أوبرا توسكا (حرب بين التقاليدية والتنويرية)
كمال الدين عيد
قدّمت دار الأوبرا ضمن برامجها الفنية عرضا أوبراليا (توسكا
Tosca) علي المسرح الكبير في خمسة عروض متتالية من الواضح أنه لا يجهل القيمة الدرامية لهذه المسرحية (توسكا) التي ألّفها – كدراما مسرحية الكاتب الفرنسي فكتوريان ساردو (1831 – 1908) Victorien Sardou? وكانت مناسبة تاريخية – واقعية تُسجل أحداثا أوروبية عالمية جسّدتها حروب بين العقيدة والتطور التنويري – التثقيفي بين عدة دول أوروبية خاصة في إيطاليا، وفرنسا، وإنجلترا. خلّدت هذه الحروب صورة واقعية بشعة للاستبداد والأثرة والقهر والوحشية، وتحكّم الساسة والطبقة الحاكمة، أرستقراطية ونبيلة، وأخري تنتمي إلي الرتب العالية والرفيعة فوق عنق الإنسان المعاصر.
الصراع التراجيدي آنذاك
هو صراع بين القديم والجديد، وبمعني آخر بين الديانة – الكاثوليكية والفلسفة، بين الغيبيات والواقعيات. تهدم الفلسفة منطق الأساطير والمعارف المخيفة المكتسبة بالخبرة أو بالمُعتقد الديني التقليدي. وقد هلّ علي العالم الأوروبي في القرن التاسع عشر الميلادي، إضافة إلي الثورة الرومانتيكية التي احتلت طوال القرن نفسه في الأدب والفن، وتحديدا في الفترة ما بين أعوام 1790? 1830 ميلادية. تغييرات عميقة وتجديدية أخذت مكانها في كل القارة الأوروبية وأمريكا، وخاصة بعد الاستقلال الأمريكي عن إنجلترا كحادثة ذات مغزي لتغيير طرق التفكير ونبذ التقاليديات بعيدا بعيدا عن الألقاب والممتلكات الموروثة بصفات النبيل، والبارون، والماركيز وغيرها من تفاهات شكلية – وتقليدية بشّر بها الإصلاح الديمقراطي الأمريكي آنذاك.
لجأ المفكرون الرومانتيكيون إلي التمرد علي كل ما هو أصولي ونموذجي، صراع جاءت به تعاليم الفلسفة لتحليل الواقع وعدم اللجوء إلي إصلاحات قديمة لا تفيد لا التقدم ولا العلوم الحديثة. خلل بين العلم وبين الإنسانيات التي تدعو إليها الروحانيات التقليدية. ما هو العلم؟ هو نظرية المعرفة – الإبستيمولوجي Epistempology لمعلومات تتوخي التحرّي عبر العقل + ارتياب وعدم ثقة في الأحاسيس والعواطف، لكن العقل يستطيع إدراك الحقيقة حين يحقق الحرص علي الأحاسيس.. بمعني أنه يُلقي ضوءًا يُنوّر به العالم والبشر. استند التنوير علي عشرات وعشرات من فلاسفة وكُتاب العالم الأوروبي، علي سبيل المثال لا الحصر (جون لوك، فرانسيس باكون، جان جاك روسو، إدجار آلان بو، لودفيج فان بيتهوفن).
الأوبرا توسكا
تجري أحداث الأوبرا في عام 1800 ميلادية. مكان الأحداث روما العاصمة الإيطالية، وعاصمة الفاتيكان. العرض الأول للأوبرا ليلة، 1 يناير من نفس عام 1900 ميلادية. تجري أحداث الفصل الأول في كنيسة سانت أندريا St. Andrea. ويقع الفصل الثاني في حجرة إرسكاربيا Scarpia إحدي قاعات قصر فرنيس Farnese، بينما يأتي مكان الفصل الثالث – الأخير في قلعة الملاك.
يتضمن المضمون الأوبرالي واقعية الحب الديني المحترم والخالص عند توسكا، في مقابل صراع الضغائن والحقد والأثرة الاستبدادية عند البارون سكاربيا (صورة مجازية لنابليون وعنفه وعجرفته في قارة أوروبا، بعد أن أعلن نابليون في الثاني من شهر نوفمبر عام 1804 ميلادية تنصيب نفسه إمبراطورا، وأين؟ في كاتدرائية نوتردام Notre dam. هذه الحادثة هي التي جعلت الموسيقي الألماني بيتهوفن يُمزق إهداءه الذي وضعه تكريما لنابليون في مقدمة سيمفونته الثالثة (البطولة Eroica).
تكشف الأوبرا أيضا خداع البارون إسكاربيا وتصديق المرأة المتدينة توسكا (رغم عملها كفنانة غنائية) بما يُوضح المستوي اللا أخلاقي لهذه الطبقات العالية، كما يُوضح في صراحة لا يقبل الشك سلوكياتهم وأكاذيبهم.
الآريات
المقصود بمصطلح Aria في الماضي هو (الأغنية Song ) في القرن 17) ميلادي) حيث كانت تصحب الأغنية بعض آلات العزف الموسيقي. وبدخول الـ (ريتور نيللو Ritornello ) وسط مقاطع شعر الأغنية، انفصلت الآريا عن الأغنية والشعر، واتخذت شكلها المعاصر كلحن موسيقي خالص خاص.
