ناجى العتريس
قال الناقد الكبير رجاء النقاش ألحانه مثل العصافير التي تنتقل من غصن إلى غصن دون جمارك أو تأشيرة دخول، كان صوته يشبه ألحانه فهو صوت من أصوات الطبيعة مثل حفيف الأشجار ونسيم العصاري في أيام الربيع وخرير الماء في القنوات والجداول
كان فنانا شاملا سابقا لعصره بمعنى الكلمة ولم يتكرر رغم مرور السنين على وفاته، ولم يستطع أحد أن يملأ مكانه، فهو ماركة مسجلة من الصعب تقليدها وربما يرجع ذلك لبساطته ويسره وأسلوبه الأخاذ فهو يغنى ويلحن ويمثل وكأن المسالة "شكة دبوس" تستمع إليه فيرفعك إلى سماء من العذوبة والرشاقة وخفة الدم التي لم ينافسه فيها أحد، عشقه الجميع أطفال وشباب وكهول، فالتلقائية التي يتمتع بها تجعله ينفذ إلى قلبك دون "إحم ولا دستور".
وكلما مرت السنون ازاد فنه تألقا وزاد الإقبال عليه في زمن أخذ فيه معنى الأغنية الشبابية معنى آخر مليئا بالابتذال والعرى واللا مؤاخذة!
حفيف الأشجار
قال عنه الناقد الكبير الراحل رجاء النقاش" ألحان محمد فوزي مثل العصافير التي تنتقل من غصن إلى غصن دون جمارك أو تأشيرة دخول وخروج وصوته يشبه ألحانه، فهو صوت من أصوات الطبيعة مثل : حفيف الأشجار ونسيم العصارى في أيام الربيع وخرير المياه في القنوات الصغيرة، إنه صوت خارج من القلب فيه جمال سهل بلا تعقيد، وهو يشبه جمال البنت الريفية العفية التي لا تعرف من المساحيق أكثر من كحل العيون".
وعلى الرغم من أن محمد فوزي ظهر في عصر كان يعج بالكثيرين من أصحاب المواهب الحقيقية كالسنباطى وزكريا أحمد وعبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم إلا أنه حفر لنفسه مكانا وسطهم وتميز بأسلوب مختلف عنهم لأنه لا يقلد أحدا ومن الصعب أيضا تقليده.
ولد محمد فوزي حبس الحو في قرية " كفر أبو جندي" مركز طنطا محافظة الغربية عام 1920 وعشق الغناء منذ صغره وورث حلاوة الصوت عن والده، والطريف أنه تعلم أصول الموسيقى وقواعدها وكتابة النوتات على يد عسكري مطافي في طنطا أثناء دراسته الابتدائية، وذاع صيته كمطرب أثناء دراسته الثانوية في حفلات مدرسة والموالد وأدى انشغاله بالموسيقى والغناء بالموالد إلى فشله في الحصول على الشهادة التوجيهية، وذات مرة وأثناء مولد السيد البدوي استمع إليه الملحن مصطفى العقاد الذي كان يعمل ضابطا للإيقاع بمعهد الموسيقى العربية، وأعجبه صوته وساعده على الالتحاق بالمعهد في منتصف الثلاثينات وأثناء دراسته بالمعهد التحق للعمل كمطرب بفرقة بديعة مصابنى وظل يعمل بها سنوات حتى قدم استقالته منها بسبب قيام صاحبة الفرقة بطرد الراقصة "لولا" التي كانت أول حب في حياة فوزي وترك الفرقة تضامنا معها، وانتقل للعمل في فرقة فاطمة رشدي ثم تركها بعد عام ليلتحق بالفرقة القومية المصرية ليكون بديلا للمطرب إبراهيم حمودة في حالة تخلفه عن الغناء في مسرحية شهرزاد، وحدث أن مرض إبراهيم حمودة ليلة الافتتاح وصعد محمد فوزي إلى خشبة المسرح ونسي أجزاء كثيرة من الحوار واضطر للارتجال ورغم تقبل الجمهور لروحه المرحة وخفة دمه إلا أنه ترك المسرح بسبب إحساسه بالفشل وعاد للعمل كمطرب.
ممثل ثانوي
وفى هذه الفترة اكتشفه يوسف وهبي كممثل وأسند له دورا ثانويا في فيلم "سيف الجلاد" عام 1944 وهو أول عمل سينمائي يشارك فيه وأخذ عنه ثمانين جنيها، ثم توالت مشاركاته السينمائية حتى انه شارك في ستة وثلاثين فيلما أمام أغلب نجوم عصره كفاتن حمامة وشادية ومديحه يسري وليلي مراد ومارى كوين وغيرهن ومعظم أفلامه كانت ناجحة لخفة دمه وتلقائيته وكان له الفضل في اكتشاف المطربة الرائعة المحبوبة شادية وقدمها للعمل في أول الأفلام التي قام بإنتاجها وهو "العقل في إجازة" وجعلها تغنى أغاني خفيفة تتناسب مع صوتها الرقيق والذي يتمتع بخفة دم كمكتشفها، وبالفعل نجحت شادية نجاحا هائلا في هذا اللون من الأغاني، المدهش أن محمد فوزي كان معارضا بشدة لعمل شقيقته هدى سلطان في مجال الفن إلا أنه قبل بعد ذلك وقام بتلحين العديد من الأغاني الشهيرة لها منها :" ياضاربن الودع" و"عمري ما دقت الحب" و"محسودة" و"ياحلاوة الورد" وغيرها.
