محمود الحلواني
حين عرضت مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" في روما للمرة الأولي عام 1921، أثارت ضجة كبري، وانقسم الجمهور حيالها إلي فريقين، فريق يصفق تصفيقًا حادًا وفريق يصفر صفيرًا عاليًا ويرغي ويزيد، ويلعن المؤلف ويصمه بالجنون... وكذلك ظلت مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" فترة طويلة موضوع حديث النقاد الإيطاليين والأوروبيين علي السواء، الأمر الذي دعا بيرندلو نفسه إلي أن يكتب بحثًا طويلاً يرد فيه علي النقاد ويشرح المسرحية ويبين مذهبه في الأدب، وإلي أي مدرسة ينتمي، وهو البحث الذي تعيد نشره كاملاً سلسلة "من المسرح العالمي" الذي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت في عددها المزدوج "مايو ـ يوليو 2012 " بمناسبة إعادة نشرها لثلاثة من نصوص بيرندلو هي "ست شخصيات تبحث عن مؤلف، وكل شيخ وله طريقة، والليلة نرتجل" وهي النصوص التي استخدم فيها بيرندلو تقنية المسرح داخل المسرح. في مقدمته للنصوص يقول المترجم محمد إسماعيل محمد إن مشكلة الحقيقة هي المحور الأساسي الذي ارتكز عليه فن لويجي بيرندلو حيث عالج في الكثير من أعماله موضوعات الوجه والقناع، الحقيقة والخيال، الصدق والوهم، والإخلاص والتصنع، وفي رأي المترجم أن بيرندلو فعل ما سبق أن فعله الفيلسوف سقراط وقد قيل إنه أنزل الفلسفة من السماء إلي الأرض، كذلك فعل بيرندلو حيث جر الفلسفة إلي خشبة المسرح زاوج بينها وبين الإبداع الفني حين عالج في ثلاثيته التي أطلق عليها "المسرح داخل المسرح" مسألة أي العالمين أشد حقيقة: عالم الواقع أم عالم الخيال، العالم المادي الزائل أم الإبداع الفني الباقي، الحيثية الاجتماعية الفانية أم الشخصية المسرحية الخالدة. تؤكد هذه الثلاثية ـ من وجهة نظر المترجم ـ في كل حلقة من حلقاتها أن عالم الفن أثبت من عالم الواقع، وأن الوهم أصدق من الحقيقة، وذلك من خلال الصراع الذي ينشأ بين مختلف العناصر المشتركة في العمل الفني. في مقدمته يصل المترجم محمد إسماعيل محمد في عرضه الموجز للمسرحيات الثلاث وتحليل أحداثها ومحور الصراع فيها إلي أن الفكرة التي حاول المؤلف إثباتها في مسرحياته الثلاث هي أن ما يجري في عالم الفن أصدق وأبقي مما يجري في عالم الطبيعة أي أن الإيهام بالحقيقة أشد حقيقة من الحقيقة نفسها كما يشير إلي أن الدراما عند بيرندلو تنحو نحو الكشف عن مأساة الإنسان والصراع الذي يدور بينه وبين نفسه في سبيل معرفة الحقيقة، وفي سبيل التمييز بين الجوهر والمظهر، بين الحقيقي والزائف، بين الإخلاص والتصنع، كذلك خلص محمد إسماعيل محمد إلي أن بيرندلو توصل إلي عدة إجابات فيما يخص بحثه عن الحقيقة بدأها بأن قال في مسرحية "وفق تقديرك" بأن "الحقيقة المطلقة لا وجود لها، ولكن لكل إنسان حقيقته الخاصة التي يولدها في وهمه وفقًا لما يراه مناسبًا لحاله" وهو ما طوره وأكده في "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" بأن قال "إن الناس يؤمنون بحقيقة هي في الواقع من نسيج الخيال، وإن الحقيقة نسبية وتختلف من شخص إلي آخر" هذا قبل أن ينتهي في مسرحية "كل شيخ وله طريقة" إلي القول بأن "المعرفة مستحيلة، وأنه إن أمكن معرفة أي شيء فمن الصعب إيصال هذه المعرفة للآخرين، ومن المستحيل أيضًا أن تدوم هذه المعرفة. وفي رده علي نقاد مسرحيته "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" قال بيرندلو في بحثه المرفق بالكتاب: المسرحية تشكلت في ومضة تلقائية من ومضات الخيال حين تحدث المعجزة فتتجاوب كل عناصر النفس وتعمل في انسجام قدسي. فأي عقل بشري، مهما قدح زناده، مادام يعمل من دون حرارة، لا يفلح في النفاذ إلي كل الأعماق الفكرية، ويفشل في استجلاء جميع الصور الذهنية، قال أيضًا: كنت أريد أن أقدم ست شخصيات تبحث عن مؤلف، ولكن المسرحية عجزت بالفعل عن الظهور لعدم وجود المؤلف الذي تبحث عنه الشخصيات، أما المسرحية التي تظهر بدلاً منها فهي الكوميديا التي تتناول فشل الشخصيات في محاولتها العثور علي مؤلف، وما تتضمنه من عنصر المأساة لما منيت به هذه الشخصيات من رفض. الغلاف الأخير للكتاب يتحدث عن أن هذه الثلاثية ملتقي تيارات أدبية وفلسفية وعلمية شغلت بال الكتاب والمفكرين في الربع الأول من القرن العشرين، نجد فيها بصمات فرويد ويونج في علم النفس، وكيركجورد وهيدجر في الفلسفة الوجودية، بالإضافة إلي برجسون وبرناردشو ومارسيل بروست، كذلك هناك إشارة إلي تأثير بيرندلو في كتاب المسرح المرموقين أمثال يوجين أونيل وتورنتون وايلدر وجان جينية وجان آنوي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر / جريدة مسرحنا ، 6 سبتمبر 2012
ساحة النقاش