ، ويترك لها عميق التحليل والتفسير 0
من هنا كان لابد وأن يعود مسرح الشارع فى مصر قبل ثورته الأخيرة ، وأن يشاركها فى شتاء الغضب العربى فعل زلزلة النظام وإسقاطه ، محققا قبلها حضورا ملموسا ، وساعيا بعدها للاستمرار بهدف الكشف عن الأخطاء التى قد تودى بها وتحرفها عن مسارها المنشود 0 ومن هنا أيضا جاءت مشاركة فرقة مصرية صغيرة ، من بسطاء مدينة السويس ، بالدورة الثالثة للمهرجان الدولى لمسرح الشارع ببلدة (دربندخان) التابعة كمركز قضاء لمحافظة (السليمانية) بإقليم كردستان العراق ، والقريبة من الحدود الإيرانية ، والذى يشرف عليه السيد "عباس عبد الرزاق" مدير دائرة الثقافة والفنون في السليمانية ، والسيد "حسن محمد صالح" مدير الثقافة بدربندخان ، والسيد "سردار تقى محمد" قائمقام قضاء دربندخان ، وذلك مشاركة ل 18 فرقة مسرحية ، ثلاثة من ألمانيا وإيران وبولندا ، وكانت هناك فرقة تركية أعجزتها ظروفها الخاصة عن المشاركة ، و 15 فرقة عراقية قادمة أغلبها من شماله ، ولذلك يتحدث معظمها باللغة الكردية ، والتى هى لغة المهرجان والإقليم كله ، وذلك احتفاء بحضور المسرح فى حديقة البلدة وشوارعها المحيطة بها ، وفى التعبير بوجهات نظر متعددة لواقع الحياة فى كل مجتمع قادمة منه هذه العروض 0
رجل الآلات
شاركت كلا من فرقتي (ميتانويا للمايم) البولندية و(ميتروكوليس) الألمانية برصيدهما فى فنى المايم والدمى ، فقدمت الأولى عرضا إيمائيا بعنوان (وجوه الحب) ، واستخدمت الثانية دميتين ضخمتين متحركتين بالعصي فى حفل افتتاح المهرجان صباحا ، فمنحته مذاقا خاصا ، برقص الدمى الألمانية على أنغام الأغانى الكردية ، ثم شاركت بعرضها (رجل الآلات) ، والمعتمد على قدرة الممثل البشرى على محاكاة الآلة فى حركتها ، وعلى التعامل مع البالونات المنفوخة بصورة مضحكة ، مع فصول مما هو معروف من رصيد مسرح المايم وبخاصة فى تعامل الممثل مع حوائط غير مرئية وأدوات غائبة يكشف عن مهاراته كممثل محترف 0
وشارك الفريق المصرى ، القادم من مدينة السويس ، والمكون من صاحب الفرقة وصائغ عروضها "محمد الجناينى" وزميليه "محمد شومان" وإسلام حسين" ، بتقديم عرض بعنوان (ملامحنا) تأليف "أحمد أبو سمرة" ، ترتدى فيه الشخصيات بصورة ثابتة زيا واحدا ومشتركا يحمل ألوان العلم المصرى ، وأن بدأت العرض بالممثل "شومان" ينقر على الدف بالجلباب البلدى ، والممثل "إسلام" فى زى المهرج جاذب الأطفال بحركاته البهلوانية ، وكذلك ظهور لزى نسائي استخدمه الممثل "الجناينى" فى تشخيصه لدور الفتاة الغائبة لظروفها الخاصة عن العرض بالمهرجان ، حتى لا يحمل العرض وجهة نظر ذكورية فقط ، فللفتاة المصرية مشاركتها الفاعلة فى شتاء الغضب العربى عامة ، وفى ثورة 25 يناير المصرية خاصة ، وعمل العرض المتحرك داخل دائرة صنعها ممثليه لتحكم فضاءهم المسرحى على تقديم رؤية الفريق الشاب الذى شارك فى ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث ، معتمدا على إعادة الوقائع التى حدثت ملونة برؤيته ، ومستخدما الأغانى الشعبية الخاصة بمدن قناة السوس ، والتى تصاحبها آلة الدف الجاذبة للجمهور والمؤثرة في وجدانه ، ليعيد زلزلة الأرض ، وينهى عمله بصرخة ألم لما وصلت إليه ثورة شبابية شعبية ، لم يقف طموحها عند حد إسقاط النظام فقط ، بل العمل على تغييره لما هو أفضل ، وميزة هذا العرض وفريقه أنهما لا يتفلسفان ، بل يعبران ببساطة عن هموم المواطن البسيط مثلهما ، ويقدمان أحلام الشرائح الدنيا التى دعمت فعل الثورة ، ولم تجن غير الحصرم واغتيال الحلم 0