تعاونيازي مصطفى وغيرهما وتعامل أيضا مع أشهر كتاب السيناريو كبديع خيري وعلى الزرقانى وأبو السعود الإبياري ويوسف عز الدين عيسى والعجيب أن محمد فوزي رغم شهرته كمطرب إلا أنه رسب في اختبارات القبول كمطرب بالإذاعة المصرية واعتمده ملحنا فقط ولم يدخل الإذاعة كمطرب إلا بعد قيام ثورة 1952. مل فوزي مع أشهر مخرجي عصره كمحمد كريم ولمحمد فوزي رصيد ضخم من الأغاني ما بين أغاني الأفلام والأوبريتات والأغاني الفردية وله ريادات عديدة قدمها لعالم الفن والغناء والتمثيل فقد كان أول مطرب يهتم بأغاني الأطفال وقدم اثنان من أشهر أغاني الأطفال في تاريخ الأغنية المصرية وهما " ماما زمانها جاية" و"طلع الفجر" وأيضا قدم فوزي لشهر رمضان واحدة من أشهر الأغنيات وهى" هاتوا الفوانيس" وأغنية عن المسحراتي "يا عباد الله وحدوا الله" وهو أول من قدم الأغاني الفرانكو أراب" يا مصطفى يامصطفى" و"فطومة" و"للعرايس والعرسان قدم" و" ياولاد بلدنا يوم الخميس هاكتب كتابي وابقي عريس" وفى مجال الأغنية الوطنية قدم" بلدي أحببتك يا بلدي" وفى المجال الديني" إلهنا ما أعدلك"و" ياتواب ياغفور"، وهو أول من قدم فيلما ملونا في تاريخ السينما العربية حيث قدم فيلم " نهاية قصة" وهو أول من قدم أغنية بدون فرقة موسيقية ومع الكورال فقط وهى أغنية "كلمني..طمنى" وقدم للجزائر نشيدها القومي، اى أنه كان سباقا في شتى ألوان الأغنية، أنشأ فوزي أول مصنع للأسطوانات في الشرق وحمل المصنع اسم "مصرفون"وأممته الدولة مع صدور قرارات التأميم وكان المصنع هو نواة شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات.
وعن حياته الخاصة تزوج محمد ثلاث مرات الأولى من السيدة هداية وأنجب منها أولاده نبيل وسمير ومنير والثانية من الفنانة مديحة يسري وأنجب منها عمرو ووفاء والثالثة كريمة الشهيرة بفاتنة المعادى ولم ينجب منها، أحب فوزي كثيرا لأنه كان يستمد فنه من حبه للحب والجمال والمرأة!
ابن البلد
وكان في حياته ابن بلد كريم ويرد الظلم ما استطاع إلى ذلك سبيلا ولم يحمل حقدا لأحد ويقال إنه هو الذي عرف المبدع بليغ حمدي على كوكب الشرق أم كلثوم لينجب هذا التعارف أغنيات مازلنا نعيش عليها.
أصيب محمد فوزي بمرض غريب احتار الأطباء في تشخيصه وسافر للعلاج في ألمانيا وانجلترا وأمريكا وتدخلت أم كلثوم وعبد الوهاب لدى المشير عبد الحكيم عامر لعلاجه على نفقة الدولة وكانت أعراض المرض عبارة عن انخفاض مستمر في الوزن مع الآم شديدة في الجسم وقد تعرض للهزال الشديد لدرجة أن وزنه نقص من 77 إلى 40 كيلو فقط وأطلق الأطباء في أمريكا والذين أشرفوا على علاجه اسمه على هذا المرض، ومازال يعرف في الموسوعات الطبية باسم مرض محمد فوزي واستمر المرض نحو 5 سنوات حتى وافته المنية في 20 أكتوبر سنة 1966م عن عمر يناهز 46 عاما بعدما ترك لنا ألحانا وأغاني وأفلاما رائعة نعيش بها ومعها لحظات نادرة من المتعة والجمال وخفة الدم لننظف آذاننا وننقى أعيننا مما نسمعه ونراه الآن.
المصدر/ جريدة القاهرة
العدد/637-بتاريخ 28من أغسطس 2012
ساحة النقاش