وأشهر أنواع الآريا هو النوع المعروف باسم (دا كابو آريا) Da- Capo Aria أي الآريا الرئيسية التي تطورت عبر العصور واكتملت بدخول الريستاتيفو Recitativo (كالآريات المكتملة في أعمال الألماني يوهان كريستيان باخ J.Ch.Bach خاصة في أعماله للكانتاتا. والآريا تتواجد في أعمال هاندل، موزارت.
تقدم الآريات في أوبرا توسكا زخمًا عاطفيا ناعما لكنه شديد القصة عظيم التأثير. لم يقف حد الإعجاز اللغوي عند الآريات، لكن كان علي امتداد الأوبرا بفضل كتابة الليبرتو (حوار الأوبرا) الدرامي الواقعي الذي أعدّه كل من لويجي إليكا، جوزيبي جياكوزا L. Illica? G.Giacosa. الجميل في الآريات (رغم غنائياتها) أنها حملت في الكثير عناصر التراجيديا والمأساة الواقعية لحب شريف طاهر.
أ – آريا: ارحلي يا توسكا، إسكاربيا سيغزو قلبك Va Tosca! Nel Tuo cour Sannida Scarpia.
ب – آريا: عشت للفن، عشتُ للحب Vissi D'artg, Vissi D'amore.
جـ - آريا: الخطاب، عندما كانت النجوم تتلألأ Elucevan Le Stgllg
د – آريا: الانسجام الخفي Recondita Armonia De Bellezze Diverse.
التحقيق الفني
سواء عند بوتشيني، أو عند المخرج المصري د. عبد الله سعد، فقد كان واضحا من تسلسل الأحداث فَهْم الإيطالي والمصري لظروف وأحوال العصر الذي قررت فيه المسرحية أولا، ثم الأوبرا ثانية. ومن المؤكد أن حادثة الإمبراطور نابليون بونابرت في مصر، ودخول جنوده إلي ساعة الأزهر دون أن يخلعوا أحذيتهم العسكرية الثقيلة ثقل احتلالهم، كانت هي الصورة المثلي لتعكس القسوة والسلطة، والعنجهية العسكرية التي حطمت دولا عديدة في العالم آنذاك، وفي عالمنا المعاصر أيضا.
غير أن الإثارة هنا واجبة إلي قيمة المناظر الأوبرالية، وشفافيتها الناعمة التي عكست برجوازية ورأسمالية القرن التاسع عشر والذي استكملت فيه الرأسمالية الصناعية غزوها لعالم الطبقات الوسطي والمتواضعة حتي ألغت وحطمت وجودها أمام بشرية العصر، وكانت سببا مباشرا في انطلاق ثورات التحرر علي النبلاء والعسكريين والطغاة، سواء في الثورة الفرنسية في القرن 18) ميلادي)، ثم الثورة البلشفية في القرن 20 ميلادي.
عكست الصورة علي المسرح، ديكورا، وإضاءة، وسينوغرافيا صورة هذه البرجوازية الكاذبة التي تفضحها حواراتها وكلماتها فضلا عن مضامينها الخاوية من العقل والمنطق، وحتي الذوق والطبيعة.
جماليات العرض الأوبرالي
لا جدال في أن الجماليات قد قدمت كل خطوطتها الفنية – والجمالية والتأثيرية، تقديما مُشرَّفًا للغاية. رأي أفلاطون في الموسيقي قوة ضاربة لوضع اليد علي الصفات (الأخلاقية) واستخدامها في تحقيق الأخلاق الصالحة (في الكتاب الثالث للجمهورية يدعو أفلاطون إلي استخدام المقامينْ الموسيقيين الدوري والفريجي Dorian, Phrygian وإهمال المقامينْ الأيوني، والليدي Ionian, Lydian علي اعتبار أن المقامينْ الأولينْ يفيضان بالروح العسكرية، وأن الاثنين الآخرين مليئان بالميوعة والابتذال.
إذن، تختلف الصورة الموسيقية في فن الموسيقي عادة مع الواقع المتأصل فينا كجماهير. فضلا عن جهلنا بتحديدات الموضوعات الموسيقية. ولأن هذه الموضوعات لا تظهر حقيقة في الفن. فمن مِناْ حين يسمع إلي الحركة الثانية من سيمفونية بيتهوفن الثالثة (البطولة) أن يُحدد موضوع موسيقاها بأنها (مارشي جنائزي يُحيي فيه بيتهوفن جثث الأبطال الذين يتساقطون في لوْح الشرف ومعارك التحرير حيث يُحمل البطل في موكب جنائزي إلي مثواه الأخير تُحيطه أفئدة الجماهير المحزونة وقد كلّت أذرعها وتعرّقت جفونها؟
تبادل الفنانون المصريون (نساء ورجالاً) تمثيل الشخصيات مع الضيوف من الخارج. وقد كان من حسن حظي أن شهدت ليلة الشخصيات المصرية. ليلة رائعة. أُحيي كل المشتركين، والكورس، وكورال الكنيسة، وأطفال مركز تنمية المواهب. وهذه إحدي ثمرات الاهتمام في العقد الأخير بالموسيقي وفنون الأوبرا.
عرض مُشّرف، وصعب التحقيق، لكن المخرج + قائد الأوركسترا قدمّاه بامتياز والحمد لله. بالتوفيق الدائم،
ساحة النقاش