نجيب محفوظ .. المُعلم الأول في درس الرواية العربية
محمد محمد مستجاب ـ جريدة القاهرة ـ عدد 4 سبتمبر 2012
في ذكراه السادسة نتأمل نجيب محفوظ .. المُعلم الأول في درس الرواية العربية > منذ البداية كان نجيب محفوظ يحمل بداخله القاهرة.. يحملها كمكان واقعي أو افتراضي .. وكزمان قديم وحاضر وحديث > تعلمنا منه ان الأدب مجاهدة وعزيمة وصبر وحب ودأب.. لذا كان في محرابه ومكتبه وعمله كالمتصوف فهو المثابر والصابر حتي تكتمل فكرته علي الأوراق > هو المتطور دائماً والذي استثمر في رواياته مختلف الأساليب والتقنيات من تيار وعي إلي الفلاش باك السينمائي إلي الأصوات المتعددة إلي الحكاء المسيطر علي نصه وأبطاله > تجسيد الحارة في أدب محفوظ هو تجسيد لظاهرة اجتماعية قديمة في الشرق وهي قيام الإمبراطوريات وسقوطها بعوامل تظهر داخلها مدينة الكاتب هي نتاج لبصمات تركها المكان والزمان في روحه وعقله ووجدانه، وقد تكون هذه المدن معادلاً للسعادة أو المتعة أو الحب أو الانتماء أو النفور أو الاستيهام أو المعاناة أو المنفي أو الاختناق أو الحرب، كما أن المدينة بوصفها فضاء مكاني وزماني، ترتبط في الذاكرة والتاريخ والحضارة والجغرافيا والأدب والثقافة. وكما ارتبطت باريس ببودلير وكامي، وبراغ بكافكا، وبوليس أريس بماركيز، ولشبونة بيسوا، وأمريكا بهمنجواي، وطنجة بمحمد شكري، والدلتا بيوسف إدريس، وديروط الشريف بمستجاب، والنوبة بخليل قاسم وإدريس علي، وصحراء ليبيا بالكوني، فإن القاهرة ارتبطت ارتباطاً وثيقاُ بنجيب محفوظ. حواري القاهرة القاهرة هي مدينة الأمان واللاطمأنينة والمجد واللعنة الدائمة بالنسبة لنجيب محفوظ، وبفضله واجتهاده ودأبه في معرفة وشرح تفاصيلها وعرض جغرافيتها وتاريخها، وتشريح أشخاصها وحياتهم، ولجت عالم الأدب من بابه الشاسع، ولم تعد مدينة فحسب بل اختزلت أمَّة برمتها، واصبحت أمَّة نراها ونتلمسها ونشم رائحتها ونتخيلها ونعرف دقائقها وتفاصيلها، فخلدها وخلدته. ومنذ البداية كان نجيب محفوظ يحمل بداخله القاهرة، يحملها كمكان واقعي أو افتراضي، وكزمان قديم وحاضر وحديث، وبسببها أصبح نجيب محفوظ يحمل بداخله العديد من العواصف والأعاصير الرهيبة التي تأتي لتضاف فوق سطح أرض القاهرة أو يتفجر بالبراكين التي ترقد في أعماقها السحيقة، كان مثل عملاق طليق أو فتوة جبار أو موظف روتيني، يحط علي أي مكان بها فيرسمه بقلمه أو ينقشه بضربه نبوته أو يدمغه بختمه، يجعله ينبض بالحياة، عشقاً وحباً ونفوراً واستهجاناً وموتاً. نجيب محفوظ: ابن البلد والجدع والصاعقة والبرق الذي شطرنا نصفين ورفع رءوسنا إلي الأعالي وأضئنا للأبد وأغرقنا في رائحة أنفسنا إلي ما لانهاية، ومن خلاله تشم رائحة الحارة الرطبة الدافئة والتي هي أصل مصر أم الدنيا، تلك الرائحة التي تنفذ للخياشيم وللروح وللملامح وللحشايا فغرقنا فيها وأصبحت بطاقة تعريف لنا وتاج فوق رءوسنا، فلا ننساها مهما تجولنا وسافرنا وشاهدنا وتغربنا في البلدان والأماكن والقارات، رائحة حارة تحب وتعشق وتكره وتصرخ وتفكر وتخرج منها المظاهرات والأفكار ويختبئ فيها القتلة والصعاليك والثوريين والفدائيين والعشاق، ويمر بها كل لحظة تيارات من الخلق لا تنقطع، وأمواج من البشر لا تتوقف، فتشم رائحة زحامها وضجيجها وصمتها ومعاركها ونومها والعاب وصراخ وسباب