تنازع القوميات والثقافات
يضم إقليم كردستان العراقى ذو الحكم الذاتى ، ثلاثة محافظات تسكنها أغلبية كردية ، هى (أربيل) أكبر المدن وعاصمة الإقليم الاقتصادية ، و(السليمانية) عاصمته الثقافية ، و(دهوق) المشهورة بموقعها السياحى ، ويتم التنازع على محافظة (كركوك) النفطية والتى تضم عربا وأكرادا وتوركمان ، ومن هذه الأخيرة جاء عرض (الخاسرون) ، فكرة وإعداد وإخراج "كوسرت عبد الرحمن" ، ومن إنتاج مديرية ثقافة كركوك ، وهو يدور حول رجل يصل لمكان بالشارع ، جارا حقيبة ، يتركها منشغلا بالحديث بالتليفون حتى يختفى عن الأنظار ، فتصير الحقيبة مثيرة لكل المارين بالشارع ، ويبدأ التساؤل عما تحتويه بداخلها ، ويبدأ أحد الممثلين بسؤال الجمهور عما بداخلها ، ويوزع أوراقا لكتابة ما يخمنون وجوده بها ، وحين تتعدد الآراء ، تفتح الحقيبة لنجد بداخلها أوراقا تسجل حوادث حدثت بالمدينة فى يومين محددين ، كانفجار عبوات ناسفة ، والعثور على أسلحة مجهولة المصدر ، واغتيالات هنا وهناك ، ويصبح الشارع وسكانه من الخاسرين فى هذه العمليات الأرهابية التى تحركها أيدة غاشمة 0
ومن مدينة كفرى بمحافظة كركوك أيضا جأء العرض الأكثر جدلا ، والمعنون ب (البيت الساخن) ، وتتحدث شخصياته الرئيسة الثلاث باللغات العربية والكردية والتوركمانية ، لتمثل كل شخصية وجهة نظر الشريحة العرقية واللغوية العائشة داخل المحافظة ، بينما يتحدث الراوى وسارد الأحداث والمعلق عليها اللغة الكردية ، وينطلق الحدث الدرامى من محاولة رسم أحد الشباب لخريطة العراق وبداخلها إقليم كردستان المستقل ، وبداخله المحافظات الثلاث المعترف بها ، وحينما يبدأ فى كتابة أسم كركوك يضطرب الجو ، وتظهر شخصيات القوميات المتنازعة على المحافظة ، والتى تقدم كل واحد منها وجهة نظرها فى كون المحافظة عربية أو كردية أو تركمانية ، وتاريخ المكان وثقافته ولغته ، حتى تنفجر فجأة عبوة ناسفة بيد الإرهاب المتحركة فى كل مكان بالعراق ، ويموت الثلاثة ، ويربط الشاب الراصد للصراع أيديهم معا ، بينما يدخل الخريطة طفل يكمل كتابة اسم المحافظة باللون الأحمر ، لون الدم ، ويقوم الطفل بتوزيع أعلام كردستان على الحاضرين ، ويحركهم ليحيطوا الموتى بالأعلام مؤكدين عى كردية المحافظة ، وأن أخطأ الطفل فوضع الجمهور بأعلامه الكردية على حدود العراق كلها !!0
ومن داخل الإقليم أيضا يشارك فريق (حلبجة) بعرض (الموت الآخر) ، ويستثمر فيه واقعة اعتداء نظام صدام الديكتاتورى السابق على مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية ، والتى صارت لبشاعتها كمذبحة إنسانية وقومية ذكرى متجددة بعقل المجتمع الكردى ، وأثرا ماثلا على الأرض بمتحف يضم مقابر ورفات وصور المبادين فى الهولوكست الكردى ، كما ظلت قضية أساسية تعبر عنها الأفلام القليلة والعروض المسرحية التى لا تغيب المأساة أبدا عن فضاءاتها ، حتى تحول نظام الطاغية صدام وجيشه المنفذ لأوامره متماهيا فى صورة العربى المنتهك لحرمة الوطن الكردى ، والمغتال لناسه ، والمدمر لهويته ، وقد قدم العرض مشهدا صريحا لاغتصاب عربى لفتاة كردية ، ميتدعى من الذاكرة لتثبيته على أرض الواقع ، كما أدخل لساحة العرض أربعة نعوش ، تحمل ثلاثة منها أجزاء متناثرة من الجسد الكردى ، ويخرج من الرابع رجل شيعى ، ليؤكد على أنه عانى أيضا من هذا العربى المسلم السنى ، الذى فرق على أرض الوطن بين العربى السنى والعربى الشيعى والكردى ، رغم إيمان الثلاثة بالإسلام ، لكنها الحقيقة الماثلة منذ سنوات على أرض العراق ، والتى تبرز برأسها اليوم فى أكثر من بلد عربى ، وتبدو مصر مرشحة لها0