أطفالها، تشم رائحة أرضها الرطبة والقذرة والمبللة بمياه الطرشي والغسيل والاستحمام والمتعة وتغسيل الموتي، تتلذذ انفك برائحة طشة الملوخية والطعمية الساخنة والمحشي والبخور والفلفل الأسود والشطة النافذة والمش الحارق، حارة تـأكل فيها ألذ طعمية وأشهي فول مدمس وأطعم كباب وأحسن نيفة وأمتع كوارع وأنفس لحمة رأس، وتشرب بها الشاي المخصوص والقهوة النادرة وتستمتع فيها بسحب أنفاس أحجار المعسل وتنتشي بشرب الحشيش المخلوط بالأفيون، حارة تري فيها نساء مختلفي الأحجام والأشكال فتجد من يملأن القلل ومن يجمعن الغسيل ومن يخرطن الملوخية ومن يقشرن البصل ومن يمشطن شعورهن ومن يفللن أبنائهن ومن ينتفن شعورهن بالحلاوة ومن يضبطن حواجبهن ومن يشعلن الوابور ومن يعجن العجين ومن يتعاركن ويسببن بعضهن ويشققن جلابيبهن، ووسط كل ذلك ستجد أحدهن تقف وترفع يدها وتدعو علي درتها التي سرقت زوجها. حارة تري فيها أجساد تتمايل وأرداف تتراقص وشعور مهوشة ومسبسبه وغارق في الجاز والفازلين والزيت، وتلمس فيها نهود تهتز وترتفع وتنخفض تقدم أشهي غذاء في الكون وهو لبن الأم وأشهي متعة وحضن لأي رجل، تجد فيها شفاه تقبل وتخبص وتصرخ وتدعو وتلثم، وأذان تنصت لكل دبيب الحياة ولكل نميمة ولكل صرخة ميلاد تبدأ، فيها أعناق تتمدد وتتطاول وتلامس السماء أو تنكمش وتتضاءل وتنقصف وتبتلعها الأرض، أعناق بها عناقيد الياقوت النادر والبلاستيك التافه والصفيح والذهب المغشوش والبراق، تبصمها أقدام مشققة ومحناه وموشومة ومرسومة، بها كفوف ناشفة وطرية، جبارة وحانية، تربت وتصفع، تداوي وتقتل، تري بها وجوه تحمل السمرة الطيبة والبياض الشفاف والشقاء النادر والأمل المستحيل وتجاعيد الزمان المحفورة، وجوه موصومة بالعار أو مختومة بالفقر أو مبتسمة بالأمل، وجوه مختفية خلف نقاب أو بيشه أو ملأه، أو صريحة وصارخة بحواجب تتراقص وعيون فاجرة تتكلم وتبتسم وترعب وتطلب، تظللها رموش في خجل أو مكر أو رغبة عارمة. حارة نهارها دائم وحياتها متصلة ليلاً ونهاراً، حارة عجوز ولا يصيب شعرها المشيب، شابة وعمرها أكثر من ألف عام، حارة قديمة ولا تري تعاريج الزمان علي وجهها، روحها شابة ولا تعرف عمرها، تسمع بها دقة الزار ودراويشها المجانين الذين لا يكفون عن الغناء، تشاهد فيها راقصة تتمايل وهي تجرب بدله رقص جديدة مزينة بالترتر والمقصب، وفرخه مذبوحة تفرفر وتنثر دمائها علي المارين والجدران، وتجد أوباشها وهم يتراقصون في زقاتها الفقيرة الغارقة في ألوان المسرة، حارة الكل فيها يتحدث ويغني وينم ويثرثر ويسب ويصافح ويتعارك ويلقي النكات ويصرخ ويبكي، يصدمك بها عامل يحمل خشبة عجين، أو أقفاص العيش، ويتم الضحك عليك وأنت تلعب الدومينو أو الطاولة، حارة مجذوبة وعاقلة ومخبولة وعاهرة ومؤمنة وفاجرة، بها قطط تمؤ وكلاب تنبح وعناكب وصراصير تخرفش وفئران تنطلق من الشقوق علي الجدران، وثعبان يزحف لمقابله عقربه أسفل عتبه سلم يقف فوقها حبيبان في قبله ساخنة. حارة لئيمة وخبيثة وناعسة وحبيبة، تعلمك أنه لا يختفي بها وفيها سر أو شيء وان طال كتمانه واختفاءه، تعلمك أن العمر واحد والرب واحد والمكتوب حتما تشوفه العين، تعطيك نصيحتها الخالدة: نصيبك في الدنيا لازم يصيبك، وتضحك عليك وتسخر منك وأنت تعتقد أنك استطعت أن تفهمها وتمسكها وتقبض عليها، تفضحك وتجرّسك وتلم عليك العالم إذا غدرت بها أو كرهتها أو تزوجت عليها. المجاهد ولقد حمل نجيب محفوظ كل ذلك وخاض به الحياة، خاضها ببراءة الأطفال وطموح الملائكة ودهاء الشياطين وتقلبات الساسة وحكمة العجائز وتهور الفتوات، وكتب عليه المغامرة والمقامرة وامتطاء المستحيل، فتعلمنا منه إن الأدب مجاهدة وعزيمة وصبر وحب ودأب، لذا كان في محرابه ومكتبه وعمله كالمتصوف، فهو المثابر والمهابر والصابر، حتي تكتمل فكرته علي الأوراق، يقدم لنا فيها شخصيات من لحم ودم، وأماكن نراها لأول مرة في كل مرة نقرأه فيها مع إننا نمر علي تلك الأماكن كل يوم. فهو الكاتب المدهش الفذ المُولع بتفاصيل ودقائق الحياة، وطقوسها، الصغيرة والكبيرة، التي نستطيع أن نمسكها والتي لا نستطيع أن نحس بها، انه يجسدها ويكتبها علي أوراقه، فتأخذك لغته الشعرية، وحواراته الذكية، وأسئلته العميقة، وشخصياته المحورية والثانوية والهامشية، الكل بطل، والكل تحت سيطرة قلمه وفكره، لا احد يشت أو يهرب، لذا جاءت رواياته مكتملة البناء، مكتملة بالفكر الذي يريد طرحه وتوصيله، للقارئ في رواياته وللمشاهد في أفلامه. نجيب محفوظ مرتبط بالقاهرة القديمة ووفي للزمن القديم، دخل معه في احلي حالة عشق للماضي كي يري مستقبل مصيره ومصير أمته وشعبها، لذا ظلت القاهرة العتيقة محور حبه ومنبع ألهامه وسبب شهرته، ظل مشدودا إلي الحواري والأزقة والأقبية، يعشق العرق علي الأحجار والثرثرة علي درجات السلالم والجهاد علي تراب تلك الحواري، ويحب أن يتشمم أنفاس بشرها، لقد جعل من الحارة صميم الجوهر، وقلب لجسد الوطن، وعقل للامة العربية، تري فيها قدرة الخالق وعظمته وعبث وجنون عبيده، تري فيها أعماق بشرها وتقلبات مخلقاتها، لقد علمنا وجعلنا ندرك ونفهم ونشم ونحس بالواقع، وأن نري ما لا يمكن أن تلحظه عين أو يدركه سمع، ونشعر بالزمان ككائن، ذلك الزمان الذي يفرق ويجمع، يحب ويكره، يقف ويتطور وينمو، مع تطور الشخصيات وتطور طموحاتهم. ونجيب محفوظ كان علي رأس المجاهدين الذين يؤمنون برسالة الأدب، فهو رجل يحب العلم ويحب الناس ويحب الحياة، والأدب عنده وسيلة من وسائل التحرير الكبري والعلم لديه أساس الحياة الحديثة، مؤمن بأنه ينبغي أن تكون الكتابة وسيلة محددة الهدف ويكون هدفها الأخير تطوير هذا العالم والصعود بالإنسان في سلم الرقي والتحرر، لذا كان حريصاً دائماً علي تطوير أدواته ولغته ومفرداته حيث يمزج العامي بالفصحي، والمرئي بالا مرئي والتراث بالواقع والخيال بالجنون. نجيب محفوظ صاحب الوجه الذي طالع الدنيا لما يقرب المائة عام، ومع أن الدنيا لا تدع وجهاً سالماً قرن من الزمان، إلا انه ضحك علي الزمان برواياته كي تظل حيه وشهية ومتجددة دائما، تقدم لك نفسها في كل مرة تقرأها فيها، وكل مرة تعطيك وجه وحكاية وروح جديدة، وهذه ميزة الإبداع وميزة نجيب محفوظ، انه متجدد دائما، يجعلك تعيش مع أبطاله وشخصياته وحواراتهم، يجعلك في مكان واضح ومتجسد، يجعل القارئ يعيش تلك اللحظات في أي مكان وزمان، داخل غرفة لوكاندة ميرامار أو مع التجار والباعة الجائلين والميني فاتورة في حواري الحسين والأزهر والجمالية أو بين بشوات وبهوات قصور السكاكيني والعباسية والزمالك، أو وسط حجرات الموظفين في الدواوين الحكومية، أو تجار المخدرات في الباطنية والدراسة أو بين قصور قادة الأمة في المنيرة