قدمت فرقة مدينة (رانية) بالسليمانية عرضا خفيفا بعنوان (أيها الإمبراطور الخامس) ، تمحور حول هروب شخص من مستشفى للأمراض العقلية فيما يبدو ، ويأتى لدائرة العرض صاعدا إلى أعلى سلم ، ميتقرا بأعلاه دون قدرة المطاردين له على الوصول إليه ، ومن إجل إنزاله يطالبونه بما يريد أن يحققوه له ، فيطلب منصبا عاليا ، يتدرج رفضه من الدنى حتى منصب الإمبراطور فيقبله مهللا ، ويهبط ليعودون به لمقر هروبه ،
حوار الناس
أما فرقة كربلاء المسرحية ، وهى الفرقة العراقية الوحيدة القادمة من جنوب البلاد ، والوحيدة لذلك المتحدث عرضها باللغة العربية ، إلى جانب مصر طبعا ، ودون غض النظر عن تحدث شخصية واحدة فى عرض كفرى بالعربية ، فقد قدمت بعرضها المتميز (همس الرصيف) مشكلة النظام الاقتصادى والاجتماعى فى العراق ، وفى كل الوطن العربى ، حيث تدفع المدارس والجامعات سنويا بملايين العاطلين إلى الشارع ، ليجلسوا على الرصيف ، الذى لم يعد دوره تأمين السائرين عليه جيئة وذهابا ، بل صار موطنا لهؤلاء العاطلين الذين يحلمون بالعمل والزواج والاستقرار ، ويصرخون فى الواقع وداخل ساحة العرض المسرحى طالبين حقهم فى الحياة الكريمة 0
يشكل الحوار مع الجمهور أحد أبرز دعائم مسرح الشارع ، ويستخدمه الممثلون فى جذب الجمهور والتشابك معه ، وأحيانا استفزازه لإخراجه من حالة المشاهدة السلبية للعرض ، إلى حالة المشاركة فيه ، وأن مازال حلم تدخل الجمهور فى العرض إلى درجة تغيير مساره ونهايته أمرا بعيد المنال ، لطبيعة الجمهور العربى وإدراكه لحقه فى تغيير مسرحه وواقعه بالحوار البناء ، ولطبيعة صناع العرض الذين مازالوا يعتقدون أنهم سلطة فوق سلطة الشارع ، يحرضونه دون أن يرضخوا لآرائه ، وهى جزء من أزمة الفنان العربى المثقف مع مجتمعه 0 وقد حرص العرض المصرى على التشابك مع جمهوره ، رغم غيبة التواصل اللغوي ، فغالبية الحضور ، خاصة الأجيال الجديدة ، لا يتحدثون غير الكردية ، التى صارت لغة التعليم والدراسة والحياة فى كردستان ، ولذا كان الفريق المصرى يختار من هم فوق الأربعين للحوار معهم ، لمعرفتهم باللغة العربية ، ودار الحوار دائما حول المفاهيم التى يطرحها العرض المصرى ، مثل الحرية والكرامة والثورية 0 بينما خاطب عرض كركوك جمهوره الشاب باللغة الكردية ، فى استفتاء معروفه نتيجته حول كردية كركوك أم عروبتها أو تركمانيتها ، على حين لم يستطع ممثل الثقافتين الأخريين أن يستقطب هذا الجمهور الشاب ، لعدم معرفته باللغتين المتحدثين بها 0 ونجحت عروض أخرى فى استخدام الأغانى والأناشيد الكردية لدفع المشاهد التى يعرفها لمشاركتهم الغناء ، وجذبت عروض الدمى أطفال المدارس المحيطين بالعروض ، ونجح المهرجان فى إحداث حالة من الحراك وسط المدينة ، وأن يثير وعى المواطن العادى حول المسرح وأهميته فى مجتمعه ، وهو أمر شديد الأهمية اليوم ، فالمسرح هو نتاج المجتمعات الديمقراطية ، وهو معلم مجتمعه قيمة الحوار ، واحترام الرأى الآخر 0
المصدر / دربندخان - د0 حسن عطية
المعهد العالى للفنون المسرحية
اكاديمية الفنون
ساحة النقاش