ولاظوغلي ومجلس الشعب وقيادة الثورة، تعيش مع المسجونين والباحثين عن الحرية في معتقلات الكرنك والقلعة ووادي النطرون، أو وسط عوالم والآتية شارع محمد علي، لذا كان يضحك ويقول دائماً: كلما امتلأت الدنيا بالأطفال والمعتوهين والمجانين وتجار المخدرات والبائعين الجوالين والمتسولين وماسحي الأحذية: فالدنيا مازالت بخير، ويكمل : وسوف ينصلح حال البلد عندما يؤمن أهلها بان عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة واليوم لا تجد هذه الذكريات من يتذكرها أو يكتبها بتك الرائحة وهذه الروح، رحلت الحارة لأن كاتبها ومؤرخها رحل، فأصبحت الحارة حزينة لرحيله لأنه كان من عشاقها المخلصين، والحياة بها متوقفة لأنه كان حبيبها الأثير. هذا الحبيب الذي أحبته الدنيا بصدق، لأنه كان يحب أن يكون أديباً وليس أي شيء آخر، فأعطته ما لم تعطه لأي أديب أخر، الشهرة والوصول إلي اكبر قاعدة من الجماهير والقراء، أمدته بشرايين التوصيل والتواصل عبر العين والأذن، عبر الورقة والشاشة، لم تبخل عليه، قدمت له كل شيء، الكتاب في يد القارئ والفيلم في السينما والمسلسل في التليفزيون والحدوتة في الإذاعة، المرئي والمكتوب والمسموع، وإذا كان محفوظ قد رحب بالموت وبالنهاية في معظم أعماله، لذا فأن الآخرة تعشقه بجداره. نجيب محفوظ المجاهد في محراب الأدب، المتعبد في معابد الكتابة وفروعها، المخلص كما لم يخلص أحد، المواظب عليها كما لم يواظب أحد، المنجب منها كماً من الروايات كما لم ينجبه أحد، والذي نال شهرة لم يسعي إليها وكما لم يشتهر أحد، بل هي التي سعت إليه وطاردته. ولأنه مؤمن بعمله فقد كان مؤمن أن الأدب بقدر ما تعطيه وتحبه يعطيك أيضا ويمنحك ويحبك، إلا أنه ظل خلال أعماله يطرح الأسئلة التي كانت تشغل باله وفكره، أسئلة بسيطة وعميقة، فهو دائماً يتساءل: ما جدوي الحزن؟ وما فائدة السرور؟ وما مغزي القوة؟ وما معني الموت؟، لماذا يوجد مستحيل؟ وماذا يحدث بحارتنا اليوم - نعم - لقد اهلك الموت الحارة المصرية، لكنها باقية لنا في كتابته ورواياته وشخصياته التي نقراها ونراها ليل نهار. المعلم الأول نجيب محفوظ : المُعلم الأول في درس الرواية العربية، معلم لا يعنيه في عمله وعلمه ألا الإتقان أولاً وأخيراً، فهو رزقه وهي زوجته وما يصنعه هم أبناءه، ومن خلال هذا الإتقان كان يري المدارس الأدبية كلها ويري تحولاتها الكبري، لذا صنع أثاث وأعمدة الرواية العربية، ووضع الأساس القوي والحقيقي لها، أساس متين يتحمل كل أشكال البناء والزخرفة والحداثة وما بعد الحداثة الروائية، لقد أهّلَ محفوظ اللغة العربية لذلك فأصبحت كقوالب الطوب في البناء المعماري الروائي العربي كل، لأن الرواية تجربة لغوية وشكلية قبل أن تصبح تجربة في القص وفي الحكاية وفي المزيج الروائي، ليصبح لنا الرواية التي تكسر القيود وتحاول أن تصنع واقعا من حطام الواقع، ومنها اهدي لامته أعمالاً خالدة ورائدة في فن الرواية، من شأنها أن تجلو المضمر من تاريخ الحارة المصرية، والتي هي جزء لا يتجزأ من الحارة في كل مدينة عربية، فلا يوجد فرق بين حارة القاهرة أو الرباط أو بغداد أو دمشق، ومن هنا نبهنا مبكراً إلي خصوصيتنا العربية، ورائحتنا الخاصة، وأن الأدب هو كبد الحقيقة المرة، لذا أصلت رواياته للإبداع العربي، ورفعت عن كاهل الأدب العربي حالة الغبن والضعف والاستنساخ والاقتباس، وأصبح أدبه هدفاً يسعي إليه كل من يستخدم الحرف وسيلة للتعبير عن نفسه، والكلمات في صنع جملة لها خصوصيتها العربية. نجيب محفوظ : صاحب الوجه الأسمر المتفائل الباسم، والذي لم تفارق النكتة شفتيه، يقدم النموذج العالي في قوة الاحتمال، وفي الصبر علي الاستماع وفي تشجيع الحوار، الذي يسأل أكثر مما يجيب، لذا اشتهر انه كان صامتاً ومقتصد في الكلام، فهو مؤمن بأن الذين يتكلمون كثيراً يبددون طاقتهم في الثرثرة وفي التخلص مما كان من شأنه أن يتحول إلي أعمال إبداعية أو نقدية علي درجة عالية من الكمال، لذا كان لا يتحدث إلا علي الورق ومن خلال أماكنه وأبطاله وأشخاصه، يجسد صورة الإنسان الرقيق الحساس الذي يلوذ بأوراقه وكتبه ويقترب من عالم المتصوف بكل ما يزخر به ذلك العالم من إخلاص للعمل وزهد عن الملذات وعزوف عن المظاهر والتزييف والشهرة المجنونة، فلم يتطرق الغرور إلي نفسه يومًا. نجيب محفوظ المتطور دائماً والذي استثمر في رواياته مختلف الأساليب والتقنيات، من تيار وعي إلي الفلاش باك السينمائي إلي الأصوات المتعددة في الرواية إلي طريقة وجه النظر، وإلي الحكاء المسيطر علي نصه وأبطاله، وإلي الأسلوب الغرائبي والعجائبي، وإلي استحضار التراث في العمل الروائي برؤية جديدة للواقع المعاش، فهو - ومنذ البداية يتوجه برواياته إلي قارئ عربي قد لا تبهره الحداثة والتقنية بقدر ما تبهره صدق الرواية وواقعيتها، لقد جسد هذا الروائي الفذ بشكل دقيق عالم الطبقة الوسطي التي ينتمي إليها، مقرباً مناخها وملامحها من وجدان القارئ العربي في أي قطر كان، فأي قارئ في أي مكان عربي لا يشعر بالاغتراب وهو واقع ومنغمر في أجواء وأحداث رواياته. انه قادرة في اللحظة التي تفتح فيها غلاف احدي رواياته أي يأخذ بيد قارئه ويقوده وسط أزقه القاهرة ومقاهيها وأضرحتها وحواريها الشعبية، بل انه يجسد أجواء المدينة العربية الإسلامية بكل خصوصيتها، ليصبح ما فعله النموذج التطبيقي والأساسي لكل روائي عربي. واعتقد إن روايات نجيب محفوظ سوف تكون الدليل والمرشد لمجموعة كبيرة من الأثريين وعلماء الآثار، لأنها بمثابة خرائط مصورة ورسومات توضيحية لاماكن حقيقة أخذه في الاندثار، إن التنقيب عن الحارة المصرية يبدأ وينتهي عند نجيب محفوظ، تلك الحارة التي بدأت تضمحل وتغيب شخصياتها وأماكنها، وتذوب ملامحها بفعل التطور والتمدن الحديث. قيام الإمبراطوريات وسقوطها وإن تجسيد الحارة في أدب محفوظ هو تجسيد لظاهرة اجتماعية قديمة في الشرق، وهي قيام الإمبراطوريات وسقوطها بعوامل تظهر داخلها، لقد استطاع تسجيل هويتنا القومية روائياً، مما أدي إلي وصولها للعالمية، لذا كانت روايته محلية بنكهة شعبية بأنامل مصرية وروح عربية، روايات تري فيها رؤية كونية، ورؤية لتحولات حارة من الحارات في زمن منقرض، حيث تنمو قيم وتتبدل قيم، ويظهر بشر بدل آخرين، وتقام أماكن فوق خرائب، وتظهر زعامات جديدة بدلا من الآيلة للسقوط أو التي انسحقت بفعل وباء السلطة أو الانقلابات أو الثورات. وفي النهاية نصل إلي حكمه واحدة من كل ذلك: أن كل من يحاول أن يقترب من عالم الرواية الآن، أن تضع دائماً تجربة نجيب محفوظ الروائية نصب عينك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر / جريدة القاهرة ، 4 سبتمبر 2012
ساحة النقاش